إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمْلِ تفسيرًا للقرآن مطولًا أو مختصرًا، وإنما أثر عنه صلى الله عليه وسلم كلمات شريفة وجيزة عن هذه الآية أو تلك، ومن الحق أن سلوك رسول الله صلى الله عليه وسلم كان تفسيرًا للقرآن.
ولقد كان خلقه صلوات الله وسلامه عليه القرآن، كما قالت السيدة عائشة رضوان الله عليها.
ومن الحق أن نقول إن أحاديثه صلى الله عليه وسلم كانت تفسيرًا للقرآن من قريب أو من بعيد، ولا ريب أن حياته كلها تترسم -في تفاصيلها وفي إجمالها- النهج القرآني، وهي من هذه الوجهة تفسير للقرآن.
بيد أنَّ التفسير النظري المباشر، وتتبع القرآن كلمة كلمة وآية آية وسورة سورة بالتفسير والشرح لم يحدث من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يقم بذلك -في تعمد وترتيب متتابع- أحد من الصحابة رضوان الله عليهم، وكانت ثمرة ذلك في عالم الحكمة، أن بقي القرآن على نضرته الأولى غضًّا يانعًا، وبقي نبعًا فياضًا تتفجر معانيه من ينابيع القلوب المستبصرة، وتنثال إشاراته وتوجيهاته من أعماق الأرواح المشرقة، وبقي على مر الزمن وعلى تتابع الدهر المنارة المضيئة، يستنير بها كل من قرب منها على قدر قربه.
ولقد سُئِلَ أحد المفكرين عن خير تفسير للقرآن فقال: الزمن.
ولا شك أن كل يوم يمر يكشف لنا عن آفاق في القرآن كنا نجهلها، ولقد كان للصوفية في هذا المجال إلهامات وإشراقات بتوفيق الله رائعة، وهم في هذا الميدان يسمون إلهاماتهم: إشارات؛ يعنون بذلك أن الآيات القرآنية لها تفسير بحسب اللغة وأسباب النزول وحوادث التاريخ، وهو تفسير يتفاوت دقة وجمالًا، ولكنه مع ذلك تفسير لا يستنفد كل ما تُعطيه الآيات القرآنية من إشارات، وما يشع عنها من أنوار وما يتضوع منها من عبير طيب.
وإشارات الآياتِ وأنوارها وعبيرها الزكي لا ينفد ولا ينضب المعين الذي عنه يصدر، ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾[لقمان:27].
ومن أجل ذلك فإن إلهامات الصوفية في الآيات القرآنية فياضة دائمًا، سيالة باستمرار، ومع هذا فينبغي أن نلاحظ أمرين:
الأول: أن هذه الإشارات لا تهدف -في قليل ولا في كثير- إلى أن تحل محل التفسير المألوف.
الثاني: أن هذه الإشارات لا تتعارض مع التفسير المألوف، إنها إشارات وليست تفسيرًا، ومن أجل ذلك فإنه لا تعارض بين الصوفية والمفسرين، وعن هذا التفسير الصوفي يقول الإمام ابن عطاء الله.
فائدة: اعلم أن تفسير هذه الطائفة لكلام الله تعالى ولكلام رسوله صلى الله عليه وسلم بالمعاني الغريبة كما مضى من فهم الشيخ رضى الله عنه : ﴿يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا﴾ الحسنات، ﴿وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ﴾ العلوم،﴿أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا﴾علومًا وحسنات،﴿وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا﴾[الشورى:49-50]لا علم ولا حسنة.
كما مضى أيضًا من قوله عز وجل: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً﴾[البقرة:67]، فقال الشيخ: بقرة كل إنسان نفسه، والله أمرك بذبحها.
وكما سيأتي إن شاء الله في تفسير الأحاديث؛ فذلك ليس إحالة للظاهر عن ظاهره، ولكن ظاهر الآية مفهوم منه ما جلبت له الآية، ودلت عليه في عرف اللسان، وثم أفهام باطنه تفهم عند الآية والحديث لمن فتح الله على قلبه، وقد جاء أنه — قال: «لكل آية ظاهر وباطن وحد ومطلع».
فلا يصدنك عن تلقي هذه المعاني منهم أن يقول لك ذو جدل أو معارضة: هذه إحالة لكلام الله عز وجل وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فليس ذلك بإحالة، وإنما يكون إحالة لو قالوا: لا معنى للآية إلا هذا، وهم لم يقولوا ذلك، بل يُقِرُّونَ الظواهر على ظواهرها مرادًا بها موضوعاتها، ويفهمون عن الله ما أفهمهم، وربما فهموا من اللفظ ضِدَّ ما قصده واضعه، كما أخبرنا الشيخ الإمام مفتي الأنام تقي الدين بن علي القشيري رحمه الله قال:
كان ببغداد فقيه يقال له الجوزي يقرأ اثني عشر عامًا، فخرج يومًا قاصدًا المدرسة فسمع منشدًا ينشد:
إذا العشرون من شعبان ولَّت |
* |
فواصل شرب ليلك بالنهار |
ولا تشرب بأقداح صغار |
* |
فقد ضاق الزمان على الصغار |
فخرج هائمًا على وجهه حتى أتى مكةَ ولم يزل مجاورًا بها حتى مات.
وقرئ على الشيخ مكين الأسمر رضى الله عنه قول القائل:
لو كان لي مسعد بالراح يسعدني |
* |
لما انتظرت لشرب الراح إفطارا |
الراح شيء عجيب أنت شاربه |
* |
فاشرب ولو حملتك الراح أوزارا |
يا من يلوم على صهباءَ صافية |
* |
خذ الجنان ودعني أسكن النارا |
فقال إنسان هناك لا تجوز قراءة هذه الأبيات، فقال الشيخ مكين الأسمر للقارئ: اقرأ، هذا رجل محجوب.
ويكفيك في هذا أن ثلاثة سمعوا مناديًا يقول: «يا سعتر بري»؛ ففهم كل منهم عن الله مخاطبة خوطب بها في سره.
سمع الواحد: اسع تر بري.
وسمع الآخر: الساعة ترى بري.
وسمع الثالث: ما أوسع بري!.
فالمسموع واحد، واختلفت أفهام السامعين كما قال سبحانه:﴿يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ﴾[الرعد:4]، وقال سبحانه: ﴿قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ﴾[البقرة:60].
فأما الذي سمع: اسع تر بري؛ فمريد دل على النهوض إلى الله بالأعمال ليستقبل الطريق بالجد، فقيل له: اسع إلينا بصدق المعاملة، ترَ برنا بوجود المواصلة.
وأما الآخر، فكان سالكًا إلى الله طاولته الأوقات؛ فخاف أن تفوته الوصلة، فقيل له؛ ترويحًا على قلبه لما أحرقته نار الشغف: الساعة ترى بري.
وأما الثالث فعارف كشف له عن وسع الكلام، فخوطب من حيث أشهد، فسمع: ما أوسع بري!.
