نسخة تجريبيـــــــة
معارج ومراء

ينتج الذكر المعارج والمرائي، وهي من نتائج الطريق الصوفي والسلوك إلى الله ، ومن أمثلتها عند الشيخ أبي الحسن الشاذلى رضى الله عنه:

1- رأيت كأنني مع النبيين والصديقين، فأردت الكون معهم، ثم قلت: اللهم اسلك بي سبيلهم، مع العافية مما ابتليتهم؛ فإنهم أقوى ونحن أضعف منهم. فقيل لي: وما قدرت من شيء فأيدنا كما أيدتهم.

2- رأيت كأني في المحل الأعلى فقلت:

إلهي، أي الأحوال أحب إليك؟ وأي الأقوال أصدق لديك؟ وأي الأعمال أدل على محبتك؟ فوفقني واهدني.

فقيل لي: أحب الأحوال إليه الرضا بالمشاهدة، وأصدق الأقوال لديه قول: لا إله إلا الله على النظافة، وأدل الأعمال على محبته بغض الدنيا واليأس من أهلها([1])مع الموافقة.

3- رأيت كأني واقف بين يدي ربي، فقال:

لا تأمن مكري في شيء وإن أمَّنْتُك؛ فإن علمي لا يحيط به محيط.

4- رأيت كأني أطوف بالكعبة طالبًا من نفسي الإخلاص وأنا أفتش عليه في سري فإذا النداء علي:

كم تدندن مع من يدنون وأنا السميع القريب العليم الخبير، وتعريفي يغنيك عن علم الأولين والآخرين، ما خلا علم الرسول وعلم النبيين!.

5- قلت على مصيبة نزلت: ﴿إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ[البقرة:156]، اللهم أجرني في مصيبتي، واعقبني خيرًا منها. فألقي في سري أن أقول:

فاغفر لي بسببها، وما كان من توابعها، وما اتصل بها، وما هو محشوٌّ بها، وكل شيء كان قبلها، وما يكون بعدها.

فقلتها فهانت علي، فلو أنَّ الدنيا كلها كانت لي في ذلك وأُصبت فيها لهانت علي، ولكان ما وجدت من برد الرضا والتسليم أحب إليَّ من ذلك كله.

6- وكتب رضى الله عنه  إلى الشيخ أبي يحيى:

أما بعد، فإني منذ اثنتي عشرة سنة أغدو وأروح فيما هيأ لي من سفر الروح على عساكر أولياء الله، فما مَرَرْتُ بك إلا وجدتك روحًا طيبة تعقلها العقول وتألفها النفوس، ويستريح بها السر، ويذعن لها الأمر، ويجتمع إليها كل مفترق.

7- قرأت ليلة في وردي قوله تعالى:

﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ(26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلَالِ وَالإِكْرَامِ[الرحمن:26-27].

فرأيت أبا بكر الصديق رضى الله عنه  في المنام، فقال لي: صِلْ من يبقى واهجُر من يفنى، تجل وتكرم، تجل عن الفناء وتكرم بالبقاء.

8- كان لي صاحب، وكان كثيرًا ما يأتيني بالتوحيد، فرأيت في النوم كأني أقول له: يا عبد الله، إن أردت التي لا لوم فيها، فليكن الفرق على لسانك موجودًا، والجمع في سِرِّكَ مشهودًا.

9- رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم  فقال لي: قل لفلان ابن فلان يقرأ هذه الكلمات، فمن قالهن تَنْصَبُّ عليه الرحمة كالمطر: الحمد لله الذي بُدِئَ منه الحمد وإليه يعود كل شيء كذلك، لا إله إله الله، اللهم اغْفِرْ لي شركي([2]) وكفري([3]) وتقصيري، واغفر للمؤمنين والمؤمنات.

