يقول الله تعالى في سورة لقمان: ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [لقمان:27].
إن أسرار القرآن الكريم لا يحصرها حاصر، ولا يحيط بها محيط، وكل إنسان يفهم من أسرار القرآن على قَدْرِ استعدادِه.
وما من شك في أنَّ المعنى المطلوب وجوبًا اتِّبَاعُهُ، أو المطلوب وجوبًا تركه، واضح كل الوضوح، لا لبسَ فيه ولا تعقيد.
بيدَ أنَّ الإشارات الرُّوحية والتوجيهات الإلهية للقلوب والبصائر من خلال القرآن الكريم، لا يحيط بها عَدٌّ ولا يأتي عليها الزَّمَنُ، ومن هنا كان صادقًا ما يقوله أحد المفكرين، وقد سئل عن خير تفسير للقرآن، فقال: الزمن.
هذه الإشارات للقلوب والبصائر تنبع وتفيض وتزداد بنسبة زيادة الإمعان في تحقيق معنى العبودية لله سبحانه وتعالى.
وهي إشارة لا تحرم حلالًا ولا تُحِلُّ حرامًا، إنَّها ليست من نوع تأويلات الباطنية، هذه التأويلات المنحرفة، والتي يهدمها من أساسها في سهولة ويُسْرٍ عمل رسول الله >؛ فقد طَبَّقَ صلوات الله وسلامه عليه دينَ الله تطبيقًا هو الأُسْوَةُ التي تُحْتَذَى، والتي إذا خرج الإنسان عن دائرتها في الدين؛ فإنَّه يكون خاطئًا ضالًّا، لقد أخرج رسول الله > وصحابته البررة الأصفياء الأوامرَ الإلهية والنواهيَ الإلهية عن دائرة النظريات إلى دائرة العمل، وتَحَدَّدَ بذلك المَعْنَى المقصودُ من الأوامر والنواهي تحديدًا لا لَبْسَ فيه، وكُلُّ تأويل إذن للأوامر والنواهي يُخْرِجُهَا عن أن تكون مطابقة لعمل الرسول >، وعَمَلِ الصَّحَابَةِ فإنَّمَا هو تأويل باطني ضَالٌّ.
أما الإشارات التي نثبتها هنا؛ فإنها إشارات روحية ترشد إلى معارج للروح تتسامى بازدياد الإنسان في القُرْبِ من الله عن طريق الاستقامة.
ولقد سَمَّيْنَا هذه الإشارات «أجواء»؛ فإن لكل ولي جوه الذي لا يتعارض مع جو الأولياء الآخرين، وإن كان عبيره الزكي قد يختلف عن العبير الزكي الذي يشع من زميله، وما من شك في أن أريج الزهور المختلفة ذوات الروائح الجميلة محبب كله مرغوب فيه جميعه، ولكن الإنسان قد يميل بطبعه إلى نوع منها أكثر من ميله إلى نوع آخر.
ولم يفسر أبو الحسن القرآن تفسيرًا كاملًا، ولم يشرح صحيح البخاري أو صحيح مسلم، ولم يروِ مؤرخوه في تفسير القرآن وفي شرحِ الحديث أشياءَ كثيرة، وقد حاولنا بقدر الاستطاعة، أن نجمع من هنا وهناك ما تَنَاثَر من الدرر التي تتعلق بالقرآن أو بالحديث.
ولم يتيسر لنا -لقلتها- أن ننسقها باقات، أو أن «نُمذهبها» مذاهب، أو أن نقسمها فصولًا، أو أن نلتزم فيها التحديد الموضوعي المحدد، وسنرسلها دون أن نلتزم فيها أي ترتيب، اللهمَّ إلا ترتيب الذوق.
وهي على كل حال بوضعها الذي هي عليه تعطي في وضوح صورة عن جو أبي الحسن الروحي، وتبعث في النفس أسفًا شديدًا على ما تطرق إلى مثيلاتها من إهمال أو نسيان.
1- سئل }عن تفسير «بسم الله الرحمن الرحيم» فقال: النقض لما انبرم.
وقال: إن أردت الصدق في القول فأكثر من قراءة: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ﴾ [القدر:1].
وإن أردت الإخلاص في جميع أحوالك فأكثر من قراءة: ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ [الإخلاص:1].
وإن أردت تيسير الرزق فأكثر من قراءة: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ﴾[الفلق:1].
