السمة التي نتحدث عنها أولًا باعتبارها عنصرًا من أهم عناصر شخصية أبي العباس، إنما هي سمة المربي.
إن كبار المشايخ من كبار المربين، ولولا هذا لما كانت لهم مدارس، ولما تأتَّى أن يصلوا بالمريد إلى الله، ولقد قال أبو الحسن رضى الله عنه لزكي الدين الأسواني: يا زكي، عليك بأبي العباس، فواللهِ ليأتيه البدوي يبول على ساقيه، فلا يمسي عليه المساء إلا وقد وصله بالله.
ولقد كان رضى الله عنه يتفقد المريدين، ويتتبع أحوالهم بإلهام من الله، وبفراسة المؤمن، وبسؤالهم عن أحوالهم، وكان يقول: «ينبغي للمشايخ تَفَقُّدُ حال المريدين»، لقد كان يتفقد أحوالهم ويسأل عنهم إذا غابوا، وفي مرة قال لبعض أصحابه: لِمَ تنقطع عني؟ فقال: يا سيدي، استغنيت بك.
فقال الشيخ: ما استغنى أحد بأحد ما استغنى أبو بكر برسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينقطع عنه يومًا واحدًا.
ويقول للمريدين: يجوز للمريدين إخبار الأستاذ بما في بواطنهم، ويعلل ذلك بما معناه: إن الأستاذ كالطبيب، وحال المريد كحال المريض والمريض يكشف كل شيء للطبيب، ولا يخفي عنه شيئًا.
وفي الحقيقة كل مريد رأى له سرًّا يخفيه عن شيخه؛ فإنه أجنبي عنه، لم يَتَّحِدْ به.
ويروي ابن عطاء الله السكندري ما يلي: «كنت قلت لبعض أصحاب الشيخ: أريد لو نظر إليَّ الشيخ بعنايته، وجعلني في خاطره، فقال ذلك للشيخ: فلما دخلت على الشيخ رضى الله عنه قال: لا تطالبوا الشيخَ بأن تكونوا في خاطره، بل طالبوا أنفسكم أن يكون الشيخُ في خاطركم، فعلى مقدارِ ما يكون الشيخ عندكم، تكونون عنده.
ثم قال: أي شيء تريد أن تكون؟ والله ليكوننَّ لك شأن.
ومن دقته في مراعاة الكرامة الإنسانية للمريدين: أنه كان يكره للأشياخ إذا جاءهم مريد أن يقولوا له: قف ساعة. ويقول: إن المريد يأتي إلى الشيخ بهمته المتوقدة، فإذا قيل له: قف ساعة؛ طفئ ما جاء به.
ومع ذلك فإن للشيخ حَسَبَمَا يرى أستاذنا، أن يطالب المريد ما دام قاصرًا عن حقيقة دعواه، ولا يستمر في ذلك إلى الأبد، ولكن إذا بلغ المريد مبلغ الرجال، لم يطالبه شيخه ببرهان على دعواه؛ وذلك لخروجه عن مقام التلبيس.
وكان رضى الله عنه إذا رأى مريدًا دخل في أوراد بنفسه وهواه أخرجه منها، وكان يحب دائمًا إخراج المريدين عن هواهم، ويقول لهم مثلًا: من أحب الظهور فهو عبد الظهور، ومن أحب الخفاء فهو عبد الخفاء، ومن كان عبدًا لله فسواء عليه أظهره أو أخفاه.
ولأجل إخراج المريدين دائمًا عن هواهم، يقص عليهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سمع أبا بكر يقرأ ويخفي صوته، وسمع عمر يقرأ ويرفع صوته، فقال لأبي بكر: «لم خفضت صوتك؟»فقال: قد أسمعت من ناجيت. وقال لعمر: «لم رفعت صوتك؟»، فقال: لأوقظ الوسنان وأطرد الشيطان. فقال لأبي بكر:«ارفع قليلًا»، وقال لعمر:«اخفض قليلًا».
قال الشيخ رضى الله عنه : أراد أن يخرج كلًّا منهما عن إرادته لنفسه لمراد رسول الله صلى الله عليه وسلم له.