وقال الشيخ محيي الدين رضى الله عنه :
دعانا بعض الفقراء إلى دعوة بزقاق القناديل بمصر، فاجتمع بها جماعة من المشايخ، فقدم الطعام، وعجزت الأوعية، وهناك وعاء زجاج جديد، قد اتخذ للبول ولم يستعمل بعد، فغرف فيه رب المنزل الطعام، فالجماعة يأكلون، وإذا بالوعاء يقول: منذ أكرمني الله بأكل هؤلاء السادة مني لا أرضى لنفسي أن أكون بعد ذلك محلًّا للأذى، ثم انكسر نصفين.
قال الشيخ محيي الدين: فقلت للجميع: سمعتم ما قال الوعاء؟ قالوا: نعم.
قلت: ما سمعتم؟ فأعادوا القول الذي تقدم.
قال فقلت: قال قولًا غير ذلك. قالوا: وما هو؟.
قلت: قال: كذلك قلوبكم، قد أكرمها الله بالإيمان، فلا ترضوا بعد ذلك أن تكون محلًّا لنجاسة المعصية وحب الدنيا، جعلنا الله وإياكم من أولي الفهم عنه، والتقى منه بمنه وكرمه.
وهذا الذي قاله الإمام ابن عطاء الله حق كله، والصورة المثالية في التفسير الصوفي وفي شرح الأحاديث، إنَّما هي الصورة التي تحيط بالموضوع كلية؛ أي تشرح أو تفسر على الطريقة المألوفة، وفي ثنايا الشرح أو التفسير تشير وتوجه على النهج المتبع في الآفاق الصوفية البحتة، ونقول إن هذا هو الصورة المثالية؛ لأن هذه الصورة تحيط بالكثير من أقطار الموضوع، وتلم بالعديد من زواياه، وتكون فائدتها للمتعلمين أكثر.
وما من شك في أن كثيرًا من السادة الصوفية استعملوا هذه الطريقة، ونذكر الآن لها مثالين كريمين يصوران جو أئمة المدرسة الشاذلية في عهد الأول، تمتزج بها آراء أبي الحسن وأبي العباس وابن عطاء الله، فتكون وحدة واحدة وطريقًا سويًّا يوضح ما ينبغي أن يكون حينما يقف الصوفي بين جمهور الناس مدرسًا ومربيًا، أما إذا كان الشيخ بين تلاميذه ومريديه؛ فله أن ينثر الأنوار نثرًا، ويذيعها لألاءة بالسنا والسناء.
والمثل الأول الذي نذكره أتى بمناسبة ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحارثة سائلًا له: «كيف أصبحت يا حارثة؟»، قال: أصبحت مؤمنًا حقًّا. فقال صلى الله عليه وسلم : «لكل حق حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟». قال: عزفت نفسي عن الدنيا، فاستوى عندي ذهبها ومدرها، وكأني أنظر إلى أهل الجنة في الجنة يتنعمون، وكأني أنظر إلى أهل النار في النار يعذبون، وكأني أرى عرش ربي بارزًا؛ من أجل ذلك أسهرت ليلى، وأظمأت نهاري.
يقول ابن عطاء الله: وفي حديث حارثة فوائد عشرة:
الأولى: أنه لمَّا سأل النبي صلى الله عليه وسلم حارثة فقال له: «كيف أصبحت يا حارثة؟»، لم يقل حارثة غنيًّا ولا صحيحًا، ولا شيئًا من الأحوال البدنية أو الأمور الدنيوية، لأنَّ حارثة علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجلُّ من أن يسأل عن دنيا، بل فهم عنه أنه إنما سأله كيف حاله مع الله؛ فلذلك قال الصحابي: أصبحت مؤمنًا حقًّا، أما أبناء الدنيا إذا سئلوا فلا يخبرونك إلا عن دنياهم، وربما أخبروك إذا سألتهم عن الضجر بأحكام مولاهم؛ فالسائل لمن هذا وصفه مشارك له فيما استثاره بسؤله؛ لجريان سببه منه.
وقال الشيخ أبو العباس رضى الله عنه لرجل أتى من الحج: كيف كان حجكم؟ فقال ذلك الرجل: كثير الرخاء، كثير الماء، بسعر كذا وكذا وسعر كذا وكذا. فأعرض الشيخ عنه وقال: تسألهم عن حجهم وما وجدوا فيه من الله من علم ونور وفتح؛ فيجيبون برخاء الأسعار وكثرة المياه، حتى كأنهم لم يسألوا إلا عن ذلك!.
الفائدة الثانية: أنه ينبغي للمشايخ أن يتفقدوا أحوال المريدين، ويجوز للمريدين إخبار الأُستاذِين، وإن لزم من ذلك كشف حال المريدين؛ لأن الأستاذ كالطبيب، وحال المريد كالعورة، والعورة قد تبدو للطبيب لضرورة التداوي.
الفائدة الثالثة: انظر إلى قوة نور حارثة في قوله: أصبحت مؤمنًا حقًّا. فلولا أنه منوَّر بنور البصيرة الموجبة لمحض اليقين والتحقق بالسنة، ما أخبر بذلك وأبداه، وأثبت لنفسه حقيقة الإيمان بين يدي صاحب المحو والإثبات، وإنما أبدى ذلك حارثة؛ لأنه علم أن طواعية رسول الله صلى الله عليه وسلم واجبة، والرسول قد استخبره عن حاله، فلم يسعه الكتم، وأبدى ما علم أن الله تفضل به عليه ببركات متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ ليفرح له الرسول صلى الله عليه وسلم بمنة الله، فيشكر الله عنه، ويسأله تثبيت ما أعطاه مثل ما ذكره بعض العلماء العارفين، قال: وقعت زلزلة بالمدينة زمن خلافة عمر رضى الله عنه ، فقال عمر: ما هذا؟ ما أسرع ما أحدثتم! والله لئن عادت لآخرجن من بين أظهركم.
فانظر -رحمك الله- هذه البصيرة التامة، كيف أشهدته أن الزلزلة إنما هي من حدث كان، وأن ذلك الحدث منهم، والله بريء منه.
فهل هذا إلا من نور البصيرة الكاملة التي وهبها عمر رضى الله عنه ؟.
وكذلك ضربه لأبى هريرة رضي الله عنهما في صدره حين وجد معه نعلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد أمره أن من لقيه من وراء الحائط يشهد أن لا إله إلا الله أن يبشره بالجنة، ورجوعُهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقول عمر رضى الله عنه : يا رسول الله أنت أمرت أبا هريرة أن يأخذ نعليك ويبشر من لقى وراء الحائط يشهد أن لا إله إلا الله بالجنة؟ قال: «نعم»، قال: لا تفعل يا رسول الله، خلهم يعملوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «خلهم يعملوا».
وهاتان الواقعتان تعرفانك بعظيم قدر عمر رضى الله عنه ، ووفور أخذه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واختطافه من نوره، وهذا الحديث مروي في «صحيح مسلم»، وإنما ذكرناه ها هنا مختصرًا.
الفائدة الرابعة: يفهم من هذا الحديث انقسام الإيمان إلى قسمين: إيمان حقيقي، وإيمان رسمي.
