نسخة تجريبيـــــــة
أبو العباس المرسى صوفيا

إن أبا العباس صوفي قبل أن يكون شيئًا آخر، إنه صوفي بطبعه وفكرته، وهو صوفي بأخلاقه وسلوكه، وهو صوفي بتربيته وثقافته، وهو كما يقول الشاذلى رضي الله عنهما: «أعرف بطرق السماء منه بطرق الأرض».

ولقد كان يأتيه أصحاب الحاجات، فيعلن إليهم في صراحة: أنه لن يحاول التحدث في حاجاتهم مع فلان وفلان من ذوي النفوذ، وممن يتصل قضاء الحوائج بهم، ولكن سيلجأ في قضاء حاجاتهم إلى الله داعيًا وسائلًا، فإذا اطمأنت نفوسهم بذلك، اتجه إلى الله بالتضرع والدعاء في قضاء حوائجهم، وسنحاول -بتوفيق الله- بيان التصوف عنده في ألوانه المختلفة وزواياه المتعددة، وسنحاول -إن شاء الله- بيان رأيه في التصوف وفي معناه، وبيان ألوان من التفسير الصوفي للقرآن، وشرحه الصوفي لبعض الأحاديث، ورأيه في بعض الصوفية، وفهمه لبعض آرائهم([1]).

التصوف لفظًا ومعنى: أما عن اسم التصوف ومعناه، فإنه يقول: اختلف الناس في اشتقاق الصوفي؛ منهم من قال إنه منسوب إلى الصوف لأنه لباس الصالحين، وقيل: هو منسوب إلى الصُّفَّة؛ يعني صُفَّة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم  التي ينسب إليها أهل الصفة، وهو نسب على غير قياس.

ثم قال: وأحسن ما قيل فيه: إنه منسوب لفعل الله به؛ أي صافاه الله فصوفي، فسمي صوفيًّا، ثم أنشد }:

 

تخالف الناس في الصوفي واختلفوا

*

وكلهم قال قولًا غير معروف

ولست أمنح هذا الاسم غير فتى

*

صافىفصوفي حتى سمي الصوفي

 

ويقول: الصوفي مركب من حروف أربعة:

الصاد، والواو، والفاء، والياء.

فالصاد: صبره، وصدقه، وصفاؤه.

والواو: وجده، ووده، ووفاؤه.

والفاء: فقده، وفقره، وفناؤه.

والياء: ياء النسبة، إذا تكمل فيه ذلك أضيف إلى حضرة مولاه.

التوبة عند الشيخ أبى العباس المرسى:

وأول قدم في طرق الله إنما هو التوبة، ورأي الشيخ في التوبة يتبين من القصة التالية؛ فقد ذكر } الحكاية المشهورة التي ذكرها أبو القاسم القشيري في رسالته وهي كما يلي: قال الجنيد: دخلت على السَّرِيِّ فوجدته متغيرًا، فقلت: ما بالك يا أستاذ متغيرًا؟ فقال: دخل عليَّ شاب آنفًا فقال لي: ما التوبة؟ فقلت له ألَّا تنسي ذنبك. فقال: بل التوبة أن تنسي ذنبك. فماذا تقول أنت يا أبا القاسم؟ قال فقلت: القول عندي ما قال الشاب؛ لأني إذا كنت في حال الجفاء، ثم نقلني إلى حال الصفاء، فذكر الجفاء وقت الصفاء جفاء.

ذكر أبو العباس ذلك، ثم قال: كلام السَّرِيِّ أتم من كلامهما؛ لأن كلام السري يدل على مبادئ المقامات، وكذلك القدوة يلزم بالكلام على مقامات العباد: بدايتها ونهايتها، وإنَّما تأتي النهايات من البدايات، والجنيد لم يكن في ذلك الوقت بمقام أن يكون قدوة وكذلك الشاب، فتكلما على أحوال أهل الارتقاء في نهايتهم، فكلاهما يخص حالهما، وكلام السري مهيع مورد للسالكين، وباب التوبة مفتوح لكل لاجئ إلى الله، ويتكاتف الصوفية على ألَّا يقنطوا أحدًا من رحمة الله، ومن طريف ذلك أن الإمام القشيري بدأ رسالته الجليلة بالكتابة عن إبراهيم بن أدهم، والفضيل بن عِياضٍ، ويفسر شيخنا هذه اللمحة من القشيري بقوله:

