إن حياة أبي الحسن الشاذلي حينما يتأملها أي إنسان، فإنه سيجد فيها ما يصحح الأفهام الخاطئة الشائعة عن التصوف، لقد أشاع الماديون -على اختلاف ألوانهم- كثيرًا من الأباطيل ضد التصوف، وأخذوا يروجون لها في كل مكان وبكل وسيلة، فتعلقت بأذهان كثير ممن لم يصادفهم التوفيق في الوصول إلى صورة صحيحة عن التصوف.
1- من ذلك مثلًا ما أذاعه ويذيعه الماديون من أن التصوف والكفاح، أو التصوف والعمل ضدان لا يجتمعان، أو من أن التصوفَ والتواكلَ صنوان مؤتلفان، وحياة أبي الحسن -وهي تمثل التصوف الصحيح- تهدم ذلك.
لقد كان عاملًا في الزراعة، صاحب حقول وزرع وحصيد ودرس، معنيًّا بتربية ما تحتاج إليه الزراعة من ثيران وماشية.
وعني عناية شديدة بأمر المسلمين في حروبهم، حتى لقد كان دائمًا في قلب المعركة، وفي ميدان الحرب مع الجيش والجند عاملًا ومشجعًا.
وعني عناية شديدة بقضاء مصالح المسلمين والضعفاء والمساكين، وسعى جاهدًا في أن ييسر لهم -بتوفيق الله- ما تَعَسَّرَ، ويحل لهم ما تعقد، ويفرج من كرباتهم مهما لاقى في سبيل ذلك من عنت حاكم أو عدم مبالاة صاحب جاه.
2- وأشاع الماديون أن التصوفَ والعلم لا يجتمعان، أو أن التصوف والجهل صديقان، وتلك فِرْيَةٌ أيضًا تهدمها حياة أبي الحسن وحياة الغزالي، وحياة هؤلاء الصوفية الذين بلغوا في العلم الذروة والسنام، وكانوا من الكثرة بحيث لا يكاد يحصيهم المؤرخون مهما بالغوا في الاستقصاء والبحث.
3- وأشاع أصحاب الطبائع الكثيفة، هؤلاء الحسيون المغرقون في التصور الحسي -أن الصوفية لا يتابعون الكتاب والسنة، ومن أجل الرد على هؤلاء عقدنا فصلًا خاصًا عن ذلك يهدم زيفهم وأباطيلهم.
4- ثم لقد كان أبو الحسن أنيقًا في ملبسه، والله جميل يحب الجمال، وكان لا يتزمت في مأكله ومشربه ما دام حلالًا طيبًا، واللهُ سبحانه وتعالى يقول عن الملبس والمطعم: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ﴾[الأعراف:32].
والتصوف في النهاية هو الاسترسالُ مع الله على ما يريد، وهو متابعةُ الرسول صلى الله عليه وسلم على ما يحب، هذا باعتباره وسيلة وطريقًا.
وهو قرب من الله ومشاهدة التوحيد باعتباره الغاية.
ويلخص هذا وذاك شارحًا الطريق والغاية، وراسمًا حياة كل صوفي -الحديث القدسي الذي نختم به هذا الكتاب، وقد رواه إمام المحدثين أبو عبد الله البخاري في أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى، وهو عن أبي هريرة }قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل:
«من عادى لي وليًّا فقد آذنتُه بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببتُه كنت سمعه الذي يسمع به، وبصرَه الذي يبصره به، ويدَه التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني أعطيته، ولئن استعاذ بي لأعيذنه».
المرجع : قضية التصوف ، المدرسة الشاذلية- فضيلة الإمام الأكبر الدكتور عبد الحليم محمود، مصر: دار المعارف، ط 3 ، ص 172 - 173.