فلذلك أخبر الصحابي بقوله: أصبحت مؤمنًا حقًّا. والحديث يشهد له أيضًا، وروى البخاري يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه قال: «ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولًا»، وروى أيضًا قال صلوات الله عليه وسلامه: «ثلاث من كُنَّ فيه وَجَدَ بِهِنَّ حلاوة الإيمان وطعمه: أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مِمَّا سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن توقد نار عظيمة فكان أن يقع فيها خير له من أن يشرك بالله»، وقد جاء الحديث أيضًا قال صلى الله عليه وسلم : «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كُلٍّ خير».
وقد قال سبحانه: ﴿أُولَئِكَهُمُ المُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾[الأنفال:4].
وهما صنفان: عباد آمنوا بالله على التصديق والإذعان، وعباد آمنوا بالله على الشهود والعيان، وهذا الإيمان الثاني تارة يسمى إيمانًا وتارة يسمى يقينًا؛ لأنه إيمان انبسطت أنواره وظهرت آثاره، واستمكن في القلب عموده، وداوم السر شهوده، وعنه يكون خالص الولاية، كما أنَّ على القسم الآخر يكون ظاهر الولاية، وليس يستوي إيمان مؤمن يغلِّب الهوى وإيمان مؤمن يغلِّبه الهوى، ولا إيمان مؤمن تعرض له العوارض فيدافعها بإيمانه، كإيمان مؤمن غسل قلبه من العوارض فلا ترد عليه لشهوده وعيانه، ولأجل هذا اختلف أهل الطريق في عبدين؛ أحدهما: يَرِدُ عليه خاطر الذنب فيجاهد نفسه حتى يذهب ذلك عنه، والآخر: لا يخطر له هذا الخاطر أصلًا، أيهما أتم؟.
والذي لا شك فيه تفضيل هذا القسم الثاني؛ فإنه أقرب لأحوال أهل المعرفة، والأول هو حال أهل المجاهدة، ولأنه لا يكون القلب على هذه الصفة إلَّا والنور قد ملأ زواياه؛ فلأجل ذلك لم يجد خاطر الذنب مساغًا.
الفائدة الخامسة: مطالبة الرسول صلى الله عليه وسلم لحارثة بإقامة البرهان على ما أثبته لنفسه، فيدل ذلك أنَّه ليس كل من ادَّعى دعوة سلمت له، وقد قال الله سبحانه: ﴿فَتَمَنَّوُا المَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾[الجمعة:6]، وقال: ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾[البقرة:111]؛ فموازين الحقائق شاهدة للعباد أو عليهم، وقد قال سبحانه: ﴿وَأَقِيمُوا الوَزْنَ بِالقِسْطِ﴾[الرَّحمن:9].
فمن ادَّعى حالًا مع الله أقيم عليه ميزانها، فإن شهد له سلمناها له، وإلا فلا.
وإذا كانت الدنيا -على خساسة قدرها عند الله- لا تسلم لك إلا ببينة تقيمها؛ فمن الأحرى ألا تسلم لك مراتب الموقنين إلا أن يثبتها لك برهان، أو تسلمها لك حقيقة.
الفائدة السادسة: كان الشيخ أبو العباس رضى الله عنه يقول: لو كان المسئول أبا بكر رضى الله عنه لم يطالبه الرسول صلى الله عليه وسلم بإقامة البرهان على ما ادَّعى؛ لأن عظم رتبة أبي بكر رضى الله عنه شاهدة له من غير إظهار برهان، فأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعرفنا الفرق بين رتب أصحابه، فمنهم من هو كحارثة، لما ادَّعى حقيقة الإيمان طولب ببرهانها، ومنهم من هو كأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، يثبت لهما الرسول صلى الله عليه وسلم الرتب، وإن لم يثبتاها لأنفسهما، ألا ترى الحديث الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أن بقرة في بني إسرائيل ركبها رجل وأجهدها، فقالت: سبحان الله، لم أخلق لهذا، وإنما خلقت للحرث». فقال الصحابة: سبحان الله أبقرة تتكلم؟!.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «آمنتُ بذلك أنا وأبو بكر وعمر»، وهما غائبان.
فانظر هذه المرتبة ما أفخمها! وهذه المنزلة ما أعظمها! وسمعت شيخنا أبا العباس رضى الله عنه يقول: معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم «آمن أنا وأبو بكر وعمر»؛ أي من غير عجب، وأنتم آمنتم متعجبين! لأجل ذلك قالوا: سبحان الله! أبقرة تتكلم؟ وكان أبو العباس يقول: إن الملائكة لما بشرت زوجة إبراهيم — بالولد قالت: ﴿أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ﴾[هود:72].
فقالت لها الملائكة: ﴿أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ﴾[هود:73]أي أمر الله لا يُتعجب منه، فلم يسمها الحق صديقة، ومريم لما بشرت بالولد من غير أب فلم تتعجب من ذلك سماها الله صديقة، فقال سبحانه: ﴿وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ﴾[المائدة:75].
الفائدة السابعة: استدلال الصحابي على حقيقة إيمانه بزهده في الدنيا، وكذلك هو الإيمان إذا تحقق من قام به أورثه الزهد في الدنيا؛ لأن الإيمان بالله يوجب لك التصديق بلقائِهِ، وعلمك بأنَّ كل آتٍ قريب يوجب لك شهود قربِ ذلك، فيورثك ذلك الزهد في الدنيا، ولأن نور الإيمان يكشف لك عن إعزاز الحق لك، فتأنَف همتك من الإقبال على الدنيا والتطلع إليها، مع أن الحقيقة تقتضي أن الزاهد في الدنيا مثبت لها؛ فإنه شهد لها بالوجود إذا أثبتها مزهودًا فيها، وإذا شهد لها بالوجود فقد عظَّمها، وهو معنى قول الشيخ أبي الحسن الشاذلي رضى الله عنه : واللهِ لقد عظمتها إذا زهدت فيها.
ومثل هذا الزاهد فيما زهد فيه فناء الفاني عما فني عنه؛ فإثبات أنك فان عن الشيء إثبات لذلك الشيء، فما لا وجود له لا يتعلق به فناء ولا زهد ولا ترك.
ولنا في هذا المعنى أبيات كتبتها لبعض الأصحاب يسمى حسنًا:
حسن بأن تدع الوجود بأسره |
* |
حسن فلا يشغلك عنه شاغل |
ولئن فهمت لتعلمن بأنه |
* |
لا ترك إلا للذي هو حاصل |
ومتى شهدت سواه فاعلم أنه |
* |
من وهمك الأدنى وقلبك ذاهل |
وحديث كان وليس شيء غيره |
* |
يقضِي به الآن اللبيبُ العاقل |
ولقد أشرت إلى الصريح من الهوى |
* |
دلت عليه إن فهمتَ دلائل |
وحديث كان وليس شيء غيره |
* |
يقضي به الآن اللبيب العاقل |
لا غير إلا نسبة مثبوتة |
* |
ليذم ذو ترك ويحمد فاعل |
الفائدة الثامنة: قولُ الصحابي رضى الله عنه : عزفت نفسي عن الدنيا؛ فاستوى عندي ذهبها ومدرها، والعزوف هو ترك الشيء بالتقزز له والإعراض عنه، إذ لو قال تركت الدنيا لم يلزم من الترك عدم التطلع؛ فرب تارك للشيء وهو له متطلع، فالعزوف إعراض مع كراهة وتحقير، ومن كشف الله له عن حقيقة الدنيا فهذا شأنه فيها، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم : «الدنيا جيفة قذرة»، وقال صلى الله عليه وسلم للضحاك: «ما طعامك؟» قال: اللحم واللبن. قال: «ثم يعود إلى ماذا؟» قال: إلى ما قد علمت يا رسول الله. قال: «فإن الله قد جعل ما يخرج من بني آدم مثلًا للدنيا».
