نسخة تجريبيـــــــة
حياته

إنها رؤية رمزية لطيفة، تعبر في عمق عميق وفي دقة دقيقة عن مكانة العارف بالله أبي العباس المرسي من شيخه أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنهما.

يروي ابنُ عطاء الله السكندري في كتابه اللطيف «لطائف المنن» ما يلي: وأخبرني بعض أصحابنا قال: «رأى إنسان من أهل العلم والخير كأنه بالقرافة الصغرى، والناس مجتمعون يتطلعون إلى السماء، وقائل يقول: الشيخ أبو الحسن الشاذلي ينزل من السماء، والشيخ أبو العباس مرتقب لنزوله متأهب له، فرأيتُ الشيخ أبا الحسن قد نزل من السماء، وعليه ثيابٌ بيض، فلما رآه الشيخ أبو العباس ثبت رجليه في الأرض وتهيأ لنزوله عليه، فنزل الشيخ أبو الحسن عليه، ودخل في رأسه حتى غاب فيه، واستيقظت». اهـ.

هذا الرمز الجميل لصلة أبي العباس بالشاذلي، هذا الرمز الذي يشير إلى الاتحاد بينهما في المنهج والفكر والسلوك، يجاريه ويسير معه في نسق واحد، ما رواه ابن عطاء الله أيضًا، قال: من المشهور بين أصحاب الشيخ أبي الحسن وغيرهم، أن الشيخ كان يومًا بالقاهرة في دار الزكي السراج، وكتاب «المواقف» للنُّفَّرِيِّ يقرأ عليه، فقال: أين أبو العباس؟ فلما جاء قال: يا بني تكلم، يا بني تكلم بارك الله فيك، تكلم ولن تسكت بعدها أبدًا.

فقال الشيخ أبو العباس: فأعطيت في ذلك الوقت لسان الشيخ.

ويجاريه أو يتطابق معه في صورة جميلة أيضًا ما قاله الشاذلي }له: «يا أبا العباس، ما صحبتك إلا لتكون أنت أنا وأنا أنت».

لم يمت الشاذلي }حين مات، وإنما غاب في أبي العباس أو بقي في أبي العباس، لقد كان أبو العباس امتدادًا للشاذلي، فقد غاب فيه، وكان لسانه، وكان هو هو، وكان الشاذلي هو الحلقات الأولى في الطريق، وأخذت هذه الحلقات تتسلسلُ متحدة لألاءة على مر الزمن، فكانت مدرسة بدأهَا في قوة قوية أبو الحسن، وتابعه وترسَّم خطاه على هدى وعلى بصيرة من تبعه، وكان على رأس التابعين أبو العباس.

ولقد كان الشاذلي يحب أبا العباس كما يحب الإنسان صورة لنفسه، أو كما يحب أثرًا من آثاره، أو كما يحب ابنًا نجيبًا من أبنائه.

وتقدير الشاذلي لأبي العباس تقدير جميل، إنه يذكره غير مرة مبصرًا للناس بشأنه فيقول عنه مرة: هذا أبو العباس، منذ نفذ إلى الله لم يحجب عنه، ولو طلب الحجاب لم يجده.

ويقول مرة أخرى للشيخ الصالح زكي الدين الأسواني: يا زكي، عليك بأبي العباس، فو الله إنه ليأتيه البدوي يبول على ساقيه، فلا يمسي عليه المساء إلا وقد وصله إلى الله، يا زكي عليك بأبي العباس، فو الله ما من ولي لله كان أو هو كائن إلا وقد أطلعه الله عليه، يا زكي، أبو العباس هو الرجل الكامل.

ومرة ثالثة يقول عنه: أبو العباس بطرق السماء أعرف منه بطرق الأرض.

وكان يشيد به، ويعرف الناس بمكانته الروحية العالية، يقول الشيخ ماضي بن سلطان: وقع بيني وبين أبي العباس كلام، فسمعني الشيخ فقال لي: يا ماضي، الزم الأدب مع أبي العباس، فو الله إنه لأعرف بأزقة السماء أكثر مما تعرف أنت أزقة الإسكندرية.