إنَّما بدأ القشيري في رسالته بالفُضيل بن عياض وإبراهيم بن أدهم؛ لأنهما كانا قد تقدم لهما زمن قطيعة ثم أقبلا، فأقبل الله عليهما، فبدأ بذكرهما بسطًا لرجاء المريدين الذين تقدمت منهم الزَّلَّاتِ، وسبقت منهم المخالفات، ثم رجعوا إلى استقراع أبواب العنايات؛ إذ لو بدأ بالجنيد، وسهل بن عبد الله التستري، وعتبة الغلام، وأمثالهم ممن نشأ في طريق الله؛ لقال القائل: ومن يدرك هؤلاء؟! هؤلاء لم تسبق منهم زلات، ولم تتقدم منهم مخالفات.

ويسير الشيخ في فتح باب الأمل في رحمة الله إلى النهاية، حتى لقد قال }في قول بعضهم: لا يكون الصوفي صوفيًّا حتى لا يكتب عليه صاحب الشمال شيئًا عشرين سنة.

ليس معنى ذلك ألاّ يقع منه ذنب عشرين سنة، ولكن معناه أنَّه إذا أذنب الذَّنْبَ استغفر الله منه، والملك الموكَّل بكتب السيئات لا يكتب السيئة، حتى ينتظر العبد لعلَّه أن يرجع أو يتوب، وكلما أراد أن يكتبها قال له ملك اليمين: امكث؛ فعسى أن يتوب. إلى أن يبلغ عددًا إما السبع وإما العشر «الشك مني» فحينئذ يكتبها سيئة فلذلك جاء صاحب اليمين أميرًا على صاحب الشمال.

الطاعة والمعصية عند الشيخ أبى العباس المرسى:

ومهما يكن من شيء؛ فإن الفرق واضح بين معصية المؤمن ومعصية الفاجر، وهو كما يذكر الشيخ من ثلاثة أوجه: المؤمن لا يعزم عليها قبل فعلها، ولا يفرح بها وقت الفعل، ولا يصر عليها، والفاجر ليس كذلك.

ويبين أبو العباس جوانب الإنسان التي تتصل بالطاعة والمعصية، ويرسم لكل جانب كماله ونقصه ووفاءه وسقوطه، فيقول:

اعلم أن الله خلق هذا الآدمي وقسَّمه على ثلاثة أجزاء:

فلسانه جزء، وجوارحه جزء، وقلبه جزء، وجعل على كل جزء حفيظًا، فقال سبحانه وتعالى: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾[ق:18].

وقال سبحانه وتعالى:﴿وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ﴾[يونس:61].

وتولى حفظ القلب بنفسه فقال عز وجل:﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ﴾[البقرة:235].

وسلط على الجوارح الشيطان، واقتضى من كل جزء وفاءَ ما ألزم به، فوفاء القلب ألا يشتغل بهم دنيا، ولا بمكر ولا بحسد.

ووفاء اللسان: ألا يغتاب ولا يكذب، ولا يتحدث فيما لا يعنيه.

ووفاء الجوارح: ألا يسارع بها إلى معصية، ولا يؤذي أحدًا من المسلمين.

فمن وقع من قلبه فهو منافق، ومن وقع من لسانه فهو كافر، ومن وقع من جوارحه فهو عاصٍ.

أوقات الإنسان والوقفة منها عند الشيخ أبى العباس المرسى:

ويقسم شيخنا أوقات الإنسان إلى أربعة لا خامس لها، هي: النعمة والبلية والطاعة والمعصية، ثم يقول: ولله عليك في كل وقت منها سهم من العبودية، يقتضيه الحق منك بحكم الربوبية.

فمن وقته الطاعة فسبيله شهود المنة من الله تعالى؛ إذ هداه الله لها، ودفعه للقيام بها.

ومن كان وقته المعصية عليه: فسبيله الاستغفار والتوبة.

ومن كان وقته النعمة: فسبيله الشكر، وهو مزج القلب بالله.

ومن كان وقته البلية: فسبيله الرضا بالقضاء والصبر، والرضا رضا النفس من الشهوات، والصبر مشتق من الاصطبار، وهو الغرض للسهام، وكذلك الصابر ينصب نفسه غرضًا لسهام القضاء، فإن ثبت لها فهو صابر، والصبر ثبات القلب بين يدي الرب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

«من أعطي فشكر، وابتلي فصبر، وظلم فغفر، وظلم فاستغفر» ثم سكت. فقالوا: ثم ماذا له يا رسول الله؟ قال: «أولئك لهم الأمن وهم مهتدون».