من كشف له عن حقيقة الدنيا فشهدها جيفة قذرة؛ فحري أن يصرف همته عنها، فإن قلت: فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الدنيا حلوة خضرة»؛ فاعلم أن الدنيا جيفة قذرة في مرائي البصائر، وحلوة خضرة في مرائي الأبصار.
فإن قلت: فما فائدة الإخبار بأنها حلوة خضرة؟.
فاعلم أن قوله صلى الله عليه وسلم : «الدنيا جيفة قذرة»للتقذير، وقوله: «الدنيا حلوة خضرة»، للتحذير؛ أي فلا تغرنك بحلاوتها وخضرتها؛ فإن حلاوتها في التحقيق مرارة، وخضرتها يبس؛ ولهذا لما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولياء الله قال: «هم الذين نَظروا باطن الدنيا حين نظر الناس إلى ظاهرها».
الفائدة التاسعة: وقوف الصحابي رضى الله عنه على مستحق رتبته بقوله: وكأني أنظر إلى أهل الجنة في الجنة يتنعمون. ولم يقل نظرت، وقد تقدم ذلك من أن الأنبياء يطالعون حقائق الأشياء، والأولياء يطالعون مثلها.
الفائدة العاشرة: قوله: فمن أجل ذلك أسهرت ليلي، وأظمأت نهاري. فحارثة عبد وصل بكرامة الله إلى طاعة الله، ألا تراه كيف قال في الأول: عزفت نفسي عن الدنيا، ثم قال بعد ذلك: فمن أجل ذلك أسهرت ليلي، وأظمأت نهاري؛ فسبق عزوفُ نفسه عن الدنيا، معاملتَه لربه.
وكان الشيخ أبو العباس رضى الله عنه يقول: الناس على قسمين:
قوم وصلوا بكرامة الله إلى طاعة الله.
وقوم وصلوا بطاعة الله إلى كرامة الله.
قال الله سبحانه: ﴿اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ﴾[الشُّورى:13].
ونور الله يرد إلى القلب، فيوجب له الاتِّصَافَ بصفة الزهد في الدنيا والإعراض عنها، ثم ينبث منه إلى الجوارح، فما وصل منه إلى العين أوجب الاعتبار، وإلى الأذن أوجب حسن الاستماع، وإلى اللسان أورث الذكر، وإلى الأركان أورث الخدمة.
والدليل على أن النور يوجب عزوف الهمة عن الدنيا والنأي عنها، قول الرسول صلى الله عليه وسلم : «إن النور إذا دخل الصدر انشرح وانفسح»؛ فقيل: يا رسول الله، فهل لذلك من علامة؟ قال: «التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود».
أما المثال الثاني: فهو بمثابة حديث حنظلة رضى الله عنه ، فقد روى مسلم في صحيحه، قال: لقي حنظلةُ أبا بكر رضى الله عنه فقال: نافق حنظلة. فقال أبو بكر رضى الله عنه : وما شأن حنظلة؟ قال: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فيذكرنا الجنة والنار حتى كانا رأي عين، فإذا خرجنا من عنده عافسْنا الضيعات والزوجات فنسِينا كثيرًا، فقال أبو بكر رضى الله عنه : إنَّا لنلقى مثل ذلك يا حنظلة، ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال حنظلة: يا رسول الله، نافق حنظلة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «وما شأن حنظلة؟»فقال: نكون عندك فتذكرنا الجنة والنار حتى كانا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسْنا الضيعات والزوجات فنسِينا كثيرًا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «والذي نفسي بيده يا حنظلة، لو تدومون على ما تكونون عليه عندي وفي الذكر؛ لصافحتكم الملائكة في طرقكم وعلى فرشكم، ولكن ساعة وساعة»؛ ففي هذا الحديث ثماني فوائد:
الفائدة الأولى: قول حنظلة: نافق حنظلة، النفاق مأخوذ من اليربوع، وهو أن يجعل لبيته بابين متى طولب من أحدهما خرج من الآخر، كذلك المنافق يظهر بظاهر الإيمان، وله مسرب من الكفر باطن، إذا عاتبه أهل الكفر على ما أظهر من الإيمان، فتح مسربًا من باطن كفره ليَسلَم من عتبهم، وإذا ظهرت عليه ريبة أهل النفاق فعوتب عليها، تصون من ذلك بظاهر الإيمان الذي أظهره؛ ولذلك أخبر الله عنهم بقوله: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾[البقرة:14].
فلما رأى حنظلة أنه يكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم على حالة، فإذا خرج وحاول أسباب الدنيا تَغَيَّرَ حاله، فلم يبقَ على نحو ما كان عليه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، خاف أن يكون ذلك نفاقًا لاختلاف حالتيه.
فشكا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحمله الإيمان على أن يظهر ذلك ليتطلب الشفاء منه، ويشكو داءَه لمن يجد الشفاءَ عنده، فلمَّا شكا ذلك لأبي بكر رضى الله عنه قال له أبو بكر: إنَّا لنلقى مثل ذلك يا حنظلة. ولم يجبه أبو بكر رضى الله عنه ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بين أظهرهم، فلم يَرَ أبو بكر أن يجيب حنظلة، ولو أن حنظلة أتى أبا بكر بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأجابه.
الفائدة الثانية: يستفاد من حديث حنظلة أن من حمله الصدق على إظهار ما به من حصل له الشفاء، إما بأن يقال: إن ما ظننته داء ليس بداء، وإما أن يدل من الدواء على ما يزيل الداء؛ فحنظلة قيل له: إن ما ظننته داء ليس بداء.
الفائدة الثالثة: قول حنظلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم : تذكرنا بالجنة والنار حتى كانا رأي عين. ولم يقل حتى نراهما رأي عين؛ لما قدمناه من أن الأنبياء يطالعون حقائق الأشياء والأولياء يطالعون مثلها؛ فلذلك قال حنظلة: حتى كانا رأي عين، ولم يقل: حتى نراهما رأي عين، كما قال حارثة: وكأني أنظر إلى الجنة، ولم يقل نظرت إلى أهل الجنة، وقد تقدم هذا من قبل.
الفائدة الرابعة: ينبغي أن يقلل الدخول في أسباب الدنيا ما أمكن؛ فهذا الصحابي يقول: فإذا خرجنا من عندك عافسنا الضيعات والزوجات فنسينا كثيرًا، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن قليلًا من الدنيا يلهي عن كثير من الآخرة».
وقال صلى الله عليه وسلم : «ما طلعت شمس إلا بجانبها ملكانِ يناديان: يا أيها الناس، هلموا إلى ربكم؛ فإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى».
