نسخة تجريبيـــــــة
كفاحه

الشاذلية - شيوخ السلسلة - الشيخ أبو الحسن الشاذلى 

                  كفاحه

العنصر الثاني في هذه شخصية الشيخ أبى الحسن الشاذلى بعد العنصر العلمى الصوفى فى شخصيته هو: عنصر الكفاح, ونبدأ مباشرة في هذا المجال بما سبق أن كتبناه تحت عنوان: «أبو الحسن الشاذلي في معركة المنصورة».

ونبدأ بهذا الموضوع حينما نتحدث عن كفاح أبي الحسن؛ وذلك لما يظنه بعض الناس من أن الصوفية قَوْمٌ كسالى, وأنَّ التصوف مظهر من مظاهر الضعف، والواقع أن حياة أبي الحسن -حين يرسمها الإنسان- تظهر وكأنها معول يهدم ما يبنيه أعداء التصوف من شُبهات حوله, ولنبدأ بالجهاد بعد أن صَوَّرْنَا الجانب العلمي، وإذَا كان التصوف لا يَأْلَف الجهل كما رأينا؛ فإنه حليف لكفاح كما سنرى: ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ[الحج:78].

إذا عدنا إلى أواخر النصف الأول من القرن السابع الهجري, وذهبنا بخيالنا نرتاد أرجاء مدينة المنصورة؛ رأينا ظاهرة لا عهد لمن مارسوا الحروب الحديثة برؤيتها إلا نادرًا، تلك هي ظاهرة الإيمان والثقة المطلقة بالله.

إنَّه من الطبيعي أن تكون مدينة المنصورة -حين ذاك- في حركة لا تهدأ، إنها الحرب، والمصريون يستعدون لملاقاة العدو المُغِير الذي احتل دمياط، ويحاول التغلغل في البلاد بالاستيلاء عليها.

الاستحكامات تُقَام, والمُؤَن تَرِدُ، والجيوش تتوالى وتُرَتَّبُ, والأوامر تَصْدُرُ في حزم وثبات, والظاهرُ بيبرس لا يكاد يغمض له طرف, ولا يذوق النوم إلا غرارًا.

وفي جانب آخر لويس التاسع -ملك فرنسا- يقود الجيوش الجَرَّارَةَ من الصليبين، يريد أن ينازل الإسلام والعروبة في معركة فاصلة حاسمة هي معركة المنصورة.

لقد وقف الغرب كله مستعدًّا للهجوم على مصر, يريد أن يدمر الإسلام والعروبة بالقضاء على المصريين, كما وقف الشِّرْكُ كله من قبل في غزوة الخندق, يريد أن يدمر الإسلام بالقضاء على المدينة المنورة ومن فيها من رجال الإسلام الأُول، وعلى رأسهم رسول الله صلوات الله عليه وسلامه.

وبين موقعة المنصورة وغزوة الخندق تشابه في بعض النواحي:

ففي كل منهما أتى الشرك بكل ما يمكن، وبكل ما يستطيع من عتاد ومن عدد ليقضي على التوحيد في عُقْرِ داره.

فقد اقتحمَ الشركُ الأول حَرَمَ مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم وحاصرها, أما الشرك الثاني فقد اخترق الحدودَ وتغلغل في البلاد, واحتلَّ بعضها, حتى وصل إلى أطراف المنصورة.

وفي كل منهما كان المسلمون -برغم رؤيتهم للخطر المحدِق بهم- ثابتي الجنان ومؤمنين كل الإيمان بنصر الله، مطمئنين إلى قضائه.

وإذا أردنا تعليل هذه الثقة في الله عند المسلمين في غزوة الخندق؛ فتعليلها سهل واضح: لقد كان على رأسِهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيهم أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وكبار الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.

وهؤلاء -لثقتهم المطلقة في الله- يبعثون -بطريق التأسي- الثقة في نفوس الآخرين.

