نسخة تجريبيـــــــة
أبو العباس المرسى مكافحا

من أظهر السمات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم  سمة الكفاح والعمل، وما من شك في أنه صلى الله عليه وسلم  كان يتجه إلى الله بكل أعماله، فكانت كلها -من أجل ذلك- عبادة.

ولقد كافح رسول الله صلى الله عليه وسلم  طيلة حياته في جميع الميادين التي تقربه إلى الله تعالى، والتي ترقى به كفرد، وترقى بالمجتمع في دوائره التي تتسع متدرجة، مبتدئة من الأسرة حتى تشمل الإنسانية كلها، وما كان هذا الكفاح إلا من أجل الله، وفي الله، ورسول الله صلى الله عليه وسلم  هو القائل: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه».

وهو الذي أخبر أن إماطة الأذى عن الطريق من الإيمان، وأن اللقمة التي تضعها في فم امرأتك تريد بذلك وجه الله صدقة، وأن النطفة تضعها في الحلال، لك عليها ثواب، وحينما قال ذلك استغرب الأمر بعض الصحابة فقالوا: أيأتي أحدنا شهوته، ويؤجر عليها؟ فقال صلى الله عليه وسلم  ما معناه: «أرأيتم لو وضعها في حرام، أما كان عليه وزر؟ فكذلك لو وضعها في حلال كان له أجر».

إن العمل والكفاح وإرادة وجه الله بالعمل والكفاح من سمات الإسلام، ومن سمات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولقد ترسم كبار الصوفية هذه الخطوات المباركة فكانت حياتهم عملًا وكفاحًا يريدون به وجه الله تعالى، وسار أبو العباس المرسي على هذا النسق بالنسبة لنفسه، وبالنسبة لكل من يتبعه.

روى ابن عطاء الله، بعد أن اتصل بالشيخ، وانتظم في مجالسه أنه سمع الطلبة يقولون: من يصحب المشايخ «أي الصوفية» لا يجئ منه في العلم الظاهر شيء، يريد ابن عطاء الله، ويريد الطلبة بذلك، أن المشايخ يوجهونه نحو العبادة، ويصرفونه عن العلم المكتسب والدروس -نحوًا وصرفًا كانت، أو فقهًا وأصولًا- أو غير ذلك، ويقول ابن عطاء الله -وكان إذ ذاك طالبًا- فشق علي أن يفوتني العلم، وشق علي أن تفوتني صحبة الشيخ رضى الله عنه ؛ فأتيت إلى الشيخ فوجدته يأكل لحمًا بخَلٍّن فقلت في نفسي: ليت الشيخ يطعمني لقمة من يده. فما استتممت الخاطر إلا وقد دفع في فمي لقمة بيده ثم قال:

«نحن إذا صحبنا تاجرًا، ما نقول له اترك تجارتك وتعال. أو صاحب صنعة، ما نقول له اترك صنعتك وتعال. أو طالب علم، ما نقول له اترك طلبك وتعال. ولكن نقر كل أحد فيما أقامه الله فيه، وما قسم له على أيدينا فهو واصل إليه، وقد صحب الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما قال لتاجر: اترك تجارتك. ولا لذي صنعة: اترك صنعتك. بل أقرهم على أسبابهم وأمرهم بتقوى الله فيها». اهـ.

ويبدو أن ابن عطاء الله تطورت به الأحوال، فأصبح ما كان يشق عليه مرغوبًا، وما كان ينفر منه مطلوبًا؛ فقد ذهب إلى الشيخ يومًا، ودخل عليه وفي نفسه ترك الأسباب، والتجريد، وترك الاشتغال بالعلم الظاهر وحدثته نفسه بأن الوصول إلى الله لا يكون إلا على هذه الحالة وعلى هذا الوضع؛ فقال الشيخ له من غير أن يبدي له ابن عطاء الله شيئًا من الأمر: صحبني بقوص إنسان يقال له ابن ناشي، وكان مدرسًا بها ونائب الحكم، فذاق من هذا الطريق شيئًا على أيدينا، فقال: «يا سيدي، أترك ما أنا فيه، وأتفرغ لصحبتك؟.

فقلت له: ليس الشأن ذا، ولكن: امكث فيما أقامك الله فيه، وما قسم لك على أيدينا فهو لك واصل، ثم قال: وهذا شأن الصديقين، لا يخرجون من شيء، حتى يكون الحق سبحانه هو الذي يتولى إخراجهم.

يقول ابن عطاء الله: فخرجت من عنده وقد غسل الله تلك الخواطر من قلبي، وكأنما كانت ثوبًا نزعته ورضيت عن الله فيما أقامني فيه». اهـ.

ومن المعروف عن أبي العباس أنه كان لا يحب المريد الذي لا سبب له، وأنه كان يقتني الخيل ويعني بشأنها، فيسأل عن طعامها وشرابها متفقدًا أحوالها.

وسيرًا على قاعدته هذه، في العمل واتخاذ الأسباب، كانت له توجيهات جميلة في شرح القرآن، من ذلك مثلًا: أنه تحث عن بعض آيات تتعلق بمريم رضي الله عنها، هي قوله تعالى: ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [آل عمران:37].

ثم قال الله فيما بعد: ﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا﴾[مريم:25].