ويتأسى الشيخ رضى الله عنه برسول الله صلى الله عليه وسلم فيخرج المريدين دائمًا عن هواهم، وإذا رأى مريدًا يفتخر بزهده في الدنيا يقول له: يا أخي لقد عظمت الدنيا حين رأيت لها وجودًا حتى زهدت فيها، فقدرها أصغر من ذلك.
وممَّا يتصل عادة بالظهور والفخر أمران:
الأمر الأول: وهو السلوك في الزي وفي المأكل والمشرب، أن بعض المنتمين إلى التصوف يحبون المرقعات، وغليظ الطعام والشراب، وقد كان الشيخ أبو العباس يصادف رغبة من بعض المريدين في ذلك، فماذا كانت سياسته في هذا؟ وما هو رأي المدرسة الشاذلية على وجه العموم في ذلك؟.
يقول ابن عطاء الله: طريقةُ الشيخ أبي العباس وشيخه أبي الحسن رضي الله عنهما وطريقة أصحابهما: الإعراض عن لبس زي ينادي على سر اللابس بالإفشاء، ويفصح عن طريقه بالإبداء، ومن لبس الزي فقد ادَّعَى.
ويقول أبو العباس معبرًا عن رأي شيخه، وعن اتِّباعه له: دخلت على الشيخ أبي الحسن وفي نفسي أن آكل الخشن وألبس الخشن، فقال لي الشيخ: يا أبا العباس، اعرف الله وكن كيف شئت.
ويروي أبو العباس أيضًا في ذلك أنَّه دخل على الشيخ أبي الحسن فقير وعليه لباس من شعر، فلما فرغ الشيخ من كلامه دنا من الشيخ وأمسك بملبسه، وقال: يا سيدي، ما عُبِدَ اللهُ بمثل هذا اللباس الذي عليك. فأمسك الشيخ ملبسه فوجد فيه خشونة، فقال: ولا عُبِدَ اللهُ بمثل هذا اللباس الذي عليك، لباسي يقول: أنا أغنى منكم، فلا تعطوني، ولباسك يقول: أنا فقير إليكم فأعطوني.
ويعقب على ذلك ابن عطاء الله فيقول: ولا تفهم -رحمك الله- أنَّا نعيب بهذا القول على من لبس زي الفقراء، بل قصدنا أنه لا يلزم كل من كان له نصيب مما للقوم أن يلبَس ملابس الفقراء؛ فلا حرج على اللابس ولا على غير اللابس، إذا كان من المحسنين، ﴿مَا عَلَى المُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ﴾[التوبة:91].
وأما لبس اللباس اللين، وأكل الطعام الشهي، وشرب الماء البارد؛ فليس القصد إليه بالذي يوجِب العتب من الله، إذا كان معه الشكر لله.
وقد قال الشيخ أبو الحسن: يا بني، بَرِّدِ الماء، فإنك إذا شربت الماء السخن فقلت الحمد لله تقولها بكزازة، وإذا شربت الماء البارد فقلت الحمد لله؛ استجاب كل عضو منك بالحمد لله.
والأصل في هذا قول سبحانه حكاية عن موسى صلى الله عليه وسلم:﴿فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾[القصص:24].
ألا ترى كيف تولى إلى الظل قصدًا لشكر الله تعالى، على ما ناله من النعمة.
أما الأمر الثاني: مما يتصل عادة بحب الظهور، فهو إظهار الوجد في أثناء السماع، وهو ظاهرة توجد عادة في المبتدئين، وعلى الخصوص في أرباب الأحوال، وكان أبو العباس يقول في ذلك: الكامل من يملك حاله، ويتحدث أبو العباس عن اختلاف المتصوفة بالنسبة للحال، ويقسهم إلى نوعين فيقول:
عبد هو في الحال بالحال، وعبد هو في المحال بالمُحَوِّل.
فالذي هو في الحال بالحال هو عبد الحال.
والذي هو في الحال بالمُحَوِّل هو عبد المُحَوِّل.
وأما من هو في الحال بالحال، أن يتأسف عليها إذا فقدها، ويفرح بها إذا وجدها.
والذي هو في الحال بالمحول، لا يفرح بها إذا وجدها ولا يحزن عليها إذا فقدها.