الخوف من الله عند الشيخ أبى العباس المرسى:

وإذا سئلت عما يزعج الناس من الغفلة إلى عروج سبيل الله، فإنه التنبه بسبب الخوف من الله.

والخوف -فيما يرى إمامنا- على قسمين: خوف العامة، وخوف الخاصة، فخوف العامة على أجسادهم من النار([2])، وخوف الخاصة على خلعهم التي كساهم مولاهم أن تُدَنَّسَ بالمخالفة، فعبروا الدنيا وقد رفعوا ملابس المنن؛ خشية أن تدنس بأوساخ المخالفة؛ كي يقوموا عليه بخلعه التي أنعم بها عليهم، ونَهَضُوا له بالوفاء فيما اقتضى منهم، وبالأمانة والصيانة فيما استأمنهم، وقال }: العامة إذا خُوفوا خافوا، وإذا رجوا رجوا([3])، والخاصة متى خوفوا رجوا، ومتى رجوا خافوا.

الذكر عند الشيخ أبى العباس المرسى:

وبعد التوبة الخالصة النصوح يكون الذكر، ولأبي العباس أذكار وأوراد كثيرة، وسنذكر بعضها فيما بعد، ولكننا الآن نقول: إنه ينصح بالذكر باسم «الله».

قال }لبعض أصحابه: ليكن ذكرك «الله»؛ فإن هذا الاسم سلطان الأسماء، وله بساط وثمرة، فبساطه العلم، وثمرته النور، ثم النور ليس مقصودًا لنفسه، وإنما ليقع به الكشف والعِيان، وجميع أسماء الله للتخلق إلا اسمه «الله» فإنه للتعلق.

يقول ابن عطاء الله: ومعنى كلام الشيخ هذا: أنك إذا ناديته: يا حليم؛ خاطبك من اسمه الحليم: أنا الحليم، فكن عبدًا حليمًا.

وإذا ناديته باسمه الكريم، خاطبك من اسمه الكريم: أنا الكريم؛ فكن عبدًا كريمًا.

وكذلك سائر أسمائه إلا اسمه «الله»؛ فإنه للتعلق فحسب إذ مضمونه الالوهية، والألوهية لا يتخلق بها أصلًا.

وجميع أسماء الله إذا أسقطت منها حرفًا، ذهبت دلالته على الله، كالعليم والقادر والرحيم، وغير ذلك من أسمائه الحسنى، إلا اسمه «الله»؛ فإنك إذا أسقطت الألف بقي «لله»، فإذا أسقطت اللام الأولى بقي «له»، فإذا أسقطت اللام الثانية، بقي «هو»، وهو النهاية في الإشارة، وأنشد ابن منصور الحلاج:

أحرف أربع بها هام قلبي

*

وتلاشت بها همومي وفكري

ألف ألف الخلائق بالصنـ

*

ـع ثم لام على الملامة تجري

ثم لام زيادة في المعاني

*

ثم هاء بها أهيم أتدري

 

الفرق بين الصوفي والزاهد عند الشيخ أبى العباس المرسى:

كثيرًا ما يخلط الناس بين الصوفي والزاهد، ولكن الشيخ }يوضح ذلك قائلًا: والزاهد جاء من الدنيا إلى الآخرة، والعارف جاء من الآخرة إلى الدنيا.

وقال }: الزاهد غريب في الدنيا؛ لأن في الآخرة وطنه، والعارف غريب في الآخرة؛ لأنه عند الله([4]).

العروج إلى الله عند الشيخ أبى العباس المرسى:

والناس -من قبل ذلك ومن بعده- من حيث عروجُهم إلى الله على قسمين: قوم وصلوا بكرامة الله إلى طاعة الله، وقوم وصلوا بطاعة الله إلى كرامة الله.

قال الله سبحانه وتعالى: ﴿اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ﴾[الشُّورى:13].

ويلقي ابن عطاء الله السكندري على هذه الفكرة أضواء توضحها، فيقول: معنى كلام الشيخ هذا: أن من الناس من حرَّك الله همته لطلب الوصول إليه؛ فصار يطوي مَهَامِهَ نفسه وبيداء طبعه، إلى أن وصل إلى حضرة ربه، يصدق على هذا قوله سبحانه: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾[العنكبوت:69].

