كان أبو الحسن الشاذلي مدرسة علمية، نهل منها كل من اتَّصَلَ به على حسب استعداده، ولقد كان مدرسة علمية متكاملة؛ أي كان مدرسة للظاهر من العلوم وللباطن منها؛ فقد كان يُدَرِّسُ ويفتي على الوضع الظاهر، وكان يدرس ويفتي على الوضع الذوقي الصوفي، وما كان في ذلك متناقضًا؛ لأنه لا تعارض بين الشريعة والحقيقة، «وعلمنا هذا مشيد على الكتاب والسنة»، كما يقول الجنيد رضى الله عنه ، وأخذ عنه أهل الظاهر، كل بحسب استعداده، وأخذ عنه الصوفية كل على حسب استعداده، وورثه في كلتا الناحيتين أبو العباس المرسي.
ورجال المدرسة الشاذلية يعرفون أنَّه رضى الله عنه هو الذي بَثَّ علوم الشيخ أبي الحسن رضى الله عنه ونشر أنوارها وأبدى أسرارها.
ولقد كان رضى الله عنه لا تتحدث معه في علم من العلوم -كما يقول ابن عطاء الله- إلا تحدث معك فيه، حتى يقول السامع: إنَّه لا يحسن غير هذا العلم، لا سيما علم الحديث والتفسير.
وكان يقول: شاركنا الفقهاء فيما هم فيه، ولم يشاركونَا فيما نحن فيه، وكان له من العلوم الظاهرة كتب معينة يؤثرها ويداوم مذاكرتها وتدريسها.
1- ففي أصول الدين، كان كتابه: «الإرشاد»، وهو كتاب في التوحيد والجدل والنقاش، والانتصار لمذهب الأشاعرة وأهل السنة، لا يسهل تناوله على العاديين من الناس، بل لا يسهل على كثير من المثقفين؛ لأنه يحتاج إلى ممارسة طويلة في علم الكلام والجدل.
2- وكان كتابه في الحديث: «المصابيح»، وهو كتاب على غرار كتاب «الترغيب والترهيب» وعلى غرار «رياض الصالحين» وإن كان أوسع منه، ألفه الإمام البغوي الذي كان من كبار الفقهاء في المذهب الشافعي، وكانت وفاته بمرو الرُّوذ سنة 516هـ.
3- أما في الفقه: فكان يعنى بكتاب «التهذيب»، وكانت الرسالة وهما كتابان في الفقه مشهوران، والفقيه فيما يرى الشيخ: هو من انفقأ الحجاب عن عيني قلبه وشاهد ملكوت ربه، ومع ذلك فإن علوم المعاملة هذه -على حد تعبير الصوفية- ما كان رضى الله عنه يتنزل إليها إلا في الزمن اليسير وبحسب الضرورة فقط.
4- وكتابه في التفسير هو الكتاب المفضل عند شيخه أبي الحسن وهو كتاب: «المحرر الوجيز» لابن عطية، ووصل به الأمر بعلوم الوسائل -أي النحو وأشباهه من العلوم التي ليست في نفسها غايات- أن قد كان يقرأ عليه بعض المغرقين في العربية فيرد عليهم اللحن.
5- أما في التصوف: فقد كانت كتبه المفضلة هي:
1- «الرسالة القشيرية»: وما كانت «الرسالة القشيرية» إلا سلمًا يصعد عليه لينتشر من إشراقاته هو، والقصة التالية توضح طريقته في كيفية أخذه لــ «الرسالة القشيرية» في التدريس:
يروي صاحب كتاب «درة الأسرار»: حدثني الشيخ الصالح العالم المفتي جمال الدين يوسف ابن الشيخ المقدس المرحوم أبي محمد عبد الكريم الواداش المالكي المعروف بالعرامي، بمدينة القاهرة حماها الله تعالى، في أوائل جمادى الآخرة سنة عشر وسبعمئة، قال: كان سيدي أبو العباس نفع الله به، لمَّا توفي سيدنا الشيخ أبو الحسن رضى الله عنه يطلع للقاهرة زمن زيادة النيل، يقيم بمسجد بموضع يقال له: «المقص» بالدكة، بخارج باب البحر من القاهرة.
وكان الشيخ سيدنا أبو الحسن يفعل هذا في كل عام، فتجتمع إليه مشايخ القاهرة ومصر ومن كل الجهات، يتبركون به، ويأخذون عنه العلوم العظيمة والأحوال الكريمة، فبقي سيدي أبو العباس يقفو أثره.
