نسخة تجريبيـــــــة
نشأته واتصاله بالشيخ أبى الحسن

إننا حينما نريد الحديث عن حياة أبي العباس الشخصية، فإننا لا نكاد نجد شيئًا يذكر، لم يكن أبو العباس معنيًّا بالحديث عن نفسه، ولم يكن مهتمًّا بالتأريخ لحياته، إنه لم يتحدث عن أسرته، ولم يتحدث عن نفسه، ولم يُشِدْ بأفعاله، لقد فني في أبي الحسن، فلم يكن في آفاقه فراغٌ للحديث عن نفسه، ثم فني في الدعوة إلى الله بعد أبي الحسن، فلم يكُن في آفاقه فراغ للحديث عن نفسه.

وما كان فناؤه في أبي الحسن، ولا فناؤه في الدعوة إلا فناء في الله ورسوله، في حبهما، وفي العمل جاهدًا على مرضاتهما، ومن كان كذلك لا يهتم بالحديث عن نفسه.

على أن النزعة العامة عند الصالحين في اتجاههم الحثيث الصادق إلى الله، إنما هي إلغاء الآنية، إنها الذوبان في الرسالة، الذوبان في تحقيق الرسالة، أولًا: في النفس بإلتزامها التزامًا تامًّا. وثانيًا: في المجتمع بالعمل الجاهد على نشرها وتحقيقها واقعيًا، ومثلهم في ذلك هو رسول الله صلى الله عليه وسلم .

لقد كان صلوات الله وسلامه عليه، يلقي الأضواء كلها على الرسالة، وما كان يهتم بنشر الأخبار عن حياته الشخصية، اللهم إلا إذا كان لا بد من ذلك من أجل الدعوة نفسها.

على أن الصوفية ينفرون عادة من الحديث عن أنفسهم، اللهم إلا إذا كان ذلك بيانًا وإيضاحًا لدعوتهم، وفي هذه الحالة لا يكون الحديث حديثًا عن النفس، وإنما يكون حديثًا عن الدعوة، «وقد سئل الشبلي رضى الله عنه  يومًا فقيل له: لم سميت الصوفية بهذه التسمية؟ فقال: لبقية بقيت عليهم من نفوسهم، ولولا ذلك لما تعلقت بهم التسمية».

فالصوفية يحاولون إلغاء الآنية، إنهم يهدفون حتى إلغاء أسمائهم لو استطاعوا؛ فيعيشون فناءً كاملًا في الله سبحانه وتعالى ولله عز وجل؛ أي في سبيل الله تبارك وتعالى.

وإذا ما جئنا الآن لأبي العباس المرسي؛ فإن التاريخ يحدثنا أنه ولد في الأندلس في بلدة «مرسية» التي ينسب إليها، ولد سنة 616هـ 1219م، ويتصل نسبه بالأنصار الذين أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم  أن حبهم من علامات الإيمان، إن نسبه يتصل بسعد بن عبادة سيد الخزرج.

ولد في «مرسية» ونشأ بها، حيث كان والده يعمل في التجارة، ويبدو أن حالة الوالد كانت من اليسر بحيث مكَّنته من إرسال ابنه إلى مؤدب لتعلم القرآن والتفقه في أمور الدين.

يقول أبو العباس «كنت وأنا صبي عند المؤدِّب، جاء رجل فوجدني أكتب في لوح، فقال: الصوفي لا يسوِّد بياضًا، فقلت: ليس الأمر كما زعمت، ولكن لا يسود الصحائف بسواد الذنوب».

هذه القصة تدل دلالة واضحة على ذكاء غير عادي، وعلى مهارة وفهم لا يوجَدَانِ في المستوى العام في أطفال المكاتب، وترسُم أيضًا اتجاهًا إلى الصلاح والتقوى منذ هذه السن المبكرة.

أما نشأةُ أبي العباس على الصلاح والتقى في هذه السن المبكرة، أو بتعبير أدق صقل فطرته الصافية، وتثبيتها على الصلاح والتقى، فقد تَكَفَّلَ بها المؤدب الذي كان يفقهه ويربيه.