ويشرح ذلك المعنى ابن عطاء الله فيقول: ومعنى كلام الشيخ هذا، أن من تحقق بالله ملك الأشياء ولم تملكه؛ فيصير الحال تحت قهر تصريفه، وإنما يكون ذلك للرجل، لرسوخه في العلم بالله، والعلم حاكم على الحال وبه يوزن، والحال إنما هو فرع من فروع العلم، والعلم قار ثابت، والحال لا بقاء لها، لذلك قالوا:
لو لم تحل ما سميت حال |
* |
وكل ما حال فقد زال |
انظر إلى الظل إذا ما انتهى |
* |
يأخذ في النقص إذا طال |
والأكابر ملكهم الله أحوالهم، وجعلهم حاكمين عليها، ومن هنا لمَّا قيل للجنيد: ما لنا نرى المشايخ يتحركون في السماع، وأنت لا تتحرك؟ فقال رضى الله عنه : ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ﴾[النمل:88].
وقيل لبعضهم: ما لك لا تتحرك في السماع؟ فقال: إنه إذا كان في الجمع كبير احتشمت منه، فأمسكت عن وجدي، فإذا خلوت وحدي، أرسلت على وجدي فتواجدت.
فانظر كيف كان زمام حاله معه، يمسكها إذا شاء، ويطلقها إذا شاء، وإذا اتسع القلب بمعرفة الله قيد الوارادت، وإنما يبدو أثر الحال على من ضاق في وسعها، والعارف له وسع المعرفة.
فإذا ورد الوارد عليه غرق في وسع معرفته، وهل رأيت بحرًا فاض بمطر سحاب؟ ولهذا جهلت أمور الأكابر أرباب المقامات، واشتهر أصل الأحوال لظهور آثار المواهب عليهم لضعفهم عن كتمها، ولضيقهم عن وسعها، فربما كان صاحب الحال أحظى بإقبال الخلق من صاحب المقام، وبينه وبينه مثل ما بين السماء والأرض، وكلما تَمَكَّنَ الرجل في العلوم الإلهية، والمعارف الربانية استغرب في هذا العالم، فيقِل من يعرفه، ويفقد من يحيط به، ومن أجل ذلك يوجه أبو العباس ملاحظة تلاميذه قائلًا: لن يصل الولي إلى الله تعالى حتى تنقطع عنه شهرة الوصول إلى الله تعالى.
ويفسر ذلك الإمام الشعراني فيقول: أي انقطاع الأدب، لا انقطاع ملل؛ لغلبة التفويض على قلبه، وهو رضى الله عنه يتابع في ذلك شيخه أبا الحسن الذي يقول: لن يصل الولي إلى الله تعالى حتى تنقطع عنه شهرة الوصول إلى الله.
وقال الشيخ أبو الحسن رضى الله عنه : لن يصل الولي إلى الله، ومعه شهوة من شهواته، أو تدبير من تدبيراته، أو اختيار من اختياراته.
ويفسر ذلك الإمام ابن عطاء الله فيقول: ومعنى كلام الشيخ رضى الله عنه : لن يصل الولي إلى الله حتى تنقطعَ عنه شهوة الوصول إلى الله؛ أي انقطاع أدب لا انقطاع مَلَل، فإنه يغلب عليه التفويض إلى الله وشهود حسن الاختيار منه، فيلقي القيادة إليه، ويترك نفسه مسلمًا بين يديه، فلا يختار مع مولاه شيئًا؛ لعلمه بما في الاختيار مع الله من الآفات. ولنا في هذا المعنى من قصيدة ذكرناها في كتاب «التنوير».
وكن عبده والقِ القيادة لحكمه |
* |
وإياك تدبيرًا فما هو نافع |
أتحكم تدبيرًا وغيرك حاكم |
* |
أأنت لأحكام الإله تنازع! |
فمحو إرادات وكل مشيئة |
* |
هو الغرض الأقصى فهل أنت سامع؟ |
كذلك سار الأولون فأدركوا |
* |
على إثرهم فليمش من هو تابع |
وما من شكٍّ في أن ابن عطاء الله يقصد أن يكون الجزم القلبي والتيقن النفسي إنما هو التفويض لله سبحانه، فليس مع تدبير اللهِ تدبير، ولا مع إرادته إرادة، ولا يتنافى هذا مع اتخاذ الأسباب، فقد قال سبحانه وتعالى: ﴿خُذُوا حِذْرَكُمْ﴾[النساء:71]،وقال سبحانه: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾[الأنفال:60].