ومن النَّاس من فاجأته عناية الله من غير طلب ولا استعداد، ويشهد لذلك قوله تعالى: ﴿يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾[البقرة:105].

فالأول: حال السالكين.

والثاني: حال المجذوبين.

فمن كان مبدؤه المعاملة فنهايته المواصلة.

ومن كان مبدؤه المواصلة رد إلى وجود المعاملة.

ولا تظن أن المجذوب لا طريق له، بل له طرق طوتها عناية الله له، فسلكها مسرعًا إلى الله عَجِلًا.

وكثيرًا ما نسمع عنه مراجعات المنتسبين للطريق، أن السالك أتمُّ من المجذوب؛ لأن السالك عرف الطريق وما توصل إليه، والمجذوب ليس كذلك، وهذا بِناء منهم على أن المجذوب لا طريق له.

وليس الأمر كما زعموا؛ فإن المجذوب طويت الطريق له، ولم تطوَ عنه، ومن طويت له الطريق لم تفُتْهُ، ولم تغب عنه، وإنما فاته متاعبها وطول أمدها، والمجذوب كمن طُويت له الطريق إلى مكة، والسالك كالسائر إليها على أكوار المطايا.

الشوق عند الشيخ أبى العباس المرسى:

قال }: الشوق على قسمين: شوق على الغيبة لا يسكن إلا بلقاء الحبيب، وهو شوق النفوسِ وشوق الأرواح على الحضور والمعاينة.

فإذا رفعك إلى محل المحاضرة والشهود المسلوب عن العلل؛ فذلك مقام التعريف إيمانًا حقيقيًّا، وذاك ميدان تنزُّل الأزل.

وإذا أنزلك إلى محل المثابرة والجهاد؛ فذاك مقام التكليف المقيد بالعلل، وهو الإسلام الحقيقي، وذلك ميدان تجلي حقائق الأبدية.

والمحقق لا يبالي بأي صفة يكون؛ لأن صفتك تميل لا أنت، والصفة من العين للعين وهو ظهورك، والاسم للسان وهو نطقك، والاسم حقيقة الصفة.

والصفة حقيقة الوجود، والأسرار متنزلة عن الوجودية للصديقية، والحقائق متجلية عن الصفات بالولايهْ لأهل العلوم الظاهرة عن الاسم بالدليل لأهل السعايهْ، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم  لأبي جحيفة: «يا أبا جحيفة، سائلِ العلماء، وخالطِ الحكماء، وجالسِ الكبراء».

فالعالم يدلك بالعلم من الأسماء، ونهايته الجنة، والحكيم المقرب يحملك باليقين وبالحقائق من الصفات، ونهايته منازل القربى، وإليه الإشارة بقوله تعالى:﴿اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الوَسِيلَةَ﴾[المائدة:35].

والكبير يدلك بالأسرار من الوجود على طريق الصفاء والنزاهة، ونهايته إلى الله.

وتجتمع المراتب الثلاثة في الكبير، فجمَّل قومًا بالعلم، وقومًا بالحقائق، وقومًا بالأسرار، وهم خلفاء الأنبياء وأبدال الرسل وهم البصراء.

﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾[يوسف:108].

أي على معاينة يعاين لكل صِنف طريقَهم فيحملهم عليها، وهي نهاية.

وكان إمامنا }كثيرًا ما ينشد:

 

وغنى لي منى قلبي

*

فغنيت كما غنى

وكنا حيثما كانوا

*

وكانوا حيثما كنا

 

 

المرجع : قضية التصوف ، المدرسة الشاذلية- فضيلة الإمام الأكبر الدكتور عبد الحليم محمود، مصر: دار المعارف، ط 3 ، ص 211 - 220.

 



([1])    إن مرجعنا في ذلك إنما هو كتاب «لطائف المنن» أولًا وبالذات، ثم كتاب «طبقات الإمام الشعراني»، وكتاب «الكواكب الدرية»، وكتاب «درة الأسرار» لابن الصباغ.