ويقول أبو العباس: عمل إلى جانب دارنا خيال الستار، وأنا إذ ذاك صبي، فحضرته، فلما أصبحت أتيت إلى المؤدِّب وكان من أولياء الله تعالى، فأنشد حين رآني:

يا ناظرًا صور الخيال تعجبًا

*

وهو الخيال بعينه لو أبصرا

 

وخجل أبو العباس، وعزم في نفسه أن يأخذ في حياته مسلك الجِد.

ولما بلغ مرحلة الشباب، وبلغ درجة الاستقلال بنفسه في التفقه والدراسة، أخذ في معاونة والده في الأعمال التجارية، فكان التاجرَ الصدوق.

ذلك كل ما نعلم عن أبي العباس قبل سنة 640هـ أربعين وستمئة هجرية، وفي سنة 640هـ- 1242م حزم والدُه أمرَه، ورتَّب شئونه على أن يقوم بالحج إلى بيت الله الحرام، وأخذ الأسرة معه، وركبوا البحر، وشاءت إرادة الله سبحانه وتعالى أن تهب عليهم عاصفة بالقرب من شاطيء بونة، فاستشهد والده ووالدته غرقًا، ونجا هو وأخوه محمد فيَمَّمَا شطر تونس، واتجه محمد نحو الأعمال التجارية، على غرار والده، أما أحمد فلم يكن حنينُه إلى التجارة، وإنَّما حنينه إلى مهنة المؤدب الذي كان من أولياء الله، وكان هواهُ هو تعليم القرآن، وفي الانغماس في أنوار القرآن، فاتخذ من زاوية الفقيه «محرز بن خلف» مكانًا يعلم فيه القراءة والكتابة ومبادئ الدين والقرآن الكريم.

وكأن المقادير أتت به من «مرسية» إلى «تونس» لأجل أن يكون ثاني خلفاء الطريقة الشاذلية، وليكونَ داعية إلى الله؛ ليكون امتدادًا للشاذلي، وليكون قطبًا من كبار الأقطاب، وعَلَمًا من أشهر الأعلام؛ وإنه ليَقُصُّ كيفية اتصاله بالشاذلي، فيقول: لما نزلت بتونس وكنت أتيت من «مرسية» -وأنا إذ ذاك شاب- سمعت بذكر الشيخ أبي الحسن الشاذِلِيِّ، فقال لي رجل: تمضي بِنَا إليه فقلت: حتى أستخير الله. فنمت تلك الليلة، فرأيت كأني أصعد إلى رأس جبل، فلما علوت فوقه، رأيت هناك رجلًا، عليه برنس أخضر، وهو جالس وعن يمينه رجل وعن يساره رجل؛ فنظرت إليه فقال: عثرت على خليفة الزمان. قال: فانتبهت.

فلما كان بعد صلاة الصبح، جاءني الرجل الذي دعاني إلى زيارة الشيخ، فسرت معه، فلما دخلنا عليه رأيته بالصفة التي رأيته بها فوق الجبل، فدهشت! فقال لي: عثرت على خليفة الزمان، ما اسمك؟ فذكرت له اسمي ونسبي، فقال لي: رفعت لي منذ عشر سنين.

وبهره أبو الحسن، بهره بحديثه المنطلق، وإلهاماته المتدفقة، وسلوكه الرباني، فلازمه أبو العباس ملازمَة المريد الصادق لشيخه العارف.

ورأى الشاذلي فيه فطرة طاهرة، ونفسًا خيرة، واستعدادًا طيبًا للإقبال على الله، فمنحه وده، وغمره بعنايته، وأخذ في تربيته تربية تؤهله ليكون خليفته من بعده.

وحدث في «تونس» سوء تفاهم بين الشاذلي وقاضي القضاة ابن البراء -هذا الخلاف الذي سبق أن فصَّلْنَاهُ في كتابنا عن «المدرسة الشاذلية»- وكانت نتيجته أن غادر الشاذلي تونس ميممًا شطر الديار المصرية، ورافقه في هذا السفر جماعة كان على رأسهم أبو العباس، وعن هذا السفر يقص أبو العباس القصتين التاليتين، نرويهما لما فيهما من بيان لبعض مناحي أبي الحسن في التوجيه والتربية اللذَين أثمرا ثمرًا ناضجًا هو أبو العباس وزملاؤه.