10- استأذنني بعض الفقراء في الحضور والسماع، فهممت بذلك، فرأيت أستاذي رضى الله عنه ، وفي يده اليمنى كتاب فيه القرآن العظيم، وحديثُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي يده اليُسْرَى أوراق فيها مرجز، وهو يقول لي كالمنتهر:

تعدِلون عن العلوم الزكية إلى علوم ذوي الأهواء الرَّدِيَّة، فمن أكثر من هذا فهو عبد مرقوق هواه، وأسير لشهواته ومُنَاه، يستفزون بها قلوب ذوي الغفلة والنسيان، وأهل الضلالة والعميان، ولا إرادةَ لهم في عمل الخير واكتساب الغفران، يَتَمَايَلُون عند سماعها تمايل الصبيان.

لئن لم ينته الظالم ليقلبن الله أرضه سماءً وسماءه أرضًا.

قال: فأخذني منه حال بوجد وأنا أقول له:

نعم يا أستاذي، إلَّا أنَّ النفس أرضية والروح سماوية.

فقال لي: نعم يا علي، إذا كانت الروح بأمطار العلوم دارة، والنَّفْسُ بالأعمال الصالحة ثابتة؛ فقد حصل الخير كله، وإذا كانت النفس غالبة والروح مغلوبة، فقد حصل القحطُ والجدب، وانقلب الأمر وجاء الشر كله.

فعليك بكتاب الله الهادي، وبكلام رسوله الشافي، فلن تزال بخير ما آثرتهما، وقد أصاب الشر من عدل عنهما، وأهل الحق إذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه، وإذا سمعوا الحق أقبلوا عليه: ﴿وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا[الشُّورى:23].

11- وقال رضى الله عنه : خطر ببالي يومًا أنِّي لست بشيءٍ، ولا عندي من المقامات والأحوال شيءٌ، فغُمست في بيت مسك، فكنت فيه غريقًا، فلدوام غرقتي فيه لم أجِدْ له تلك الرائحة؛ فقيل لي: علامة المزيد فِقْدَان المزيد لعظيم المزيد.

12- وقال رضى الله عنه : قيل لي إن أردت رضائي فمن اسمي ومني، لا من اسمك ومنك.

قلت: وكيف ذلك؟.

قال: سبقت أسمائي عطائي، وأسمائي من صفاتي، وصفاتي قائمة بذاتي، ولا تُمحق ذاتي.

وللعبد أسماء دنية وأسماء علية، فأسماؤه العلية قد وصفه الله تعالى بها بقوله: ﴿التَّائِبُونَ العَابِدُونَ الحَامِدُونَ...﴾([4])إلى آخرها.

وبقوله: ﴿إِنَّ المُسْلِمِينَ وَالمُسْلِمَاتِ...﴾ إلى آخرها([5]).

وأسماؤه الدنية معروفة كالعاصي والمذنب والفاسق والظالم وغير ذلك، فكما تمحق أسماؤك الدَّنية بأسمائك العلية، كذلك تمحق أسماؤك بأسمائه وصفاتك بصفاته؛ لأن الحادث إذا اقترن بالقديم فلا بقاء له، إذا ناديته باسمه كقولك: يا غفور يا تواب، يا قريب يا وهاب، فاستدعيت بها العطاء لنفسك، وقد تنزلت لنفسك من أسمائه، وكذلك إذا لاحظت أسماءَك الدَّنِيَّة من المعاصي والظلم والفسق، فاشتغلت بسترها ومغفرتها فأنتَ باقٍ مع نفسك.

وإذا ناديتَه باسمه العلي ولاحظت صفته العلية قائمة بذاته، محقت أسماؤك كلها وانعدم وجودك، فصرت محوًا لا وجود لك ألبتة، فذاك محل الفناء والبقاء بعد الفناء، ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ[الحديد:21].

13- وقال رضى الله عنه : كنت ذات ليلة متفكرًا بالفكرة الغيبية، فأفادني الله عملًا جليلًا، وسعيت في الغيوب سعيًا جميلًا، فقلت في في نفسي:

أليس هذا خيرًا من الدخول في الحوائجِ للخلق مع الخالق، والكون مع الله أتم من الكون في الحاجات للناس وإن كان مأذونًا فيها شرعًا؟.