ولقد كان أبو العباس من جانبه وفيًّا كل الوفاء لتربية شيخه وتعاليمه، وقد كان يذيعها معترفًا بفضله وفضلها، فمن ذلك مثلًا أنه كان يفسر قوله تعالى: ﴿لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ العُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾[التوبة:117-118].

فأخذ يقول عن شيخه أبي الحسن رضي الله عنهما: ذكر توبة ما لا يذنب، لئلا يستوحش من أذنب؛ لأنه ذكر النبي >والمهاجرين والأنصار ولم يذنبوا، ثم قال: ﴿وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا﴾فذكر من لم يذنب ليؤنس من أذنب، فلو قال أولًا: لقد تاب الله على الثلاثة الذين خلفوا؛ لتفطرت أكبادهم.

ولقد كثر حديثه عن شيخه فكان يقول كثيرًا: قال الشيخ، قال الشيخ، فقال له إنسان: لا نراك أبدًا تسند لنفسك كلامًا؟ فقال }:

لو أردت عدد الأنفاس أن أقول: قال الله عز وجل، لقلت.

لو أردت عدد الأنفاس أن أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لقلت.

ولو شئت أن أقول عدد الأنفاس: قلت أنا، لقلت.

ولكن أقول: قال الشيخ، وأترك نفسي أدبًا.

وروى صاحب «درة الأسرار»، قال: ومن مكاتباته من الإسكندرية يجاوب بعض أصحابه بتونس، ووقفت على هذا الكتاب بخطه }، كتاب طويل يسأله عن الحال، ويقول في آخره:

«والأحوال ما هي إلا كما تعهد، وأني صحبت رأسًا من رءوس الصديقين، وأخذت منه سرًّا لا يكون إلا لواحد بعد واحد، والشرح يطول، وبه أفتخر، وإليه أنسب، }وهو أبو الحسن الشاذلي، وكان لا يصحبه أحد إلا فتح الله له في يومين أو ثلاثة؛ فإن لم يجد شيئًا بعد ثلاثة أيام فهو كذاب، أو يكون صادقًا ولكنه أخطأ الطريق، ودليله من كتاب الله عز وجل:

﴿قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا﴾[آل عمران:41].

وكان يقول: إذا عرضت لك إلى الله حاجة فأقسم عليه بي، فكنتُ واللهِ لا أذكره في شدة إلا انفرجت، ولا على أمر صعب إلا هانَ، وأنت يا أخي إذا كنتَ في شدة فأقسم على الله به، وقد نصحتك والله يعلم ذلك، والسلام.

وهذا كله توضيحٌ للرؤيا التي صَدَّرْنَا بها هذا الفصل، وهي مع ذلك في دقتها الدقيقة غير مُحتاجة إلى توضيح، والواقع أن أبا الحسن }كان امتدادًا لأبي العباس في الماضي، وكان أبو العباس امتدادًا له بعد انتقاله.

ومن الطريف في الرؤيا أنها تذكر أن أبا العباس عندما رأى الشيخ نازلًا من السماء ثبت رجليه في الأرض، وتهيأ لنزوله عليه، وهذا يشير إلى أن محاولة أبي العباس أن يكون في وحدة واحدة مع الشاذلي رضي الله عنهما لم تكن سهلة، وإنما احتاجت إلى جهد عبَّر عنه بتثبيت الرِّجلين في الأرض، والتهيؤ للنزول، ويرشد من جانب آخر إلى أن مقام أبي الحسن مقامٌ كبير يحتاج تمثله إلى جهد غير هَيِّنٍ.

المرجع : قضية التصوف ، المدرسة الشاذلية- فضيلة الإمام الأكبر الدكتور عبد الحليم محمود، مصر: دار المعارف، ط 3 ، ص 175 - 178.


التقييم الحالي
بناء على 3 آراء
أضف إلى
أضف تعليق
الاسم *
البريد الإلكتروني*
عنوان التعليق*
التعليق*
البحث