أما في واقعة المنصورة؛ فإن تعليل الثقة والإيمان والاطمئنان الذي كان يسود إذ ذاك، ويسيطر على قلوب المجاهدين الأبطال، ويبعث فيهم الجد والنشاط، وتَحَمُّلَ التعب والسهر ليلًا والعلم نهارًا، أقول: إن تعليل ذلك ليس بالأمر الهَيِّنِ على من يقرأ التاريخ على أنه ساسة مدنيون وقواد حربيون وجنود تزيد أو تقل في العدد.

إذا نَظَرْنَا إلى التاريخ بهذا المنظار؛ فإن تعليل هذه الظاهرة في موقعة المنصورة لا يتيسر ولا يستقيم.

وحقيقة الأمر أنَّ مصر -إذ ذاك- كانت تضم بين أرجائها نخبة ممتازة من العلماء الدينين الذين أخلَصُوا جُهْدَهُم لله وحده؛ فلم تغرهم الدنيا بزخرفها وزينتها.

كان في مصر إذ ذاك: العز بن عبد السلام، ومجد الدين القشيري، ومحيي الدين بنسراقة، ومجد الدين الأخميمي, وأبو الحسن الشاذلي، وغيرهم من خيرة العلماء.

لم يستقر هؤلاء العلماء في دورهم البعيدة عن الخطر، وإنما هَبُّوا جميعًا للجهاد في سبيل الله, لقد هاجروا إلى المنصورة ليكونوا بين المجاهدين، وبرغم أن العارف بالله أبا الحسن الشاذلي كان في آخرِ حياتِه, وكان قد كُفَّ بصرُه، فإنَّه كان في مقدمة الذاهبين إلى المنصورة!.

ها هم أولئك العلماء الصوفية -أو الصوفية العلماء- بسَمْتِهِم الملائكي, وبإيمانهم الذي لا يتزعزع, يسيرون وسط الجند، يحثون ويشجعون, ويرشدون ويذكرون بالله, ويبشرون -كما وعد الله- بإحدى الحُسْنَيَيْنِ: النصر أو الجنة، وإذا لزم الأمر عملوا بأيديهم مع العاملين.

لقد كان مُجَرَّدُ سيرِهِم في الحواري والشوارع تذكيرًا بالنصر أو الجنة, وكان حفزًا للهَمم, وتثبيتًا للإيمان, وتأكيدًا لصورة الجهاد الإسلامية التي قادها في عصور الإسلام الأولى رسولُ الله صلوات الله عليه وخلفاؤه الراشدون رضوان الله عليهم، حتى إذا اطمأنوا إلى الأسباب والوسائل المادية الظاهرة والمعنوية الباطنة, وحتى إذا ما جَنَّهُمُ الليل, اجتمع هؤلاء الأعلام في خيمة من خيام المعسكر -نعم في خيمة من خيام المعسكر- يتجهون إلى الله بصلاتهم ودعائهم, يلتمسون منه النصر، فإذا ما فرغوا من ذلك أخذوا يتدارسون كتابًا من الكتب.

لقد كانوا يتدارسون في إحدى الليالي الرسالة القشيرية، تقرأ عليهم وهم يسمعون ويشرحون.

ماذا كانوا يقرءون من أبواب الرسالة؟.

أكانوا يقرءون باب الفتوة؟.

أم كانوا يقرءون باب الحرية؟

أم كانوا يقرءونها في تتابع مبتدئين من أولاها؟.

كانت تقرأ عليهم ويشرحون, وكان الشيخ أبو الحسن الشاذلي صامتًا يستمع, فلما فرغوا طلبوا إليه -وهو من أعلام هذا الميدان- أن يَتَحَدَّثَ, وألحوا في الطلب, فسَكَتَ الشيخ فترة, ثم تكلم في انطلاق وفي قوة، وفي وروحانية لا يمكن التعبير عن وصفها بأسمَى من كلمة الشيخ عز الدين بن عبد السلام الذي قال لأصدقائه وزملائه، حينما سمع أبا الحسن يتحدث:

«اسمعوا هذا الكلام الغريب, القريب العهد من الله».