الفائدة الخامسة: قوله صلى الله عليه وسلم : «لو تدومون على ما تكونون عليه عندي وفي الذكر؛ لصافحتكم الملائكة، في طرقكم وعلى فرشكم»، فيه إشارة إلى أن الدوام على تلك الحالة عزيز، وأن عدم دوام العبد على تلك الحالة لا يوجب معتبة؛ لما طبع عليه البشر من الغفلة، فكان الدوام على تلك الحالة من المتعذر.
الفائدة السادسة: كان الشيخ أبو العباس المرسي رضى الله عنه يقول: لم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ذلك محال أن يكون؛ أعني ما رتب على تقدير الدوام، وهو يقول: «لصافحتكم الملائكة في طرقكم وعلى فرشكم»؛ فقد يكون من أولياء الله من يهَبه الله ذلك.
الفائدة السابعة: إنما خص الرسول صلى الله عليه وسلم الفرش والطريق؛ لأن الفرش محل الشهوات، والطريق محل الغفلات، فإذا صافحتهم الملائكة في طرقهم وفرشهم، فمن الأحرى أن تصافحهم في محل طاعاتهم ومواطن أذكارهم.
الفائدة الثامنة: اقتضتْ حكمة الله سبحانه وتعالى ألَّا يستوي وقت كينونتهم عنده ووقت ذكرهم بما سواهما، حتى يعرف عظيم قدر رتبة محاضرته صلى الله عليه وسلم وعزازة الذكر وجلالة منصبهما. اهـ.
هذانِ المثالان من نوع الشرح الصوفي الذي يشرح الموضوع، ويبين الغاية والهدف.
ولأبي العباس درر كثيرة، وإلهامات جليلة في كثير من آيات القرآن وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ولقد كُنَّا نتمنى أن نجد من ذلك الكثير حتى يمكن أن ننسق منه باقة متكاملة، ولكن المراجع التي حَوَتْ آثار أبي العباس لم تُعْطِنَا ما نتمناه.
ونذكر فيما يلي ما استطعنا الوصول إليه، كأمثلة جزئية هي لمحات من النور الإلهي يفيضه الله سبحانه على من حققوا له العبودية فأنار أفئدتهم بنوره.
والآن نذكر -بتوفيق الله- ما أمكن جمعه من هنا وهناك، مرتبًا بحسب ترتيب سور القرآن الكريم:
1- ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾[الفاتحة:1-7].
قال الله سبحانه: ﴿الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ﴾ [الفاتحة:2].
قال الشيخ رضى الله عنه : علم الله عجز خلقه عن حمده، فحمد نفسه بنفسه في أزله، فلما خلق الخلق اقتضى منهم أن يحمَدوه بحمده، فقال: الحمد لله رب العالمين؛ أي قولوا: الحمد لله رب العالمين، أي إن الحمد لله الذي حمد به نفسه بنفسه، هو له لا ينبغي أن يكون لغيره، فعلى هذا تكون الألف واللام للعهد.
يقول ابن عطاء الله: وسمعته يقول في قوله عز وجل:
﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة:5].
إياك نعبد شريعة. وإياك نستعين حقيقة.
إياك نعبد إسلام، وإياك نستعين إحسان.
إياك نعبد عبادة، وإياك نستعين عبودية.
إياك نعبد فَرْقٌ، وإياك نستعين جمع([1]).
ثم قال سبحانه وتعالى: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة:6].
فقال الشيخ رضى الله عنه : بالتثبيت فيما هو حاصل، والإرشاد لما ليس بحاصل، وهذا الجواب ذكره ابن عطية في تفسيره([2])، وبَسَطه الشيخ رضى الله عنه ، فقال: عموم المؤمنين يقولون: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ﴾؛ أي بالتثبيت فيما هو حاصل، والإرشاد لما ليس بحاصل؛ فإنهم حصل لهم التوحيد، وفاتَهُم درجات الصالحين.
والصالحون يقولون: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ﴾ معناه: نسألك التثبيت فيما هو حاصل، والإرشاد لما ليس بحاصل؛ فإنهم حصل لهم الصلاح، وفاتهم درجات الشهداء.
والشهداء يقولون: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ﴾؛ أي التثبيت فيما هو حاصل والإرشاد لما ليس بحاصل؛ فإنهم حصل لهم درجات الشهداء وفاتهم درجات الصديقية.
والصديقون يقولون: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ﴾؛ أي بالتثبيت فيما هو حاصل، والإرشاد لما ليس بحاصل؛ فإنهم حصل لهم درجات الصديقية، وفاتهم درجات القطبية.
والقطب يقول: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ﴾؛ أي بالتثبيت فما هو حاصل، والإرشاد لما ليس بحاصل فإنه قد حصل على رتبة القطبانية، وفاته علم إذا شاء الله أن يطلعه عليه أطلعه.
2- قال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾ [البقرة:3].
كل موضع ذُكر فيه المصلون في معرض المدح، فإنما جاء لمن أقام الصلاة، إما بلفظ الإقامة أو بمعنى يرجع إليها، قال الله سبحانه:
﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾
﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ﴾ [إبراهيم:40].
﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ﴾ [الإسراء:78].
﴿وَأَقَامَ الصَّلَاةَ﴾ [البقرة:177].
﴿وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ﴾ [البقرة:277].
﴿وَالمُقِيمِي الصَّلَاةِ﴾ [الحج:35].
ولما ذكر المصلين بالغفلة قال:
﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ﴾ [الماعون: 4-5]، ولم يقل: فويل للمقيمي الصلاة.
والإقامة هو أنَّه إذا صلَّى المؤمن صلاة فتقبلت منه، خَلَقَ الله من صلاته صورة في ملكوته، راكعة ساجدة إلى يوم القيامة، وثواب ذلك لصاحب الصلاة.
3- قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً﴾ [البقرة:67].
بقرة كل إنسان نفسه، والله أمرك بذبحها.
4- قال الله تعالى: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا﴾ [البقرة:106]؛ أي ما نَذهب من ولي الله إلَّا ونأتِ بخير منه أو مثله.
5- يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:102]، فقال له القائل: من أين للعبدِ أن يتقي الله حق تقاته؟ ومن أين له ألا يموت إلا وهو مسلم؟!.
فقال الشيخ رضى الله عنه : قيل إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن:16].
فكانوا قد خوطبوا أولًا أن يتقوا الله حق تقاته، وهو أن يطاع فلا يعصي، ويُذكر فلا ينسى، ويُشكر فلا يكفر، ثم خفف عنهم بقوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن:16].
قال الشيخ رضى الله عنه : ويمكن الجميع بين الآيتين:
﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾؛ أي في جانب الأعمال.
وقوله تعالى: ﴿اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾؛ أي في جانب التوحيد.
وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾؛ أي لا تتعاطوا من الأعمال إلا أعمالًا إذا متم عليها متم مسلمين.
6- ﴿مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ﴾ [النساء:79]، قيل إنما وقع لتفصيل في العبادة؛ أدبًا من الله لنا، فأضاف المحاسن إليه وأضاف المساوئ إلينا، وإن كان فعل العبد كله خلق الله تعالى حسنه وسيئه، كما قال: ﴿فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا﴾[الكهف:82].