حدثني هذه الحكاية بهذا المسجد المبارك، وفيه أعلية للسكن، وهذا الفقيه ساكن بها، وهو قاضي الموضع ومفتيه وفاضله قال:
فجاءه سيدي الشيخ أبو العباس على عادته، فاجتمع إليه جماعة من كبار مصر وعلمائها، وقالوا له: يا شيخ، كان سيدي أبو الحسن رضى الله عنه إذا جاء لهذا الموضع يجيء إلينا بمصر، ونسمع منه من مواهب الحق سبحانه، ونتبرك بقدومه علينا، وأنت قد أقامك الله مقامه، فنحب أن نَتَبَرَّكَ بكلامك، ونتذاكر كلام الشيخ رحمه الله ورضي عنه، فقال لهم: إذا كان صبيحة غَدٍ إن شاء الله يجيء إليكم.
فلما كان في صبيحة تلك الليلة، أمر بالمسير إلى مصر، وأمرني أن نحمل «رسالة القشيري» معنا، فحملتها ووصلنا إلى جامع سيدنا عمرو بن العاص، فوجدناه قد امتلأ بكبار الديار المصرية وعلمائها، فقال لي: منتقد ومعتقد!.
قال فجلسنا في شرقي الجامع، ثم قال لي: أخرج «رسالة القشيري». فأخرجتها ثم قال: اقرأ. فقلت: وماذا أقرأ؟ قال: الذي يظهر لك.
قال: ففتحت الكتاب فوجدت باب الفراسة، قال: فقرأت أوائل الباب، فلما فرغت من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال لي: أغلق الكتاب. ثم قال: الفراسة تنقسم إلى أربعة أقسام:
1- فراسة المؤمنين. 2- فراسة الموقنين.
3- فراسة الأولياء. 4- فراسة الصديقين.
فأما فراسة المؤمنين: فحالها من كذا، ومددها من كذا.
ثم تكلم بكلام عظيم، ثم انتقل إلى فراسة الموقنين فتكلم بطبقة أعلى، ثم قال: وأما فراسة الولي فمددها من كذا وحالها من كذا، وتكلم في ذلك بكلام موهوب غير مكسوب، أدهش به قلوب الحاضرين، واستغرق في ذلك إلى أن أذَّن الظهر، والناس يبكون، ورأيت العَرَق ينحدر من جبينه، حتى سال على لحيته، وكانت له لحية كبيرة، فلما صحا من حاله قال: وأما فراسة الصديقين...
إن الشيخ رضوان الله عليه ما كان يتخذ «الرسالة القشيرية» إلا أساسًا ينطلق منه سابحًا في بحار المعرفة الإلهامية.
2- وكتاب «إحياء علوم الدين»: من الكتب التي عني بها الصوفية على وجه العموم، وقد كان رضى الله عنه يقول عن شيخه أبي الحسن: كتاب «الإحياء» يورثك العلم. وكان يقول في الإمام أبي حامد الغزالي رضى الله عنه : إنا لنشهد له بالصديقية العظمى.
3- كتاب «قوت القلوب»: وكان يقول عن شيخه أبي الحسن: كتاب «القوت» يورثك النور.
4- كتاب «ختم الأولياء» للحكيم الترمذي: وهو كتاب أثار اهتمام الصوفية، وأثار اهتمام غيرهم، وأحدث حيوية وحياة ونقاشًا في الجو الفكري والصوفي، وحمل على المؤلف الحاملون، ودافع عنه المدافعون، وإن كتابًا يثير اهتمام الإمام الكبير ابن العربي إثارة بالغة فيكتب عنه غير مرة؛ لهو كتاب فَذٌّ.
لقد كان شيخنا معنيًّا به، وكان شيخه معنيًّا به، يقول ابن عطاء الله عن أبي العباس وشيخه رضي الله عنهما: وكان هو والشيخ أبو الحسن كل منهما يعظم الإمام الرباني محمد بن علي الترمذي، وكان لكلامه عندهما الحظوة التَّامَّة، وكان يقول عنه: إنه أحد الأربعة الأوتاد.
5- كتاب «الحقائق» للسلمي: وقد كان ابن عطاء الله يقرؤه عليه، فلما قال السلمي في الكتاب: انتهى عقل العقلاء إلى الحيرة.
قال الشيخ رضى الله عنه ، عن شيخه أبي الحسن رضى الله عنه : لا حيرة عند المحققين فيما فيه الحيرة عند المؤمنين.
وإذا كان الشيخ رحمه الله درس هذه الكتب مرارًا وتكرارًا، فإنه بعد أن أفاض الله عليه من أنواره وأشرقت عليه فيوضاته قال:
والله ما نطالع كلام أهل الطريق إلا لنرى فضلَ اللهِ علينا.