ولا يقدر هذه الكلمة حق قدرها إلا من يعرف من هو العز بن عبد السلام.

 «الكلام الغريب»: لأنه ليس مأخوذًا من الكتب, ولا محبرًا في الأسفار.

«القريب العهد من الله»: لأنه إلهام الساعة, ووحي الزمن الراهن.

وشُغِلَ أبو الحسن بأمر المسلمين، فكان ليله ونهاره مشغولًا بالله في أمرهم حتى إذا ما أخذته سِنَةٌ من النوم في ليلة من الليالي، رأى -فيما يراه النائم- رؤيا تتعلق بحالة المسلمين في المنصورة، ومن ذلك الرؤيا التي حكاها صاحب كتاب «درة الأسرار» قال:

«قال الشيخ أبو الحسن: كنت بالمنصورة, فلما كانت ليلة الثامن من ذي الحجة, بِتُّ مشغولًا بأمر المسلمين وبأمر الثغر، وقد كنت أدعو الله وأضرع إليه في أمر السلطان والمسلمين.

فلما كان آخر الليل، رأيت فسطاطًا واسع الأرجاء, عاليًا في السماء، يعلوه نور ويزدحم عليه خلق من أهل السماء، وأهل الأرض عنه مشغولون، فقلت:

لمن هذا الفسطاط؟.

فقالوا: لرسول الله صلى الله عليه وسلم .

فبادرت إليه بالفرح, ولقيت على بابه عصابة من العلماء والصالحين نحوًا من السبعين، أعرِف منهم الفقيه عز الدين بن عبد السلام, والفقيه مجد الدين مدرس قوص, والفقيه الكمال بن القاضي صدر الدين، والفقيه المحدث محيي الدين بن سراقة, والفقيه عبد الحكيم بن أبي الحوافز، ومعهم رجلان لم أعرف أجمل منهما, غير أني وقع لي ظن في حالة الرؤيا: أنَّهما الفقيه زكي الدين عبد العظيم المنذري المحدث، والشيخ مجد الدين الأخميمي.

وأردت أن أتقدم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فألزمتُ نفسي التواضع والأدب مع الفقيه ابن عبد السلام، وقلت: لا يصلح لك التقدم قبل عالم الأمة في هذا الزمان, فلما تقدم وتقدم الجميع، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يشير إليهم يمينًا وشمالًا: أن اجلسوا، وتقدمت وأنا أبكي بالهم وبالفرح، أما الفرح فمن أجل قربى لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالنسب، وأما الهم فمن أجل المسلمين والثغر، وهم طلبي إليه صلى الله عليه وسلم ، فمد يده حتى قبض على يدي، وقال:

لا تهتم كل هذا الهم من أجل الثغر، وعليك بالنصيحة لرأس الأمر، يعني السلطان.

فإن ولي عليهم ظالم فما عسى، وجمع أصابع يده الخمسة في يده اليسرى كأنه يقلل المدة.

وإن ولي عليهم تقي فالله ولي المتقين، وبسط يده اليمنى واليسرى.

وأما المسلمون فحسبك الله ورسوله وهؤلاء المؤمنون؛ أي العلماء والفقهاء والصالحون الذين بالمجلس.

وقال: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الغَالِبُونَ[المائدة:56].

وأما السلطان فيد الله مبسوطة عليه برحمته ما والى أهل ولايته ونصح المؤمنين من عباده، فانصحه واكتب له، وقل في الظالم عدو الله قولًا بليغًا: فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون.

فقلت: نُصرنا ورب الكعبة وانتبهت، ونصر الله المسلمين نصرًا مؤزرًا، وأُسر الملك لويس، وأُسر الكثيرون من قواده, وأشاد الشعراء بهذا النصر».