فأضاف ذلك إلى الله. وقال في السفينة: ﴿فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا﴾[الكهف:79]، ولم يقل: فأراد ربك أن يعيبها؛ أدبًا في التعبير، وكما قال إبراهيم —: ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ [الشعراء:80]، فأضاف المرض لنفسه والشفاء لله تعالى.
ومنهم من قال إن ذلك داخل في مضمون القول، وإن هذا التفصيل حكاه الله عنهم، والتقدير: ﴿فَمَالِ هَؤُلَاءِ القَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا﴾ [النساء:78]، في قولهم: ﴿مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ﴾[النساء:79]، ورد عليهم بقوله تعالى: ﴿قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ [النساء:78].
7- قال الله تعالى: ﴿وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا﴾ [النساء:125].
قال: سمي خليلًا لأنه خالل سره محبة الله تعالى، قال الشاعر:
قد تخللت مسلك الروح مني |
* |
ولذا سمي الخليل خليلا |
فإذا نطقت كنت كلامي |
* |
وإذا صمت كنت العليلا |
8- قال الله تعالى: ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ﴾ [المائدة:42].
نزلت في اليهود ومن كان من فقراء هذا الزمان مؤثرًا للسماع بهواه، آكلًا مما حرمه مولاه، فهي نزعة يهودية؛ لأن القوال يذكر العشق وما هو بعاشق، والمحبة وما هو محب، والوجد وما هو متواجد، فالقوال يذكر الكذب، والمستمع سماع له، ومن أكل من الفقراء طعام الظَّلَمَة حين يدعى إلى السماع فهو يصدق عليه قول الله تعالى: ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ﴾.
9- قال الله تعالى: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ [المائدة:118].
قال رضى الله عنه وقد سأله سائل: لم قال عيسى عليه السلام: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ ولم يقل الغفور الرحيم؟.
قال الشيخ رضى الله عنه : إنما عدل عن قوله: إنك أنت الغفور الرحيم إلى قوله: ﴿فَإِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾؛ لأنه لو قال: وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم، لكانت شفاعة من عيسى عليه السلام لهم في المغفرة، ولا شفاعة في كافر، ولأنه عبد من دون الله، فاستحيى من الشفاعة عنده وقد عبد معه.
10- قال الله تعالى حاكيًا عن الشيطان: ﴿ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾ [الأعراف:17].
قال رضى الله عنه : لم يقل من فوقهم ولا من تحتهم؛ لأن فوق: التوحيد، وتحت: الإسلام، والشيطان لا يمكنه أن يأتي المؤمن من توحيد ولا من إسلام.
أما قوله: ﴿وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾.
فإنه لو علم الشيطان أن ثَمَّ طريقًا توصل إلى الله أفضل من الشكر لوقف عليها.
ألا ترى قوله: ﴿وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾، ولم يقل صابرين ولا خائفين ولا راجين!.
11- للناس أسباب، وسببنا الإيمان والتقوى، قال الله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ﴾ [الأعراف:96].
12- يقول الله تعالى: ﴿مَا خَلَقَ اللهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالحَقِّ﴾[يونس:5].
الحق الذي خلق الله به كل شيء: كلمة «كن».
قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الحَقُّ﴾ [الأنعام:73].
13- قال الله تعالى: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس:58]؛ أي من طاعتهم وأعمالهم، ومثل ذلك: ﴿وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [الزُّخرف:32].
14- يقول الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾ [يوسف:24]، همت به هَمَّ إرادة، وهَمَّ بها هَمَّ ميل لا هم إرادة.
15- قال الله سبحانه وتعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا﴾ [الإسراء:1]، ولم يقل بنبيه ولا برسوله، وهو نبيه ورسوله، وإنما كان كذلك لأنه أراد أن يفتح باب السريان للأتباع، فأعلمنا بأن الإسراء من بساط العبودية؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم كان له كمال العبودية، فكان له كمال الإسراء، أسري بروحه وجسمه وظاهره وباطنه؛ فالأولياء لهم قسط من العبودية، فلهم قسط من الإسراء يسري بأرواحهم لا بأشباحهم.
16- قال الله تعالى: ﴿إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾ [الكهف:13].
الفتوة: الإيمان والهداية.
17- قال الله تعالى: ﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى﴾ [طه:17-21].
يقال للولي: وما تلك بيمينك أيها الولي؟.
قال: هي دنياي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي -وغنمه أعضاؤه- ولي فيها مآرب أخرى. فيقال له: ألقها فناء عنها.
فألقاها، فيكشف له عن حقيقتها، فإذا هي حية تسعى، ثم يقال له: خذها ولا تخف. فلا يضره أخذها؛ لأنه أخذها بإذن الله في أخذها كما أطاعه في إلقائها.
18- قال الله تعالى: ﴿قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ﴾ [الأنبياء:60].
سمي إبراهيم فتى؛ لأنه كسَّر الأصنام، فمن كسَّر الأصنام فهو الفتى الخليل —، وجد أصنامًا حقيقية فكسرها، وأنت لك أصنام معنوية فإن كسرتها كنت فتى، ولك أصنام خمسة: النفس، والهوى، والشيطان، والشهوة، والدنيا. فإن كسرتها فأنت الفتى.
19- قال الله تعالى: ﴿يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ﴾ [الحديد:6].
يولج المعصية في الطاعة، ويولج الطاعة في المعصية، يطيع العبد الطاعة فيعجب بها ويعتمد عليها، ويستصغر من لم يفعلها، ويطلب من الله العوض عليها، فهذه حسنة أحاطت بها سيئات.
ويذنب الذنب فيلجأ إلى الله فيه ويعتذر منه، ويستصغر نفسه ويعظم من لم يفعله، فهذه سيئة أحاطت بها حسنات، فأيهما الطاعة؟ وأيهما المعصية؟!.
20- يقول الله تعالى: ﴿وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالغَمَامِ وَنُزِّلَ المَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) المُلْكُ يَوْمَئِذٍ الحَقُّ لِلرَّحْمَنِ﴾ [الفرقان:25-26]، إنما قال للرحمن، ولم يقل للقهار ولا للعزيز؛ لأن تشقق السماء بالغمام وتنزل الملائكة مظهران في مظاهر القهر والسطوة، فلو قال للقهار أو العزيز؛ لم يطق ذلك العباد، وتفطرت قلوبهم، فرفق بهم أن قال: ﴿المُلْكُ يَوْمَئِذٍ الحَقُّ لِلرَّحْمَنِ﴾.
وهكذا قوله: ﴿يَوْمَ نَحْشُرُ المُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا﴾ [مريم:85]. ولم يقل إلى القهار ولا إلى العزيز؛ لأن الحشر وهو المطلع شديد، فلاطفهم برحمانيته في ظهور سلطان قهره.
21- يقول الله تعالى: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ﴾ [النمل:62]: «الولي لا يزال مضطرًا»(12).
