أقام أبو العباس المرسي في الإسكندرية ثلاثًا وأربعين سنة، ينشر العلم ويهذب النفوس، ويضرب المثل بورعه وتقواه إلى أن انتقل إلى جوار ربه في الخامس والعشرين من ذي القعدة سنة 685هــ، ودفن في الإسكندرية في مقبرة باب البحر، إلى أن كان سنة 706هــ حين رأى الشيخ زين الدين بن القطان كبير تجار الإسكندرية رؤيا، فبنى عليه مسجدًا، وقد خضع هذا المسجد لتطورات كثيرة حيث أعاد بناءه الأمير قجاش الإسحاقي الظاهري والي الإسكندرية في أواخر القرن التاسع الهجري، وبنى لنفسه قبرًا فيه، وفي سنة 1005هــ جدد بناءه الشيخ أبو العباس النسفي، ودفن فيه بعد وفاته، وفي سنة 1189هـ زار الإسكندرية الشيخ أبو الحسن علي بن عبد الله المعزي وجدد معظم أجزاء المسجد ووسع بعض نواحيه، وفي سنة 1280هــ جدده أحمد الدخاخني شيخ طائفة البنائين، وأوقف عليه أوقافًا كثيرة.
وفي سنة 1927م أعدت وزارة الأوقاف مشروعًا لإعادة بناء المسجد، وإنشاء ميدان فسيح أمامه، ووضعت الأسس للبناء الجديد في أوائل سنة 1929م، وتم المسجد في سنة 1944م؛ فأصبح أجمل مساجد المدينة.
ولقد كان مسجد أبي العباس المرسي مركز تجمعٍ للمظاهرات الشعبية التي قام بها السكندريون خلال ثورة سنة 1919م؛ إذ كانت تخرج منه مخترقة أحياء المدينة، كما اتخذ منه رجال الدين ملتقى يجتمعون عنده، ويبثون من على منبره الدعوة إلى الكفاح والتضحية في سبيل الحرية والعدالة.
ويقول أحد المؤرخين القدامى: وحَدَّثني قاضي القضاة بالإسكندرية قال: قبر سيدي أبي العباس عندنا ترياق مجرب، ما قصد الله عنده أحد في شيء إلا استجاب له، كما قال أهل بغداد في قبر سيدنا معروف الكرخي }.
وكان قبره في جبانة عليها حائط قصير، ارتفاعه قدر ثلاثة أذرع وفي قبلة الجبانة محراب للصلاة، وعلى قبره سارية مكتوب فيها: ﴿يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ المُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 171]، إلى قوله: ﴿وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾ [آل عمران: 174].
وفيها تاريخ وفاته كما تقدم.
قال: فبنى عليه زين الدين المذكور، لمَّا رأى هذه الكرامة، ورد الله عليه ما ذهب عنه بناءً عظيمًا، ومسجدًا للصلاة، وصومعة للأذان من أحسن صوامع الإسكندرية؛ وحبس عليها حبسًا كبيرًا للمؤذن والإمام والمقيم، وصار رمزًا عظيمًا ومقامًا كريمًا.
نفعنا الله ببركاته في الدنيا والآخرة؛ إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبيه الأمين، وعلى آله وأصحابه ومن اتبع هديه إلى يوم الدين.
المرجع : قضية التصوف ، المدرسة الشاذلية- فضيلة الإمام الأكبر الدكتور عبد الحليم محمود، مصر: دار المعارف، ط 3 ، ص 278 - 279.