وإن أردت السلامة من الشر فأكثر من قراءة: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾[الناس:1].
3- إذا كثرت عليك الخواطر والوسواس فقل سبحان الملك الخلاق ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ﴾[فاطر:16].
4- إذ ورد لعيك مزيد من الدنيا والاخرة فقل: ﴿حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ﴾[التوبة:59].
5- من أَجَلِّ مواهب الله: الرضا بمواقع القضاء، والصبر عند نزول البلاء، والتوكل على الله عند الشدائد، والرجوع إليه عند النوائب، فمن خرجت هذه الأربع من خزائن الأعمال على بساط المجاهدة ومتابعة السنة والاقتداء بالأئمة، فقد صحت ولايته لله ولرسوله وللمؤمنين ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الغَالِبُونَ﴾ [المائدة:56].
ومن خرجت له من خزائن المنن على بساط المحبة، فقد تمت ولاية الله له بقوله: ﴿وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ﴾ [الأعراف:196].
ففرق بين الولايتين، فعبد يتولى الله وعبد يتولاه الله، فهما ولايتان: «صغرى وكبرى»؛ فولايتك الله خرجت من المجاهدة، وولايتك لرسوله خرجت من متابعتك لسنته، وولايتك للمؤمنين خرجت من الاقتداء بالأئمة، فافهم ذلك من قوله: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الغَالِبُونَ﴾([1])[المائدة:56].
6- خَصلة واحدة تحبط الأعمال، ولا ينتبه لها كثير من الناس، وهي سخط العبد على قضاء الله تعالى، قال تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ﴾ [محمد:9].
7- إذا ثقل الذكر على لسانك، وكثر اللغو من مقالك، وانبسطت الجوارح في شهواتك، وانسد باب الفكرة في مصالحك، فاعلم أن ذلك من عظيم أوزارك، أو لكمون إرادة النفاق في قلبك.
وليس لك طريق إلا التوبة والإصلاح والاعتصام بالله والإخلاص في دين الله تعالى، ألم تسمع قوله تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ للهِ فَأُولَئِكَ مَعَ المُؤْمِنِينَ﴾ [النساء:146].
ولم يقل من المؤمنين، فتأمل هذا القول إن كنت فقيهًا، والسلام([2]).
وقال } في قوله تعالى: ﴿لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ العُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ﴾ [التوبة:117].
ذكر توبة من لا يذنب لئلا يستوحش من أذنب؛ لأنه ذكر النبي > والمهاجرين والأنصار ولم يذنبوا، ثم قال: ﴿وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا﴾ [التوبة:118]، فذكر من لم يذنب ليؤنس من قد أذنب، فلو قال أولًا: لقد تاب الله على الثلاثة الذين خلفوا؛ لتفطرت أكبادهم.
8- وقال الشيخ أبو العباس }: كنت مع الشيخ في سفر، ونحن قاصدون إلى الإسكندرية حين مجيئنا من المغرب، فأخذني ضيق شديد حتَّى ضعفت عن حمله، فأتيت إلى الشيخ أبي الحسن }، فلما أحس بي قال: أحمد. قلت: نعم يا سيدي.
قال: «آدم خلقه الله بيده، وأسجد له ملائكته، وأسكنه الجنة نصف يوم -خمسمائة عام- ثم نزل به إلى الأرض، واللهِ ما نزل الله بآدم إلى الأرض لينقصه ولكن نزل به إلى الأرض ليكمله، ولقد أنزله إلى الأرض من قبل أن يخلقه بقوله تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة:30].
وما قال: في الجنة ولا في السماء؛ فكان نزوله إلى الأرض نزول كرامة لا نزول إهانة، فإنه كان يعبد الله في الجنة بالتعريف، فأنزله إلى الأرض ليعبده
بالتكليف، فلما توفرت فيه العبوديتان استحق أن يكون خليفة، وأنت أيضًا لك قسط من آدم، كانت بدايتك في سماء الروح في جنة المعارف، فأنزلت إلى أرض النفس لتعبده بالتكليف، فلما توفرت فيك العبوديتان استحققت أن تكون خليفة»([3]).
9- ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ﴾[السجدة:16]
أتراهم منع جنوبهم عن مضاجع النوم، وترك قلوبهم مضجعة وساكنة لغيره؟! بل رفع قلوبهم، ولا يضاجعون بأسرارهم شيئًا، فافهم هذا المعنى:
﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ﴾ عن مضاجعة الأغيار ومنازعة الأقدار.