وقال رضى الله عنه : «عبر بعض الصحابة على بعض اليهود فسمعهم يقرءون التوراة فتخشعوا، فلما دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عليهم جبريل — فقال: اقرأ، قال: «وما أقرأ؟»،قال: أقرأ ﴿أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ﴾ [العنكبوت:51]، فعوتبوا إذ تخشعوا من غيره، وهم إنما تخشعوا من التوراة وهي كلام الله، فما ظنك بمن أعرض عن كتاب الله وتخشع بالملاهي والغناء؟!.
22- يقول الله تعالى: ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ﴾ [لقمان:14].
إنما قرن شكرهما؛ لأنهما الأصل في وجودك.
23- قال الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا﴾ [فاطر:6]، فقوم فهموا من هذا الخطاب أنَّهم أمروا بعداوة الشيطان، فشغلهم عن محبة الحبيب، وقوم فهموا من ذلك أنَّ الشيطان لهم عدو؛ أي وأنا لكم حبيب، فاشتغلوا بمحبته فكفاهم من دونه، قيل لبعضهم: كيف صنعك مع الشيطان؟ قال: وما الشيطان؟ نحن قوم صرفنا هممنا إلى الله فكفانا مَن دونه.
24- قال الله سبحانه وتعالى: ﴿اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ﴾ [الشُّورى:13]، الناس على قسمين: قوم وصلوا بكرامة الله إلى طاعة الله وهؤلاء قد اجتباهم، وقوم وصلوا بطاعة الله إلى كرامة الله وهؤلاء قد هداهم.
﴿يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا﴾[الشُّورى:49]، قال رضى الله عنه : صليت خلف الشيخ صلاة الصبح، فقرأ بــ ﴿حمٓ (1) عٓسٓقٓ﴾[الشورى:1-2]، حتى انتهى إلى قوله تعالى: ﴿يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا﴾فخطر لي أنها الحسنات.
﴿وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ﴾ فخطر لي أنها العلوم.
﴿أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا﴾ علومًا وحسنات.
﴿وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا﴾ [الشُّورى:49-50]لا علم ولا حسنة.
فلما سلم الشيخ من الصلاة استدعاني وقال: لقد وجدت فهمك في الصلاة ﴿يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا﴾: الحسنات، ﴿وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ﴾: العلوم، ﴿أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا﴾: علومًا وحسنات، ﴿وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا﴾: لا علم ولا حسنة؛ فعجبت من اطلاع الشيخ على ذلك! فقال: أتعجب من اطلاعي على فهمك فيالصلاة! قد فهم فلان كذا، وفهم فلان كذا. حتى عد أفهام الجماعة الذين خلفه.
25- يقول الله تعالى: ﴿وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ [الذاريات:18].
قال رضى الله عنه : من طاعتهم، ومن أعمالهم التي قاموا لله تعالى بها في ليلهم؛ أن يشهدوها من أنفسهم.
ويقول ابن عطاء الله: ودليل ما قال الشيخ رضى الله عنه أنَّ الله عَزَّ وجل وصفهم قبل ذلك بقوله: ﴿كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ﴾ [الذاريات:17].
ثم قال: ﴿وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾.
فلم يتقدم منهم في ليلهم ذنوب يكون استغفارهم منها، وقد جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سلم من صلاته استغفر الله ثلاثًا، وقال الواسطي: العبادات إلى طلب العفو عنها أقرب منها إلى طلب الإعواض عليها.
26- يقول الله تعالى: ﴿وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى﴾ [النَّجم:37].
قال رضى الله عنه : ﴿وَفَّى﴾ بمقتضى قوله: حسبي الله.
27- وقال رضى الله عنه في قوله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ المُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾ [القمر:54-55].
إن المتقين في جنات ونهر: في هذه الدار وفي تلك الدار؛ في الدنيا: في جنات العلوم وأنهار المعارف، وفي الآخرة: في الجنة التي وعدوا بها.
في مقعد صدق: في هذا الدار وفي تلك الدار.
عند مليك مقتدر: في هذه الدار وفي تلك الدار([3]).
يقول الله تعالى: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا القُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ﴾[الحشر:21]، قال رضى الله عنه : في هذه الآية مدح لسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم ؛ أي إن هذا القرآن لا تثبت له الجبال لو أنزل عليها، وأنت يا محمد ثَبَتَّ لنزوله بالقوة الربانية التي أودعنا فيك، وفيها ذم للكافرين؛ أي إن هذا القرآن لو نزل على جبل لخشع وتصدع، وأنتم ما خشعتم ولا تصدعتم.
28- قال الله سبحانه وتعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾ [التِّين:4-5].
قال رضى الله عنه : قرأت مرة ﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ﴾[التين:1]،إلى أن انتهيت إلى قوله تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾.
ففكرت في معنى هذه الآية، فكشف لي عن اللوح المحفوظ فإذا مكتوب فيه: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ روحًا وعقلًا،﴿ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾ نفسًا وهوى.
29- قال رضى الله عنه في قوله صلى الله عليه وسلم : «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة ربه، ورجل قلبه معلق بالمسجد لا يخرج منه حتى يعود إليه، ورجلانِ تحابَّا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات حسن وجمال فقال إني أخاف الله، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه من خشية الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه».
فقال الشيخ رضى الله عنه : الإمام العادل هو القلب.
ورجل قلبه معلق بالمسجد حتى يعود إليه؛ أي رجل قلبه معلق بالعرش، فإن العرش مسجد قلوب المؤمنين.
ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه؛ أي خاليًا من النفس والهوى.
ورجل تصدق بصدقة؛ أي أخفاها عن نفسه وهواه.
وكذلك قال في قوله عز وجل: ﴿إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا﴾[مريم:3]؛ أي من النفس والهوى.
فاعلم أن هؤلاء السبعة جازاهم الحق سبحانه من حيث معاملتهم إياه، أما الإمام العادل: فإنه عدل في عباد الله، فآوى المظلوم إلى ظل عدله، فآواه الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
وأما الشاب الذي نشأ في عبادة الله، فإنه آوى إلى الله معرضًا عن هواه، آويًا إلى كنف مولاه، فصنع الحقُّ معه ذلك في الآخرة جزاء، كما صنع هو ذلك مع الله في الدنيا معاملة.
وأما الرجلان اللذان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه، فإنهما تواصلا بروح الله، وتآلفا بمحبة الله، وكان ذلك منهما انحياشًا إلى اللهِ فآواهما الله بظله يوم لا ظل إلا ظله.
وأما الرجل الذي دعته امرأة ذات حسن وجمال فقال: إني أخاف الله، فإنه صلي نار مخالفة الهوى مخافةَ من المولى، وخالف بواعث الطبع المعارضة للتقوى، فلما خاف من الله هرب إليه، ولما هرب إليه ها هنا معاملة، آواه الله إليه في الآخرة مواصلة؛ فأظله الله بظله يوم لا ظل إلا ظله.
وأما الرجل الذي ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه؛ فإنه لم تفِض عيناه إلا من القرح التي أحرقت قلبه، إما حياء من الله أو شوقًا إليه، أو خوفًا من ربوبيته، أو لشهود التقصير معه، فلمَّا فعل ذلك حيث لا يراه أحد إلا الله الواحد الأحد، كان ذلك منه معاملة لله وانحياشًا إليه، بالاعتذار إليه، أو بالشوق إليه، فآوى إلى الله فأظلَّه الله، يوم لا ظل إلا ظله.