لقد انتهى الأمر بأبي العباس، أن كان يلقي بالدُّرَرِ من بحرِهِ هو أو من بحوره؛ فقد كانت له بحور تتميز نفاسة وشرفًا، ولابن عطاء الله السكندري في ذلك كلام جميل، يقول رضى الله عنه عن شيخه أبي العباس:
أما علوم المعارف والأسرار فقطب رحاها وشمس ضحاها، تقول إذا سمعت كلامه: هذا كلام من ليس وطنه إلا غيب الله، هو بأخبار أهل السماء أعلم منه بأخبار أهل الأرض.
وسمعت أن الشيخ أبا الحسن قال عنه: أبو العباس بطرق السماء أعرف منه بطرق الأرض.
كنت لا تسمعه يتحدث إلا في العقل الأكبر، والاسم الأعظم، وشعبه الأربع، والأسماء، والحروف، ودوائر الأولياء، ومقامات الموقنين، والأملاك المقربين عند العرش، وعلوم الأسرار، وإمداد الأذكار، ويوم المقادير، وشأن التدبير، وعلم البدء، وعلم المشيئة، وشأن القبضة، ورجال القبضة، وعلوم الأفراد، وما سيكون يوم القيامة من أفعال الله مع عباده: من حلمه، وإنعامه، ووجوه انتقامه، حتى لقد سمعته يقول:
واللهِ لولا ضعف العقل لأخبرت بما يكون غدًا من رحمة الله.
وهذا النمط من العلوم كان المفضل عند أبي العباس، وكان لا يمَلُّ من دراسته والحديث فيه.
أما علم المعاملة، فقد كان يرى أن أساتذته هم من الكثرة بحيثُ لا يحتاج إلى كبير من اهتمامه، قال ابن عطاء الله رضى الله عنه :
وكان الشيخ أبو العباس رضى الله عنه لا يتنزلُ إلى علوم المعاملة إلَّا في قليل من الأيام؛ لحاجة بعض الناس إلى ذلك.
قال: ولذلك يقل اتباع من تكون علومه العلوم السابقة؛ فإنَّ المشترين للمرجان قد يكثرون وقلَّ أن يجتمع على شراء الياقوت اثنان، ولم يزل أتباع أهل الحق قليلين.
كما قال الله تعالى في أهل الكهف: ﴿مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ﴾[الكهف:22].
وأهل الله كهف لأمور الناس، ولكن قليل من يعرفهم([1])، ويقول ابن عطاء الله السكندري أيضًا عنه: «الجامع بين علم الأسماء والحروف والدوائر، مشرق شموس المعارف بعد غروبها، ومبدي أسرار اللطائف بعد غروبها».
ومع استغراقه في علوم التصوف فإنَّه من الأهمية بمكان أن نسجل هنا ما قاله الإمام ابن عطاء الله السكندري: «لقد صحبت الشيخ اثني عشر عامًا فما سمعت منه شيئًا ينكره ظاهر العلم».
لقد كان أبو العباس من كبار العلماء في علوم الظاهر، ومن كبار الملهمين في علوم الباطن، ومع ذلك فإن إمامنا لم يؤلف كتبًا.
والسبب في ذلك: «أن علوم هذه الطائفة علوم التحقيق، وهي لا تتحملها عقول عموم الخلق»، بل لقد كان رضى الله عنه يقول: «جميع ما في كتب القوم عَبَرات دموع من سواحل بحر التحقيق».