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكم الأمر إحكامًا، وكان -من قبل إحكام الأمر، وفي أثناء إحكامه، ومن بعد إحكامه- مفوضًا كل أموره إلى الله، موقنًا بأنه سبحانه فعال لما يريد.
لا بد إذن -مع اتِّخَاذِ الأسباب- من التبري من الحول، ومن التفويض إلى الله، وكان أبو العباس يحاول تثبيت ذلك في أذهان مريديه بكل الوسائل، فيقص عليهم مثلًا قصة «سَمنون المحب» لقد قال:
وليس لي سواك حظ |
* |
فكيفما شئت فاختبرني |
فابتلي بحصر البول، واشتد به الأمر فصبر، ثم لم يصبر على الصبر فأظهر الألم، وصار يمر على الصبيان والناس، ويقول: ادعوا لعمكم الكذاب.
يقص الشيخ قصته ثم يقول: لو كان سمنون عوضَ ما قال: فكيفما شئت فاختبرني، قال: فاعفُ عني، لكان أولى من طلب الاختبار.
وإنما وقع الامتحان لسمنون؛ لغفلته عن التبري من الدعوة، فلو قال: مُدَّنِي بالقوة ثم اختبرني بما شئت، لم يمتحنه.
وكان رضى الله عنه يقول للمريدين: إذا قيل لك: أتخاف الله تعالى؟ فقل: نعم، ولكن بقدر ما خلفه من الخوف. وكذلك القول في: أتحب الله تعالى؟ فمن سلك ذلك لا يقع له امتحان لتعويله على الله، لا على قوة نفسه هو، وقد قالوا كل مُدَّعٍ ممتحَن، وهذا ميزانه، والله أعلم.
وكان يحدث المريدين بكثير من مناحي تربية أبي الحسن له، فيقول لهم مثلًا: دخلت يومًا على الشيخ أبي الحسن رضى الله عنه فقال لي:
إن أردت أن تكون من أصحابي فلا تسأل أحدًا شيئًا، وإن أتاك شيء من غير مسألة فلا تقبله، فقلت في نفسي: كانَ النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية، وقال: «ما أتاك من غير مسألة فخذه».
فقال الشيخ: كأنك تقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية، وقال: «ما أتاك من غير مسألة فخذه»، والنبي صلى الله عليه وسلم قال الله في حقه: ﴿قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالوَحْيِ﴾[الأنبياء:45]، متى أوحى الله إليك؟!.
إن كنت مقتديًا به في الأخذ فكن مقتديًا به في كيفية الأخذ، كان صلى الله عليه وسلم لا يأخذ شيئًا إلا ليثيب من يعطيه، ويعوضه عليه فإن تطهرت نفسك، وتقدست هكذا فاقبل، وإلا فلا.
ومما يسع في نسق القصة السابقة، ما أخبر به الشيخ الصالح ياقوت الحبشي بمدينة الإسكندرية في عام خمسة عشر وسبعمئة، وكان من أصحابه وخُدامه.
قال: كنت أتعبدُ في مسجد بخارج الإسكندرية، فبقيت فيه مواصلًا أيامًا، فأصابني الجوع، فدخلت الإسكندرية قاصدًا الشيخ، فوجدت في طريقي درهمًا فأردت أن اشتري به خبزًا وإدامًا فرأيت في السوق زبيبًا طيبًا، وكنت أعلم أنه يحبه؛ لأنه من بلاد الأندلس وهو كثير ببلاده، قال: فاشتريت به زبيبًا وآثرته على نفسي، وقصدت إليه فوجدته جالسًا في القلعة؛ لأنه كان يسكنها بعد الشيخ، قال: فوضعت الزبيب بين يديه، وجلست ساعة، وأردت أن أقوم فقال لي: اجلس. قال: فجلست وإذا برجل وصل إليه بمائدة فيها كبش سمين مشوي ورقاق طيب، فقال لي: هذا فتوحك لما آثرتني على نفسك وأنت جائع فكُل، فأكلت وحدي حتى تمليت([1])، ثم أمر الفقراء بأكله، وقال لي: ارفع الزبيب، وتصدق به؛ فإنا لا تباح لنا اللُّقْطَة.