﴿يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا﴾ فالخوف منه قطعهم عن غيره، وبالشوق إليه أطعمهم فيه.
﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ ولو وسعني بسط الكلام ها هنا لكتبت لك سجلات، لكن الحق قهر القلوب بقدرته، وأنعشها بحكمته، وأغناها بمناجاته عن مخاطبة خلقه.
10- من سوء الظن بالله أن يستنصر بغير الله من الخلق قال تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ﴾ [الحج:15].
11- إذا عرض لك عارض يصدك عن الله فاثبت، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الأنفال:45].
12- من النفاق: التظاهر بفعل السنة، والله يعلم منه غير ذلك.
ومن الشرك بالله: اتخاذ الأولياء والشفعاء من دون الله.
قال الله تعالى: ﴿مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ﴾ [السجدة:4].
13- مراكز النفس أربعة: مركز للشهوة في المخالفات، ومركز في الطاعات، ومركز في الميل إلى الراحات، ومركز في العجز عن أداء المفروضات ﴿فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة:5].
14- من الشهوة الخفية للولي إرادتُه النصرة على من ظلمه، وقال تعالى للمعصوم الأكبر >: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾ [الأحقاف:35]؛ أي فإن الله تعالى، قد لا يشاء إهلاكهم.
15- من أحصن الحصون من وقوع البلاء على المعاصي: الاستغفار، قال الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ [الأنفال:33].
16- لو علم نوح — أنَّ في أصلاب قومه من يأتى يوحد الله عز وجل ما دعا عليهم، ولكان قال: «اللهم اغفر لقومي؛ فإنَّهم لا يعلمون»، كما قال رسول الله >، فكل منهما على علم وبينة من الله تعالى.
17- قرأت ليلة قوله تعالى: ﴿وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (17) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا﴾ [الجاثية:18]، فنمت فرأيت رسول الله > وهو يقول: «أنا ممن يعلم، ولا أغني عنك من الله شيئًا».
18- سمعت الحديث الوارد عن رسول الله >: «إنه ليغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم سبعين مرة»، فأشكل علي معناه، فرأيت رسول الله > وهو يقول لي: «يا مبارك، ذاك غين الأنوار لا غين الأغيار».
19- سمعت الحديث المروي عن رسول الله >:
«من سكن خوف الفقر قلبه قل ما يرفع له عمل»، فمكثت سنة أظن أنه لا يرفع لي عمل، أقول: ومن يسلم من هذا، فرأيت رسول الله > في المنام وهو يقول لي: «يا مبارك، أهلكت نفسك فرق بين خطر وسكن».
20- «اعلم» -أيدك الله بنور البصيرة، وصفاء السريرة- أن رسول الله > قيل له: من أولياء الله يا رسول الله؟ قال: «الذين إذا رءوا ذكر الله»، فافهم معنى قوله: «إذا رءوا»، فاعدل عن رؤية الأجسام إلى رؤية المعاني والأفهام عدولًا كاملًا عن رؤية البصر العامية التي تقع الشركة فيها مع الأنعام التي لا بصيرة لها، واهتدِ بنور الله المستودع في القلوب الذي نظروا واعتبروا ووقفوا وتحققوا، ولا تكن مثل أولئك الذي قال تعالى فيهم: ﴿وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾ [الأعراف:198].
هذا صريح في أطيب الخلق وأبصرِهم، وبه وبنوره وبطيبه طاب كل شيء، وإنه لأمر عجيب في إيثاره الطيب، لاتفاق العلماء أن رائحته أطيب من كل طيب، فافهم وادخل في ميدان معرفته صلى الله عليه وسلم تسليمًا.
وما لك لا تقول كما قال: «والله ما أكل إلا لنا، ولا شرب إلا لنا، ولا نكح إلا لنا، كذلك لا يطيب إلا لنا، فهو إذا أصل كل طيب وبهاء كل معدن، وهو معدن المعادن، فاقتبس من نوره، واغترف من بحره، واشرب من معرفته، وتزين بطاعته؛ تكن الأشياء طوع يديك».
21- العارف من عَرَفَ شدائد الزمان في الألطاف الجارية من الله عليه، وعرف إساءة نفسه في إحسان الله إليه، ﴿فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾[الأعراف:69].
22- ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ [الطَّلاق:1-2]، فسر سهل بن عبد الله هذه التقوى من الحول والقوة، وعدل عمَّا تزين به البَطَّالون من ظاهر التقوى مع دنس باطنه، وهذا صحيح في عبد ظاهر المعاصي والشهوات ويحمل نفسه على أنواع الطاعات، وقد سد الأفق بالدعاوى، وأضاف الحول والقوة إلى نفسه، فهذا عبد قد جاوز الحدود وأعظم الفِرية والعجب، فلا يقوم خيره شره، والمحققون ينسبون له([4]) الأشياء، وينظرون إلى البواعث والثمار، فإذا فقدت الثمار علموا أن علمه وعمله مدخولان، وإذا فقدت البواعث الصحيحة في الأصول فلا يعتبرون بأعمالهم، قال الله عز وجل: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾ [الطَّلاق:2].
فيا مدعي التقوى أين المخرج؟ فإذا رأيت المخرج «ثمرة لتقواك وذلك» بوعد الله وضمانه؛ «فأنت على الصواب والخير»، وإذا لم تجد بتقواك إلا تحيرًا فمن الصادق ومن الكاذب؟.
﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلًا﴾ [النساء:122]، ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ [الطَّلاق:3].
ولا يصح التوكل إلا لمُتَّقٍ، ولا تتم التقوى إلا لمتوكل.
فدَقِّقُوا النظرَ في البواعث والأصول والثمار، والله يحب الصابرين.
23- جاء في الحديث: «من شغله ذكري عن مسألتي، أعطيته أفضل ما أعطي السائلين».
فإذا كان الحق سبحانه قد رضي لهم أن يشغلهم ذكره عن مسألته، فكيف لا يرضى لهم أن يشغلهم ذكره والثناء عليه عن الانتصار لنفوسهم.
ومن عَرَفَ الله سَدَّ عليه باب الانتصار لنفسه؛ إذ العارف قد اقتضت له معرفته ألَّا يشهد فعلًا لغير معروفه، فكيف ينتصر من الخلق من يرى الله فعالًا فيهم، وكيف يدع أولياءه من نصرته، وهم قد ألقَوا نفوسهم بين يديه مسلمين ومستسلمين لما يريد منهم حكمًا، فهم في معاقل عزه تحت سرادقات مجده يصونهم من كل شيء إلا من ذكره، ويقطعهم عن كل شيء إلا عن حبه، ويختارهم من كل شيء إلا من وجود قربه، ألسنتهم بذكره لهجة، وقلوبهم بأنواره بهجة، وطن لهم وطنًا بين يديه، فقلوبهم جاثمة في حضرته، وأسرارهم محققة بشهود أحديته.
24- رأيت كأنِّي في عليين مع الملائكة المقربين في نعيم لا أبغي عنه بدلًا، فقالوا: سر إلى الزيادة؛ فسرت معهم، فدخلت في موطن كريم لا أقدر على وصفه، طامعًا في الشهود؛ فإذا أنا بشهود لا أقدر على وصفه.
فقيل: من كففت جوارحه عن معصيتي، وزينته بحفظ أمانتي، وفتحت قلبه لمشاهدتي، وأطلقت لسان سره لمناجاتي، ورفعت الحجاب بينه وبين صفاتي، وأشهدته معاني أرواح كلماتي، فقد زحزحته عن النار وأدخلته جنتي، وفاز بقربي وصحبته ملائكتي: ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ﴾ [آل عمران:185].
فهذه جنة معجلة لأهل الإيمان البالغ يقينًا، وسيدخلونها يوم الجزاء بأبدانهم ذوقًا وحسًّا وعِيانًا، ثم أناديهم بالعبارة والإشارة واللطف والحقيقة: ﴿يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الجَنَّةِ﴾ [الأعراف:27].
25- الكاملون: حاملون لأوصاف الحق، وحاملون لأوصاف الخلق، فإن رأيتَهم من حيث الخلق رأيتَ أوصاف البشر، وإن رأيتهم من حيث الحق رأيت الأوصاف التي زينهم بها.
فظاهرهم الفقر، وباطنهم الغنى؛ تخلقًا بأخلاق رسول الله >، قال تعالى: ﴿وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى﴾ [الضُّحى:8]أفتراه أغناه بالمال؟.