([2])    ومعنى كلام الشيخ هذا: أنَّ العامة لم تنفذ بصائرهم إلى شهود خِلَعِ الحق عليهم من إيمان وإسلام ومعرفة وتوحيد ومحبة، وعلموا أنَّ الله تعالى قد تَوَعَّدَ أهل المعصية بعقوبته، فخافوا الوقوع في المعصية؛ لئلا يكون ذلك سبب وقوع العقوبة بهم، فكان خوفهم إشفاقًا على نفوسهم من عقوبة الله.

       وأما أهم الخصوصية: فأعطاهم الحق من نوره ما أشدَّهم به، وما كساهم من خلع مننه، فعملوا على صيانتها، ليقدموا عليه بها، لم تدنس، ولم تتغير، طاهرة نقية، مشرقة بهية، وفهموا معنى قوله تعالى: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ[المدَّثر:4]، فطهروا ملابس إيمانهم، وأيقانهم، من دنس غفلتهم وعصيانهم، وفهموا أيضًا قوله تعالى: ﴿يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ[الأعراف:26]، من «لطائف المنن».

([3])    ومعنى كلام الشيخ: أن العامة واقفون مع ظواهر الأمر، فإذا خوفوا خافوا؛ إذ ليس لهم نفوذ إلى ما وراء العبادة بنور الفهم كما لأهل الله.

       وأهل الله إذا خافوا رجوا، عالمين أن من وراء خوفهم وما به خوفوا أوصاف المرجو الذي لا ينبغي أن يقنط من رحمته، ولا أن ييأس من منته؛ فاحتالوا على أوصاف كرمه؛ علمًا منهم أنه ما خوفهم إلا ليجمعهم عليه، وليردهم بذلك إليه وإذا رجوا خافوا، يخافون غيب مشيئته التي هي من وراء رجائهم، وخافوا أن يكون ما أظهر من الرجاء اختبارًا لعقولهم، هل تقف مع ظاهر الرجاء؟ أو تنفذ إلى خوف ما بطن في مشيئته؛ فلذلك استثار الرجاءُ خوفهم.

       وحكمهم في القبض والبسط -كما قال الشيخ- في الخوف والرجاء، غير أن البسط مزِلَّة أقدام الرجال، فهو موجب لمزيد حذرهم، وكثرة التجائهم.

([4])    يقول ابن عطاء الله: فإن قلت ما معنى الغربة في كلام الشيخ هنا، وما معناها في الحديث الوارد: «بدأ الإسلام غريبًا كما بدأ فطوبى للغرباء»؟ فاعلم أن الغربة في الحديث معناها قلة من يعين على القيام بالحق، فيكون القائم به غريبًا؛ لفقدان المساعد وعدم المعاضد، فلا يُنهض القائم حينئذ إلا قوة إيمانه ووفور إيقانه؛ فلذلك قال صلى الله عليه وسلم : «بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء»،       يريد صلى الله عليه وسلم  أنهم قاموا بأمر الله، في بلاده وعباده، حيث تقاعدت همم الناس عن القيام به.

       وأما الغربة في كلام الشيخ } فمعناها: أن الزاهد يُكشف له عن ملك الآخرة، فتبقى الآخرة موطن قلبه، ومعشش روحه؛ فيكون غريبًا في الدنيا؛ إذ ليست وطنًا لقلب عاينَ الدار الآخرة، فأخذ قلبه فيما عاينَ من ثوابها ونوالها، وفيما شاهد من عقوبتها ونكالها، فاستغرب في هذه الدار.

       وأما العارف فإنه غريب في الآخرة؛ فإنه كشف له عن صفات معروفة، فأخذ قلبه فيما هنالك، فصار غريبًا في الآخرة؛ لأن سره مع الله بلا أين.

       فهؤلاء العباد تصير الحضرة معشش قلوبهم؛ إليها يأوون، وفيها يسكنون، فإن تنزلوا إلى سماء الحقوق أو أرض الحظوظ، فبالإذن والتمكين والرسوخ في اليقين، فلم ينزلوا إلى الحظوظ بالشهوة والمتعة، ولا إلى الحقوق بسوء الأدب والغفلة، بل كانوا في ذلك كله بآداب الله، وآداب رسله وأنبيائه متأدبين، وبما اقتضى منهم مولاهم عاملين.


التقييم الحالي
بناء على 4 آراء
أضف إلى
أضف تعليق
الاسم *
البريد الإلكتروني*
عنوان التعليق*
التعليق*
البحث