ومما يتصل بذلك أنه كان يقول للمريدين: من اشترى زيتًا من بياع، فلما فرغ قال له: زدني، فزاد خيطًا، فدينُه أرق من ذلك الخيط.
ومن اشترى قمحًا فلما فرغ، قال له: زدني، فزاده فحمة، فقلبه أسود من تلك الفحمة. وقد اتفق رضى الله عنه مع أستاذه أبي الحسن على ميزان الصدق للمريد، يزن به نفسه، يقول رضى الله عنه : سمعت الشيخ أبا الحسن الشاذلي رضى الله عنه يقول: من ثبتت ولايته من الله تعالى لا يكره الموت، وهذا ميزان للمريدين ليزِنوا به نفوسهم إذا ادَّعَوْا ولايةَ الله؛ فإن من شأن النفوس وجودُ الدعوة للمراتب العالية من غير أن يسلك السبيل الموصل إليها، قال تعالى: ﴿فَتَمَنَّوُا المَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾[البقرة:94].
ولم ينس الشيخ رضى الله عنه أن ينبه المرشدين إلى فضائل معينة ليلتزموها في أنفسهم، ولتكون أساسًا يرشدهم إلى صداقة من يتحقق بها؛ يقول رضى الله عنه : قال لي شيخي: لا تصحب إلا من تكون فيه أربع خصال:
الجود من القلة، والصفح عن المظلمة، والصبر على البلية، والرضا بالقضية.
ونذكر في النهاية بعض أمثلة مِمَّا كان من توجيهات الشيخ لابن عطاء الله السكندري، لقد ذكرنا فيما مضى بعضًا منها، ونذكر الآن ما يلي:
يقول ابن عطاء الله، وسمعته يقول: أريد أن أستنسخ كتاب «التهذيب»، لولدي جمال الدين، فذهبت أنا فاستنسخته، من غير أن أعلم الشيخ، وأتيته بالجزء الأول فقال: ما هذا؟ قلت: كتاب «التهذيب» استنسخته لكم، فأخذه فلما نهض ليقوم قال: اجعل في بالك أن الولي لا يتفضل عليه أحد، تجد هذا إن شاء الله في ميزانك.
فلما أتيته بالجزء الثاني، لقيني بعض أصحابه بعد نزولي من عنده، وقال: قال الشيخ عنك: والله لأجعلنه عينًا من عيون الله، يقتدى به في العلم الظاهر والباطن.
فلما أتيته بالجزء الثالث، ونزلت من عنده لقيني بعض أصحابه، وقال: طلعت عند الشيخ فوجدت عند مجلدة حمراء، فقال: هذا استنسخه لي ابن عطاء الله، فواللهِ ما أرضى له بجلسة جده، ولكن بزيادة التصوف.
وأخبرني بعض أصحابه قال: قال الشيخ يومًا: إذا جاء ابن عطاء الله فقيه الإسكندرية فأعلموني به. فلما أتيت، أعلمنا الشيخ بك فقال تقدم، فتقدمت بين يديه، ثم قال: جاء جبريل عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه ملك، أمره الله أن يطيع أمرك في قريش، فسلم عليه ملك الجبال، وقال: يا محمد، إن شئت أطبق عليهم الأخشبين فعلت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا، ولكن أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يوحد الله، ولا يُشرك به شيئًا»، فصبر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رجاء أن يخرج من أصلابهم، كذلك صبرنا على جد هذا الفقيه لأجل هذا الفقيه.
وأخبرني سيدي جمال الدين ولد الشيخ، قال: قلت للشيخ: هم يريدون يصدرون ابن عطاء الله في الفقه. فقال الشيخ:هم يصدرونه في الفقه، وأنا أصدره في التصوف.