وأمَّا الرجل الذي تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه؛ فإنه قد آثر الله على نفسه ببذل الدنيا إيثارًا لحب الله على ما تحبه نفسه؛ لأن شأن النفس حب الدنيا وعدم البذل لها، فلا يبذلها إلا مَن آثر الله عليها؛ ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «والصدقة برهان»؛ أي برهان يدل على أن العبد آثر مولاه على نفسه وهواه، فلما مال هذا العبد إلى الله بالمعاملة، مَنَّ الله عليه بأن أظله في ظله يوم لا ظِلَّ إلا ظله.
وتشترك الأقسام السبعة في معنى واحد؛ فلذلك جوزوا جزاء واحدًا اشتركت في أن كلًّا من هؤلاء السبعة صلي حر مخالفة الهوى في الدنيا، فلم يُذقه الله حر الآخرة، وقد قال صلى الله عليه وسلم حاكيًا عن الله تعالى: «لا أجمع على عبدي خوفين ولا أمنين، إن أمنته في الدنيا أخفته في الآخرة، وإن أخفته في الدنيا أمنته في الآخرة».
30- وقال رضى الله عنه في قوله صلى الله عليه وسلم : «يسروا ولا تعسروا».
أي دلوهم على الله ولا تدلوا على غيره؛ فإن من دلَّك على الدنيا فقد غرك، ومن دلك على الأعمال فقد أتعبك، ومن دلك على الله فقد نصحك.
31- وقال في قوله صلى الله عليه وسلم : «رأيت الجنة فتناولت منها عنقودًا، لو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا».
فقال رضى الله عنه : الأنبياء يطالعون حقائق الأشياء والأولياء يطالعون مثلها؛ فلذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم : «رأيت الجنة» ولم يقل كأني رأيت الجنة.
32- وكان يقول في معنى حديث: «من عرف نفسه عرف ربه».
معناه من عرف نفسه بذُلِّهَا وعجزها، عرف الله بعزته وقدرته، قلت: وهذا أسلم الأجوبة، والله أعلم.
33- وقال في قوله صلى الله عليه وسلم : «السلطان ظل الله في الأرض».
هذا إذا كان عادلًا، فأما إذا كان جائرًا فهو ظل النفس والهوى.
34- وقال رضى الله عنه : «مات رجل من أهل الصُّفَّة، فوجد في شملته ديناران، فقال صلى الله عليه وسلم : «كَيَّتَانِ من نار».
قال الشيخ: وقد مات -على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم - كثير من الصحابة وتركوا أموالًا، فما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم مثل ما قال في هذا؛ لأنهم لم يبطنوا خلاف ما أظهروا، وهذا الذي كان من أهل الصفة أظهر الفاقة، وكان عنده هذان الديناران، فلما أظهر خلاف ما أبطن، قال الرسول صلى الله عليه وسلم : «كيتان من نار».
35- وقال: كان الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضى الله عنه يقول: المؤمن في الدنيا أسير، ولا فكاك للأسير إلا بإحدى ثلاث:
إما بالحيلة، وإما بالفدية، وإما بالعناية.
وما ذكره الشيخ مأخوذ من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الدنيا سجن المؤمن».
وقال الشيخ أبو العباس رضى الله عنه في تفسير هذا الحديث: وشأن المسجون التحديق بعينيه، والإصغاء بأذنيه، متى يدعى فيجيب.
المرجع : قضية التصوف ، المدرسة الشاذلية- فضيلة الإمام الأكبر الدكتور عبد الحليم محمود، مصر: دار المعارف، ط 3 ، ص 220 - 248.
([1]) وقد كتب ابن عطاء الله السكندري عن ذلك ما يلي: واعلم -رحمك الله بإقباله عليك بوده، وجعلك من الراعين لعهده- أن الله سبحانه طلب من العباد أن يعبدوه، واقتضى منهم أن يسجلوا ذلك على أنفسهم نطقًا كما قاموا به علمًا، واقتضى منهم أن يفردوه، واقتضى منهم تنظيم العبادة في جميع جوارحهم الظاهرة، وحقائق وجوداتهم الباطنة، واقتضى منهم الرُّجعى إليه من دعوى القيومية في العبادة بصدق التبري من الحول والقوة.
فلما قام العبد لله بالعبادة عملًا، اقتضى الحق أن يعترف بها نطقًا؛ ليكون ذلك معاهدة بينه وبين الحق عز
وجل، حتى إذا انفلتت نفسه عن القيام بالعبادة، وثقلت عليها ملازمة التكليف، قامت الحجة على العبد بما أعطى الله سبحانه من الاعتراف بالعبادة له، ولأنه لا يعبد غيره؛ لقوله: إياك نعبد، واقتضى من العباد أن تستوعب العبادة جميع جوارحهم الظاهرة وعوالمهم، بإتيانه بالصياغة هكذا: نعبد، وإعراضه عن التعبير بالهمزة المفردة بالمتكلم؛ لأن النون إنما تكون للواحد المعظم نفسه، أو العظيم في نفسه، وليس هذا موضع هذين المعنيين؛ إذ العبد لا يبتدئ بين يدي الله يوصف عظمته: فلم يبق إلا أن يكون للواحد ومعه غيره، وذلك ما أشرنا إليه من الجوارح الظاهرة والحقائق الباطنة، وأما أنَّه اقتضى منهم الرُّجعى إليه من دعوى القيومية في العبادة؛ لأنه لما قال: إياك نعبد، فأضاف العبادة إليهم، واقتضى منهم أن يعترفوا بذلك قيامًا بدائرة الفرق التي عليها يترتب التكليف، أردف ذلك بقوله: وإياك نستعين؛ كي لا يدَّعي العبادة معه أنهم قاموا بالعبادة بأنفسهم، فأراد منهم أن يوفوا الحقيقة حقها، والشريعة حقها، فلذلك جمع بين الامرين: القيام بالعبادة لربوبيته، والتبري من الحول والقوة مع الهيبة.
([3]) وبسط كلام الشيخ رضى الله عنه : هو أن نعيم الجنة الكائن فيها، يكون رفائقه معجلة للمتقين في هذه الدار، فما كان لهم في الجنة حسًّا، يكون لهم في هذه الدار معنى، ومثل هذه الآية قوله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ﴾[الانفطار:13]، أي في هذه الدار وفي تلك الدار، في الدنيا: في نعيم الشهود، وفي الآخرة: في نعيم الرؤية، وكذلك قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ الفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ﴾[الانفطار:14]؛أي في هذه الدار وفي تلك الدار، في هذه الدار في جحيم القطيعة، وفي تلك الدار في جحيم العقوبة، وقوله تعالى: ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ﴾[القمر:55]؛ أي في هذه الدار وفي تلك الدار، في مقعد صدق خصوصي. ﴿عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾ [القمر:55]، في هذه الدار وفي تلك الدار، في هذه الدار: لهم عندية الإمداد، وفي تلك الدار: لهم عندية الإشهاد.