ومن قصيدة مشهورة لابن مطروح، نقتطف منها ما يلي، قال يخاطب لويس:    

وكل أصحابك أودعتهم

*

بحسن تدبيرك بطن الضريح

 

 

سبعون ألفًا لا يرى منهمو

*

إلا قتيل أو أسير أو جريح

وقل لهم إن أزمعوا عودة

*

لأخذ ثأر أو لفعل قبيح

دار ابن لقمان على حالها

*

والقيد باقٍ والطواشي صبيح

 

ولسنا هنا بصدد تاريخ هذه الموقعة الحربية، وما أوردنا مما سبق، إلا أن نلقي ضوءًا واضحًا على اشتراك أبي الحسن الشاذلي في الجهاد, برغم أنه كان يعتذر له عن التخلف لكِبَرِ سنه, ولأنه قد كُفَّ بصره.

ولكنَّ أبا الحسن لا يتخلف عن فرض, وما كان يتأتى له أن يتخلف عن مؤازرة المسلمين، هذه الصورة نَضَعُهَا أمام أنظار علماء المسلمين في العصر الحاضر, وأمام رجال التصوف الإسلامي، لَعَلَّ فيها لهؤلاء وأولئك ذكرى كريمة ومثلًا يحتذى.

ولا يتأتي أن نختم الحديث عن مبدأ أبي الحسن في الجهاد دون أن نذكر قوله: «من ثبتت ولايته من الله لا يكره الموت», ويعلم ذلك من قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ للهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا المَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ[الجمعة:6].

فإذن؛ الولي على الحقيقة لا يكره الموت إن عرض عليه.

وصورة أخرى من الكفاح هي صورة العمل.

يقول ابن عطاء الله: «وكان الشيخ أبو الحسن يكرهُ المريد المتعطل، ويكره أن يسأل تابعُه الناسَ، وقد كان جَوَادًا بما يملك، وكريمًا يكره البخل، ويحث على طرق باب الأسباب والعمل». اهـ.

ويقول أبو الحسن: «لكل ولي حجاب- أي ستر يحجبه عن اعتقاد الناس فيه- وأنا حجابي الأسباب». اهـ.

ولقد كان أبو الحسن يعمل في الزراعة على نطاق واسع؛ فهو يتحدث في خطاب له لأحد أصدقائه يحدِّثُه فيه عن سبب تأخيره في السفر، فيقول: «وسبب الإمساك -عن السفر في العادة-([1]) زرع لنا يدرس قد حرث لنا في ثلاثة مواضع». اهـ.

وإن الذي يؤخر أبا الحسن عن السفر ليس هو زرع فدان أو فدانين، ولا حصد فدان أو فدانين, فالأرض قد حرثت في ثلاثة مواضع.

وكان الشاذلي يَتَّخِذُ للزراعة الوسائلَ التي تتيح نوعًا من الاكتفاء الذاتي، فيربي الثيران مثلًا للحرث والدرس, ويتحدث للعظة والاعتبار عن ثور من هذه الثيران وقع في بئر، ولنذكر القصة كما رواها صاحب «درة الأسرار»:

يقول أبو الحسن: جعل لي في ليلة دعاء فقلت: «اللهم اجعل قضاءك ومحابك ولقاءك، وذاتك وذات رسولك وسر ذات رسولك -أحب إليَّ من نفسي، وأهلي وولدي ومالي والناس أجمعين». فكنت أقولها بوجد، فأجد لها حلاوة, فكثر ذلك علي فقلت: «شيء ينزل، وقضاء يحدث، فبينما أنا قاعد قيل لي: إن ثورًا كان لك فوقع في البئر، فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون فقيل لي: لهذا كانت المقدمة».

ولا تنتهي القصة عند هذا الحد، ولكن هذا هو ما أردناه منها.

على أن أبا الحسن لا يقتصر على الحَثِّ على العمل، متخذًا من نفسه قدوة، ولا يقتصر على النفور من المريد المتعطل، وإنَّما يذهب مع أتباعه إلى أبعدَ من هذا، وله في ذلك -مع أبي العباس- قصة طريفة.