ودخلت أنا عليه فقال لي: إذا عوفي الفقيه ناصر الدين يجلسك في موضع جدك، ويجلس الفقيه من ناحية وأنا من ناحية، وتتكلم -إن شاء الله- في العلمين. فكان ما أخبر به رضى الله عنه.
وخرجت يومًا من عند الفقيه مكين الدين الأسمر رضى الله عنه ، وخرج معي أبو الحسن الجزيري، وكان من أصحاب الشيخ أبي الحسن فسلمت عليه، فسلم علي ببشاشة وإقبال فقلت له: من أين تعرفني؟ فقال: وكيف لا أعرفك؟ كنت يومًا جالسًا عند الشيخ أبي العباس، وكنت أنت عنده، فلمَّا نزلت قلت له: يا سيدي، إنه ليعجبني هذا الشاب، انقطع فلان وفلان عن الملازمة، وهذا الشاب ملازم. قال: فقال الشيخ أبو العباس: لن يموت هذا الشاب حتى يكون داعيًا يدعو إلى الله. فكان كما قال الشيخ، ولله الحمد.
وكان رضى الله عنه يلقن للوسواس: سبحان الملك الخلاق، ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ(١٩)وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ﴾[إبراهيم:18-19].
وعملت قصيدة أمدحه بها -سيأتي ذكرها إن شاء الله آخر الكتاب- فقال حين أنشدت: أيدك الله بروح القدس.
ثم عملت قصيدة بإشارته جوابًا لقصيدة مدحه بها إنسان من بلاد أخميم -وسيأتي ذكرها أيضًا آخر الكتاب إن شاء الله تعالى- فلما قرأت عليه قال: هذا الفقيه صحبني وبه مرضان، وقد عافاه الله منهما، ولا بد أن يجلسَ ويتحدث في العِلمين، يشير الشيخ إلى مرض الوسوسة؛ فلقد انقطع عني ببركة الشيخ حتى صرتُ أخاف أن أكون لشدة التوسعة التي أجدها قد تساهلتُ في بعض الأمور، والمرض الآخر كان بي ألمٌ برأسي فشكوت ذلك إليه، فدعا لي، فعافاني الله وشفاني.
وبت ليلة من الليالي مهمومًا، فرأيت الشيخ في المنام، فشكوت إليه ما أنا فيه، فقال: اسكت، والله لأعلمنك علمًا عظيمًا، فلما استيقظت أتيت إلى الشيخ رضى الله عنه ، فقصصت عليه الرؤيا، فقال: هكذا تكون إن شاء الله.
وقدم يومًا من السفر، فخرجنا للقائه، فلما سلمت عليه، قال: يا أبا أحمد، كان الله لك، ولطف بك، وسلك بك سبيل أوليائه، وبهَّاك بين خلقه؛ فلقد وجدت بركة هذا الدعاء. وعلمت أنه لا يمكنني الانقطاع عن الخلق، وأني مراد بهم لقوله: «وبهاك بين خلقه». اهـ.
لقد ذكرنا كل ذلك في صلة الشيخ بابن عطاء الله؛ لنذكر صورة قريبة من الواقع في الارتباط الوثيق بين الشيخ ومريديه، وهذه الصورة هي التي نَصِفُهَا مثالًا وضاءً لأئمة التصوف مع مريديهم، لقد كان رضى الله عنه :
(أ) يتفقد حال المريدين، ويسأل عما ظهر من أحوالهم وعما خفي.
(ب) وكان يخرجهم عن هواهم، ويتحرى أن يصرف عنهم حب الظهور سواء أكان ذلك عن طريق لبس المرقعات، أم عن طريق غيرها.
(جـ) وكان رضى الله عنه يوجههم إلى أن يسموا بهممهم إلى معالي الأمور، متسامين عن صغارها.
(د) وكانت تربيته جماعية وفردية: أي إنه كان يتحدث عن أمراض عامة، ولا يقتصر على ذلك، بل يعالج كل فرد بما يتناسب مع مرضه الخاص، لقد كان مربيًا كاملًا.
المرجع : قضية التصوف ، المدرسة الشاذلية- فضيلة الإمام الأكبر الدكتور عبد الحليم محمود، مصر: دار المعارف، ط 3 ، ص 186 - 197.