ولتتم الصورة عن أبي العباس نذكر أن مِمَّا يتصل بعلمه وبشخصيته أنه كان شاعرًا، وشعره شِعْرُ معانٍ، وشعر تحليق في سماء الروح، ومن أمثلته ما يلي:
لقد كتب إلى بعض مريديه قائلًا: وسل الله أرواحكم، وفسح في غيوبه مراحكم؛ فإنه سألني سائل عن شعر منظوم، يعبر عن النفس وتعلقها بالبدن، وتقيدها بالحظ وانبعاثها بالشهوة، وتحققها بالجمع فأجبته بهذه الأبيات:
إن كنت سائلنا عن خالص المنن |
* |
وعن تعلق ذات النفس بالبدن |
وعن تشبثها بالحظ مذ ألفت |
* |
أدرانها فغدت تشكو من العطن |
وعن تنزلها في حكمها ولها |
* |
علم يفرقها بالقبح والحسن |
وعن بواعثها بالطبع مائلة |
* |
تهوى بشهوتها في ظلمة الشجن |
وعن حقيقتها في أصل معدنها |
* |
لا ينثني وصفها منها إلى وثن |
فاسمع هديت علومًا عز سالكها |
* |
عن العيان ولا يغررك ذو لسن |
قصدًا إلى الحق لا تخفى شواهدها |
* |
قامت حقائقها بالأصل والفنن |
يا سائلي عن علوم ليس يدركها |
* |
ذو فكرة بفهوم لا ولا فطن |
لكن بنور علي جامع خمدت |
* |
له العقول وكل الخلق في وسن |
خذها إليك بحق لست جاهله |
* |
والأمر مطلع والحق قيدني |
عن الحقيقة خذ علم الأمور ولا |
* |
تحجبك صورتها في عالم الوطن |
ففطرة النفس سر لا يحيط به |
* |
عقل تقيد بالأوهام والدرن |
لكنها برزت بالحكم قائمة |
* |
حتى تألَّفها السكان بالسكن |
وكي يقال عَبيد قائمون بما |
* |
ألقى من الأمر قبل الخلق والمحن |
والنفس بين نزول في عوالمها |
* |
كآدم وله حواء في قرن |
والروح بين ترقٍّ في معارجها |
* |
وهْي المواقف للتعريف والمنن |
من الحجاب دنت أنوارها فبدت |
* |
نور تنزل بين الماء والدمن |
مثالها في العلا مرآة معدنها |
* |
ألطافها خفيت كالسر في العلن |
زيتونة زيتها نور لصاحبها |
* |
قامت حقائقها بالأصل والقنن |
ونار دعوتها ماء لشاربها |
* |
مدت هدايتها في الكون والكين |
والكل أنت بمعنى لا خفاء به |
* |
والنور يحجبه كالماء في اللبن |
والعبد محتجب في عز مالكه |
* |
دقَّت معارفه في الدهر والزمن |
وكتب إلى أبي عبد الله جمال الدين يحثه على التمسك بالفضائل:
وإذا أردت من السلوك أجله |
* |
فالزهد في الدنيا مع السمت الحسن |
واعبد إلهك حيث كنت على الرضا |
* |
تحظى بما قد ناله أهل المنن |
أهل الولاية والهداية والتقى |
* |
هم سادتي فبهم أَصول على الزمن |
أمحمد لا تنس عيشك منهمو |
* |
أشهدْه روحك إذ بها قام البدن |
واجعله منك لذاته من وصفه |
* |
تجد التحقق في السريرة والعلن |
الله يعلم أنني لك ناصح |
* |
لا مدحة أبغي بذاك ولا ثمن |
والله حسبي والمؤيد ربنا |
* |
وهو المعين عن الأمور كما ضمِن |
***
وقال ابن عطاء الله: وجدت بخط شيخنا أبي العباس هذه الأبيات:
أعندك من ليلى حديث محرر |
* |
بإيراده يحيا الرميم وينشر؟ |
فعهدي بها العهد القديم وإنني |
* |
على كل حال في هواها مقصِّر |
وقد كان عنها الطيف قدمًا يزورني |
* |
ولما يزر ما باله يتعذر |
فهل بخلت حتى بطيف خيالها |
* |
أم اعتل حتى لا يصح التصور؟ |
ومن وجه ليلى طلعة الشمس تستضي |
* |
وفي الشمس أبصار الورى تتحير |
وما احتجبت إلا برفع حجابها |
* |
ومن عجب أن الظهور تستر |
***
وقال رضى الله عنه : أطلعني الله على الملائكة وهي ساجدة لآدم عليه السلام؛ فأخذت بقسطي من ذلك، فإذا أنا أقول:
ذاب رسمي وصح صدق فنائي |
* |
وتجلت للسر شمس ضيائي |
وتنزلت في العوالم أبدي |
* |
ما انطوى في الصفات بعد صفائي |
فصفاتي كالشمس تبدي سناها |
* |
ووجودي كالليل يخفي سوائي |
أنا معنى الوجود أصلًا وفصلًا |
* |
من رآني فساجد لبهائي |
أنا نور لأهله مستبين |
* |
اشهدوني فقد كشفت غطائي |
***
لقد كان رضى الله عنه عالمًا في اللغة: مادتها، ونحوها، وصرفها. وعالمًا في التفسير، وفي الحديث، وفي الفقه، وفي السير، وفي التصوف.
وهكذا ينبغي أن يكون الصوفي في كل العصور.
إن شعار الصوفي هو الشعار الإسلامي: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾[طه:114].
المرجع : قضية التصوف ، المدرسة الشاذلية- فضيلة الإمام الأكبر الدكتور عبد الحليم محمود، مصر: دار المعارف، ط 3 ، ص 198- 206.