فبينما أنا كذلك إذ نمت، فرأيت كأن السيلَ قد أحاط بي من كل جهة، يحمل الغثاء عن يميني وعن شمالي، فجعلت أخوض لأخرج منه فلم أرَ برًّا أنفذ إليه من الجهات الأربع، فاستسلمت نفسي ووقفت في السيل كالسارية أو النخلة الثابتة، فقلت في نفسي:

هذا من فضل اللهِ أن ثَبَتُّ لهذا السيل ولا يصيبني شيء من الغثاء، وإذا بشخص جميل الصورة يقول لي:

إن من أحل التصوف التعرض في الحوائج للخلق، واستقضاءها من الملكِ الحق، فما قضاه اللهُ شكرت، وما لم يقضِه رَضِيتَ، وليس قضاؤها الموجب للشكر بأتمَّ من عدم قضائها الموجب للرضا.

وقد علمني الله علمًا قائمًا بذات نفسي لا يفارقها، بل هو لازم لها كالبياض في الأبيض والسواد في الأسود، وهو الله لا إله إلا هو الواحد القهار، رب السماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفار، فانظُر الألوهية الفردانية والوحدانية والقاهرية والربوبية والعز والمغفرة، وكيف لَفَّ هذا كله في كلمة واحدة، إن المغفرة لتنزل على العارف بالله كالسيل الحامل من الغثاء، ويُثبِّت الله فيها وبها من يشاء ولا يصيبه شيء من الغثاء.

فانتبهت من نومي وقد وعيت السِّرَّ العظيم والحمد لله.

14- فتح الله بشيءٍ من الدنيا ففرحت لأستعين أو أعين بها، فجعلت أحمَد الله وأشكره، والشكر معرفة قائمة بالقلب، وكلمة قائمة باللسان، فكنت أجمَع بينهما، فواظبت على ذلك وقتًا من الليل ونِمْتُ، فرأيت أستاذي رحمه الله تعالى يقول:

استعِذْ باللهِ من شَرِّ الدنيا إذا أقبلت، ومن شَرِّهَا إذا أدبرت، ومن شَرِّهَا إذا أنفقت، ومن شرها إذا أمسكت.

فجعلت أقول كذلك، فوصل الشيخ كلامي فقال:

ومن المصائب والرزايا والأمراض البدنية والقلبية والنفسية جملة وتفصيلًا بالكلية، وإن قدرت شيئًا فاكسني جلال الرضا والمحبة والتسليم، وثواب المغفرة والتوبة والإنابة المَرْضِيَّة.

15- رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت له:

يا سيدي يا رسول الله، ادعُ الله أن يجعلني رحمة للعالمين.

فقال لي: أنا هو ذاك يا علي، والولي رحمة في العالمين.

16- رأيت كأنَّ رجلًا جاء إليَّ فقال لي: إن السلطان يأتي إليك، فقل: اللهم ألق على من زينتك ومحبتك وكرامتك، ومن نعوت ربوبيتك ما يبهر القلوب، وتذل له النفوس، وتخضع له الرقاب، وتبرُق له الأبصار، وتتبدد له الأفكار، ويصغر له كل متكبر جبار، ويسجُد له كل ظلوم كفار، يا الله، يا مالك، يا عزيز، يا جبار، يا الله، يا أحد، يا واحد، يا قهار.

المرجع : قضية التصوف ، المدرسة الشاذلية- فضيلة الإمام الأكبر الدكتور عبد الحليم محمود، مصر: دار المعارف، ط 3 ، ص115 - 120.

 



([1])  بغض الشهوات والأهواء والنزغات فذلك هو الدنيا، وبغض أهل الشهوات والأهواء والنزغات.

([2])    يطلق الشرك على الإشراك بالله الذي يُخرج الشخص عن دائرة الإسلام ويطلق على الظلم بألوانه: الكبير منها والصغير.

([3])    يطلق الكفر على نكْرَانِ الجميل وعلى ألوان من المعاصي لا تصل إلى درجة إخراج الإنسان عن الإسلام.

([4])    سورة التوبة، الآية: 112.

([5])    سورة الأحزاب، الآية: 35.


التقييم الحالي
بناء على 3 آراء
أضف إلى
أضف تعليق
الاسم *
البريد الإلكتروني*
عنوان التعليق*
التعليق*
البحث