1- قال الشيخ أبو العباس: كنت مع الشيخ في السَّفَرِ، ونحن قاصدون الإسكندرية حين مجيئنا من الغرب، فأخذني ضيق شديد حتى ضعفت عن حمله، فأتيت إلى الشيخ أبي الحسن، فلما أحسَّ بي قال: أحمد! قلت: نعم يا سيدي. قال: آدم خلقه بيده، وأسجد له ملائكته، وأسكنه جنته، ثم نزل به إلى الأرض، واللهِ ما أنزل الله آدم إلى الأرض لينقصه، ولكن نزل به إلى الأرض ليكمله، ولقد أنزله إلى الأرض من قبل أن يخلقه بقوله تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً[البقرة:30].

ما قال في السماء ولا في الجنة؛ فكان نزوله إلى الأرض نزول كرامة، لا نزول إهانة، فإنه كان يعبد الله في الجنة بالتعريف، فأنزله إلى الأرض ليعبده بالتكليف، فلما توفَّرت فيه العبوديتان استحق أن يكون خليفته.

وأنت أيضًا لك قسط من آدم، كانت بدايتك في سماء الرُّوح في جنة التعريف، فأنزلت إلى أرض النفس لتعبده بالتكليف، فإذا توفرت فيك العبوديتان استحققت أن تكون خليفة، وزال ضيق أبي العباس وانشرح صدره.

2- ويقول أبو العباس أيضًا: لما قدمنا من المغرب إلى الإسكندرية، نزلنا عند عمود السواري من ظاهرها، وكان دخولنا عند اصفرار الشمس، وكانت بنا فاقة وجوع شديد، فبعث إلينا رجل من عدول الإسكندرية بطعام، فلما قيل للشيخ عنه قال: لا يأكل أحد منه شيئًا. فبتنا على ما نحن عليه من الجوع، فلما كان عند الصبح صلَّى بنا الشيخ وقال: مُدوا السِّماط وأحضروا ذلك الطعام. ففعلوا وتقدمنا فـأكلنا، فقال الشيخ: رأيت في المنام قائلًا يقول: أحل الحلال ما لم يخطر لك ببال، ولا سألت فيه أحدًا من النساء أو الرجال.

واستمر أبو العباس مع الشاذلي يسير في ضوء تربيته؛ وينهج طريقه لا يَحِيد عنه قيد شعرة إلى أن كانت وفاة الشاذلي.

لقد بشر الشاذلي بأنه سيموت ويدفن في أرض لم يُعْصَ الله عليها قط، فلما كان في طريقه إلى الحج ووصل إلى حميثرة([1])، وقد خيم الركب للمَبيت جمع أصحابه وأوصاهم بأشياء وأوصاهم بحزب البحر، وقال لهم: حفظوه لأولادكم، فإن فيه اسم الله الأعظم.

وخلا بأبي العباس المرسي وحده رضي الله عنهما، وأوصاه بأشياء واختصه بما اختصه الله به من البركات، وقال لأصحابه: إذا أنا مت فعليكم بأبي العباس المرسي؛ فإنه الخليفة من بعدي، وسيكون له بينكم مقام عظيم، وهو باب من أبواب الله سبحانه.

يقول صاحب كتاب «درة الأسرار» نقلًا عن نجل الشيخ أبي الحسن: وبات تلك الليلة متوجهًا إلى الله سبحانه ذاكرًا أسمعه يقول: إلهي، إلهي.

فلما كان السحر سكن، فظننا أنه نام، فحركناه فوجدناه ميتًا رحمه الله.

واستدعينا سيدي أبي العباس المرسي المرسي فغسَّله وصلينا عليه، ودفناه بحميثرة، وهذا الموضع ببرية عيذاب، في وادٍ على طريق الصعيد.

يقول صاحب «درة الأسرار»: وقد شربت من مائها، وزرت ضريحه، ورأيت له البركات، نفع الله به في الدنيا والآخرة.