يقول الشيخ رضى الله عنه : فذكر بعض الناس في هذا تأويلًا لا يرضي، ولا ينبغي أن يلتفت إليه، وهو أنها كان حبها لله وحده، فلما ولدت انقسم حبها، وليس الأمر كما قال هذا القائل؛ لأنها صِدِّيقَةٌ كما أخبر الله عنها بقوله: ﴿وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ﴾[المائدة:75]، والصديق والصديقة لا ينتقلان من حالة إلا إلى أكمل منها.

ولكنها كانت في بدايتها متعرفًا إليها بخرق العادات وسقوط الأسباب، فلما تكمل يقينها أرجعت إلى الأسباب، فالحالة الثانية أتم من الحالة الأولى.

ومما يتصل بالموضوع حديثه عن التاجر الصدوق، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «التاجر الصدوق يحشر مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين»، فقال رضى الله عنه : «بأي طريق يحشر مع النبيين؟ وبأي طريق يحشر مع الصديقين؟ وبأي طريق يحشر مع الشهداء؟ وبأي طريق يحشر مع الصالحين؟

يحشر مع النبيين؛ فإن الأنبياء شأنهم أداء الأمانة وبذل النصيحة، فيحشر مع الأنبياء بهذا الوصف، وهذا التاجر أدى الأمانة وبذل النصيحة.

ويحشر مع الصديقين؛ لأن الصديق شأنه الصفاء في الظاهر والباطن قد استوى ظاهره وباطنه، والتاجر الصدوق كذلك؛ فيحشر مع الصديقين بهذا الوصف.

ويحشر مع الشهداء؛ فإن الشهيد شأنُه الجهاد، والتاجر الصدوق يجاهد نفسه وشيطانه وهواه، فيحشر مع الشهداء بهذا الوصف.

ويحشر مع الصالحين؛ فإن الصالح شأنه أخذ الحلال وترك الحرام، فيحشر مع الصالحين بهذا الوصف». اهـ.

ولا يتنافى التصوف مع الكفاح والعمل والغنى والثراء؛ فلقد كان أبو الحسن الشاذلي رضى الله عنه  من كبار المزارعين، وهو القائل: لكل ولي حجاب، وحجابي الأسباب.

ونذكر القصة التالية، يرويها ابن عطاء الله يصف فيها عارفًا بالله من كبار الأثرياء، ولكن الدنيا كانت في يده لا في قلبه، يقول ابن عطاء الله: «وقد يكون حجاب الولي كثرة الغنى وانبساط الدنيا عليه»، وقال بعض المشايخ: كان رجل بالمغرب من الزاهدين في الدنيا، ومن أهل الجِدِّ والاجتهاد وكان عيشه مما يصيده من البحر، وكان الذي يصيده يتصدق ببعضه ويتعيش ببعضه، فأراد بعض أصحاب هذا الشيخ أن يسافر إلى بلد من بلاد المغرب، فقال له هذا الشيخ: إذا دخلت إلى بلد كذا، فاذهب إلى أخي فلان، فأقرئه مني السلام، وتطلب الدعاء منه لي؛ فإنه ولي من أولياء الله تعالى.

قال: فسافرت حتى قدمت تلك البلدة، وسألت عن ذلك الرجل، فدللت على دار لا تصلح إلا للملوك، فتعجبت من ذلك، وطلبته فقيل لي: هو عند السلطان، فازداد تعجبي، فبعد ساعة، وإذا هو آتٍ في أفخر ملبس وموكب، وكأنما هو ملك في موكبه، قال فازداد تعجبي أكثر من الأول.

قال: فهممت بالرجوع وعدم الاجتماع به، ثم قلت: لا يمكنني مخالفة الشيخ، فاستأذنت فأذن لي، فلما دخلت رأيت ما هالني من العبيد والخدم والشارة الحسنة، فقلت له: أخوك فلان يسلم عليك. قال: جئت من عنده؟ قلت: نعم. قال: إذا رجعت إليه قل له: إلى كم اشتغالك بالدنيا، وإلى كم إقبالك عليها، وإلى متى لا تنقطع رغبتك فيها!.

فقلت: هذا والله أعجب من الأول. فلما رجعت إلى الشيخ. قال: اجتمعت بأخي فلان؟ قلت: نعم. قال: فما الذي قال لك؟ قلت: لا شيء. قال: لا بد أن تقول لي. فأعدت عليه ما قال فبكى طويلًا، وقال: صدق أخي فلان، هو غسل الله قلبه من الدنيا، وجعلها في يده وعلى ظاهره، وأنا آخذها من يدي وعندي إليها بقايا التطلع». اهـ.

ويظن بعض الناس أن الصوفية بعيدون عن جو العمل والكفاح، هذا يخالف ما عرف عن حياتهم من أنها كانت نضالًا لا يفتر، نضالًا في سبيل الدعوة، وهم الذين نشروا الإسلام على نطاق واسع في ربوع أفريقيا وفي آسيا، ونضالًا في سبيل الإصلاح الأخلاقي في المجتمع، وقد كانوا دائمًا مثلًا للهداية بأقوالهم وسلوكهم، ومثلهم الأعلى في النضال والكفاح هو رسول الله صلى الله عليه وسلم .

 

المرجع : قضية التصوف ، المدرسة الشاذلية- فضيلة الإمام الأكبر الدكتور عبد الحليم محمود، مصر: دار المعارف، ط 3 ، ص 206 - 210.

 


التقييم الحالي
بناء على 4 آراء
أضف إلى
أضف تعليق
الاسم *
البريد الإلكتروني*
عنوان التعليق*
التعليق*
البحث