كلا، وقد شَدَّ الحجر على بطنه من شدة الجوع، وأطعم الجيش كله من صاع، وخرج من مكة على قدميه ليس معه شيء يأكله ذو كبد، إلا شيء يواريه إبط بلال.
26- من النفاق التظاهر بفعل السنة والله يعلم منه غير ذلك، ومن الشرك بالله اتخاذ الأولياء والشفعاء من دون الله، قال الله تعالى:﴿مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ﴾[السجدة:4].
27- العلوم التي وقع الثناء على أهلها وإن جلت، فهي ظلمة في علوم ذوي التحقيق، وهم الذي غرقوا في تيار بحر الذات وغموض الصفات، فكانوا هناك بلا هم، وهم الخاصة العليا الذين شاركوا الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام في أحوالهم، فلهم فيها نصيب على قدر إرثِهِم من مورثهم، قالَ النبي >: «العلماء ورثة الأنبياء» عليهم الصلاة والسلام.
أي يقومون مقامهم على سبيل العلم والحكمة، لا على سبيل التحقيق بالمقام والحال، فإن مقامات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قد جلت أن يلمح حقائقها غيرهم.
28- كل وراث المنزلة المورثة لا يكون إلا بقدر مورثه فقط، قال تعالى:﴿وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ﴾[الإسراء:55]،كما فضل بعضهم على بعض كذلك فضل ورثتهم على بعض؛ إذ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أعينٌ للحق، وكل عين يشهد منها على قدرها، وكل ولي له مادة مخصوصة.
29- لا تختر من الأمر شيئًا واختر ألَّا تختار، وفِرَّ من ذلك المختار فرارك من كل شيء إلى الله تعالى، ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ﴾[القصص:68].
وكل مختارات الشرع وترتبياته فهي مختار الله، وليس لك منه شيء، ولا بد لك منه، واسمع وأطِع، وهذا موضع الفقه الرباني والعلم الإلهي، وهي أرض لعلم الحقيقة المأخوذة عن الله تعالى، لمن استوى، فافهم!.
30- وقال }:همَمْت أن أدعو على ظالم فنوزعت في ذلك، فرأيت أستاذي } يقول لي: إن الله إن يشأ إهلاك ظالم فلا تستعجل له، فالاستعجال بالهلاك للأعداء وإرادة النصر للأولياء من الشهوة الخفية، ومن أظلم ممن ينازع إرادة مولاه، وتبع شهوة نفسه وهواه، وقد أمر المعصوم الأكبر > ونهي بقوله تعالى: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُم﴾ [الأحقاف:35].
وبقوله تعالى: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ العَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [هود:49].
فالإيمان محو الصفات بالصفات، والأسماء بالأسماء، وتفريق الذوات بالذوات؛ لتحقيق ما هو الأول والآخر والظاهر والباطن، فأي شيء كان معه آخرًا حتَّى يكون معه أولًا، وأي شيء كان معه ظاهرًا حتى يكون معه باطنًا، فما ثبت من المخلوقات فبإثباته، وما محي فبمشيئته وإرادته، وخذ ذلك من قوله تعالى: ﴿يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الكِتَاب﴾ [الرعد:39]، وهو العلم الأول وعنه صدر كل علم وكتاب.
31- وقال }: إن أردت أن تنظر ببصر الإيمان والإيقان دائمًا فكن لنعم الله شاكرًا وبقضائه راضيًا، ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ﴾ [النحل:53].
32- قرأت سورة الإخلاص والمعوذتين ذات ليلة، فلما انتهيت إلى قوله تعالى: ﴿مِنْ شَرِّ الوَسْوَاسِ الخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ﴾ [الناس:4-5].
رأيت بعد ذلك يقال لي: شر الوسواس وسواس يدخل بينك وبين حبيبك وينسيك أفعالك الحسنة، ويُكثر عندك ذات الشمال، ويذكرك أفعالك السيئة، ويقلل عندك ذات اليمين؛ ليعدل بك عن حسن الظن بالله ورسوله إلى سوء الظن بالله ورسوله.
33- ألقِ بنفسك على باب الرضا، وانخلع عن عزائمك وإرادتك حتى عن توبتك بتوبته قال الله تعالى: ﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا﴾ [التوبة:118].
المرجع : قضية التصوف ، المدرسة الشاذلية- فضيلة الإمام الأكبر الدكتور عبد الحليم محمود، مصر: دار المعارف، ط 3 ، ص84 - 95.