قال: ولما دفنَّاه اختلف أصحابه في الرجوع أو التوجه، فقال لهم سيدي أبو العباس: الشيخ أمرني بالحج ووعدني بكرامات. وتوجهنا ورأينا تهوينًا وبركات، ورجعنا صحبته.

ومما حدث لهم في أثناء سفرهم إلى الحج ما حدَّث به أبو العباس قال: سافرنا مع الشيخ رضى الله عنه  في السنة التي توفي فيها، فلما كنا عند أخميم. قال لي الشيخ: رأيت البارحة كأني في جلبة وأنا في البحر، والرياح قد اختلفت، والأمواج قد تلاطمت، والمركب قد انفتح، وأشرفنا على الغرق، فأتيت إلى جانب المركب، وقلت: أيها البحر، إن كنت قد أمرت بالسمع والطاعة لي فالمنة لله السميع العليم، وإن كنت أمرت بغير ذلك فالحكم لله العزيز الحكيم، فسمعت البحر يقول: الطاعة، الطاعة.

فلما سافرنا، وتوفي الشيخ رضى الله عنه ، ودفناه بحميثرة من صحراء عيذاب، وكُنَّا في جلبة، فلما صرنا في وسط البحر، اختلفت الأمواج وتلاطمت الرياح، وانفتح المركب، وأشرفنا على الغرق، ونسيت كلام الشيخ، فلما اشتد الأمر ذكرت ذلك، فأتيت إلى جانب المركب، وقلت: أيها البحر، إن كنت أمرت بالسمع والطاعة لأولياء الله فالمنة لله السميع العليم -ما قلت كما قال الشيخ: بالسمع والطاعة لي- وإن كنت أمرت بغير ذلك فالحكم لله العزيز الحكيم.

فسمت البحر يقول: «الطاعة الطاعة» وسكن البحر وطاب السفر. اهـ.

وظهر أبو العباس من بعد الشاذلي ظهورًا عظيمًا، وظهرت له كرامات كثيرة([2]). اهـ.

على أنه كان يبدو واضحًا من مواقف أبي الحسن مع أبي العباس، ومن حديثه عنه أنه كان يعده للخلافة، بل لقد أقامه فيها بصورة تشبه أن تكون صريحة حينما استدعاه وقال له: يا أبا العباس، تكلم بين الناس. فجلس في جامع العطارين بالإسكندرية، فعاصره بالكلام والتدريس والدعوة إلى الله عن إذنه وبأمر منه.

وحمل أبو العباس لواء الدعوة إلى الله طيلة حياته، متفانيًا فيها، باذلًا كل ما يستطيع في سبيلها، حتى انتهت به الحياة، راضيًا عن الله مرضيًّا عنه من الله، وكان ذلك في الخامس والعشرين من ذي القعدة سنة 685هـ- 1287م، وكان يبلغ تقريبًا سبعين عامًا، رحمه الله رحمة واسعة.

المرجع : قضية التصوف ، المدرسة الشاذلية- فضيلة الإمام الأكبر الدكتور عبد الحليم محمود، مصر: دار المعارف، ط 3 ، ص 178 - 185.

 



([1])    يقول صاحب «تاج العروس»: حميثرة [بضم ففتح]: أهمله الجماعة، وهو (ع بصحراء عيذاب) بالصعيد الأعلى، بينه وبين الأقصرين يومًان للمُجِدِّ، به قبر إمام الطائفة سيدنا القطب أبي الحسن علي بن عمر الشاذلي، قدس الله سره ونفعنا ببركاته، وهو محل منقطع على غير طريق، ويقال فيه أيضًا: «حميثرا» بالألف، ومن أقوال دفينه المذكور لتلميذه أبي العباس المرسي حين سأله عن حكمة أخذ الفأس والحنوط والكفن: «في حميثرة سوف ترى».

([2])    «درة الأسرار».


التقييم الحالي
بناء على 4 آراء
أضف إلى
أضف تعليق
الاسم *
البريد الإلكتروني*
عنوان التعليق*
التعليق*
البحث