يقول أبو العباس فيما رواه ابن عطاء الله:

«دخلت يومًا على الشيخ أبي الحسن رضى الله عنه، فقال لي:

إن أردت أن تكون من أصحابي فلا تسأل أحدًا شيئًا، وإن أتاك شيء من غير مسألة فلا تقبله.

فقلت في نفسي: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية، وقال: «ما أتاك من غير مسألة فخذه».

فقال الشيخ: كأنك تقول كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية، وقال: «ما أتاك من غير مسألة فخذه».

النبي صلى الله عليه وسلم قال الله في حقه: ﴿قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالوَحْيِ[الأنبياء:45]، متى أوحي الله إليك؟.

إن كنت مقتديًا به في الأخذ فكن مقتديًا به كيف يأخذ، كان صلى الله عليه وسلم لا يأخذ شيئًا إلا ليثيب من يعطيه ويعوضه عليه».

(فإن نظرت نفسك وتقدست هكذا فاقبل وإلَّا فلا).

وهذه القصة غاية في العمق، ونحن نقدمها على ما هي عليه إلى كل موظف وكل صاحب جاهٍ, وكل هؤلاء الذين يقبَلون الرشوة في صورة هدية، وكل من يُلَبِّسُ عليهم الشيطان في أكل أموال الناس بالباطل.

والنظرية الشاذلية في الغنى والفقر تُفَضِّل الغني الشاكر على الفقير الصابر، وتعلل ذلك بأن الصبر فضيلة في الدنيا فقط، أما الشكر فإنه فضيلة في الدنيا والآخرة.

ونختم هذا الحديث عن العلم والكفاح والثراء بالقصة التالية:

قال أبو الحسن: هَمَمْتُ مرة أن أختارَ القلة من الدنيا على الكثرة، ثم أمسكت، وخَشِيتُ سوء الأدب, فلجأتُ إلى ربي, ورأيت في النوم كأن سليمان — جالس وحوله العسكر، ورفع لي عن قدوره وجفانه، فرأيت أمرًا كما وصفه الله تعالى بقوله: ﴿وَجِفَانٍ كَالجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ[سبأ: 13].

فنوديت: لا تخترْ مع الله شيئًا، وإن اخترت فاختر العبودية لله؛ اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم ، حيث قال:«عبدًا رسولًا»، إن كان ولا بد فاختر ألا تختار، وفر من ذلك المختار إلى اختيار الله.

فانتبهت من نومي، فرأيت بعدها قائلًا يقول لي: إن الله اختار لك أن تقول: «اللهم وَسِّعْ عَلَيَّ رزقي من دنياي, ولا تحجبني بها عن أُخراي, واجعل مقامي عندك دائمًا بين يديك, وناظرًا منك إليك, وأرِنِي وجهك, ووَارِنِي عن الرؤية وعن كل شيء دونك, وارفع البَيْنَ فيما بين وبينَك, يا من هو الأول والآخر والظاهر والباطن، وهو بكل شيء عليم».

ثُمَّ صورة ثالثة من صور الكفاح، اشتهر بها أبو الحسن وعُرف بها بين الناس، وهي صورة تميزه عن تلميذه أبي العباس، تلك هي صورة السعي في مصالح الناس, ولقد رأينا أنه حينما نزل مصر في مروره العابر إلى الحج، ذهب إلى السلطان لرفع الرمية التي رمى بها واليه على الأعراب, وتَعَرَّضَ بسبب ذلك إلى ما سبق أن ذكرناه آنفًا، ومِمَّا يروي ابن عطاء في «لطائف المنن» قال:

استشفع طالب بالشيخ أبي الحسن إلى القاضي تاج الدين أن يزاد على مرتبه، فذهب الشيخ إليه، فأكبر القاضي تاج الدين مجيئَه، وقال له:

يا سيدي، فيم جئت؟.

فقال: من أجل فلان الطالب تزيدُه في مُرَتَّبِهِ عشرة دراهم.

فقال القاضي: يا سيدي، هذا له في المكان الفلاني كذا، وفي المكان الفلاني كذا، وفي الموضع الفلاني كذا وكذا.

فقال له الشيخ: يا تاج الدين، لا تستكثر على مؤمن عشرة دراهم تزيده إياها؛ فإن الله تعالى لم يقنع للمؤمن بالجنة جزاءً حتى زادَه النظر إلى وجهه الكريم.

وكثرَت شفاعات أبي الحسن بكثرة المظلومين والمساكين والذين لا جاهَ لهم، والضعفاء وذوي الحاجات على مختَلِفِ ألوانهم، وأخذ يتردد على ولاة الأمور شافعًا ومدافعًا ومحاميًا، حتى لقد قال ابن دقيق العيد في ذلك:

«جهل ولاةُ الأمور بقدر الشيخ أبي الحسن الشاذلي رضى الله عنه؛ لكثرة تردده في الشفاعات».

أما ابن عطاء الله فقد قال في ذلك معلقًا على كلمة ابن دقيق العيد:

إن هذا الأمر لا يقوى عليه إلا عبدٌ متخلق بأخلاق الله, بَذَلَ نفسه وأَذَلَّهَا في مرضات الله, وعلم وسيع رحمة الله، فعامل عباد الله ممتثلًا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الراحمون يرحمهم الله، ارحمُوا من في الأرض يرحمكم من في السماء».

على أننا لا نترك هذا الموضوع دون أن نشير إلى أن أبا الحسن كان دائمًا يدعو الله قبل أن يسير إلى وساطة في الخير، وأدعيته في ذلك عليها طابع العبودية وفيها عبير الخشوع؛ وذلك ليشعر هو ويشعر الناس أنَّ الأمور كلها بيد الله، وأنَّه ليس إلا منفذًا لمشيئة الله سبحانه, وقد تَفَضَّلَ الله عليهِ فجعله سببًا في الصالحات.

ومن أمثلة ذلك: ما روى صاحب «درة الأسرار» قال: وقال رضى الله عنه، وقد أراد أن يمشي للبعض في الدفع عن رجل من الصالحين:

«اللهم اجعل مشيي إليه تواضعًا لوجهك, وابتغاء لفضلك، ونصرة لك ولرسولك، وزيني بزينة الفقراء المهاجرين الذين أُخْرِجُوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلًا من الله ورضوانًا وينصرون الله ورسوله، أولئك هم الصادقون، وخُصَّنِي بالمحبة والإيثار، ورفع الحجاب من الصدور في الليل والنهار، وقني شُحَّ نفسي، واجعلني من المفلحين، واغفر لينا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلًّا للذين آمنوا، ربنا إنك رءوف رحيم».

ها نحن أُولاءِ نرى أبا الحسن عالمًا مستنيرًا كأحسن ما يكون العالم المستنير, ومجاهدًا صادقًا كأفضل ما يكون المجاهد الصادق.

وعاملًا ًمكافحًا في الحرث والغرس، تتعدد مزارعُه، وتتعدد مواضعُ الحصاد لديه، ونراه رائحًا وغاديًا مستشفعًا وقاضيًا للناس حاجاتهم.

وإذا كان ذلك يمثل جوانبَ أصيلة في شخصيته, فإنَّ الأصل في شخصيته لم نتحدث عنه بعد، وهو بعد سياحاته وعبادته.

المرجع : قضية التصوف ، المدرسة الشاذلية- فضيلة الإمام الأكبر الدكتور عبد الحليم محمود، مصر: دار المعارف، ط 3 ، ص 54 - 65.

 



([1])    أي في الأسباب الظاهرة؛ إذ السبب الحقيقي إنما هو إرادة الله سبحانه وحدها، وهذه الكلمة تبين المدى البعيد في تأدُّب أبي الحسن مع الله.


التقييم الحالي
بناء على 3 آراء
أضف إلى
أضف تعليق
الاسم *
البريد الإلكتروني*
عنوان التعليق*
التعليق*
البحث