الشاذلية - شيوخ السلسلة - الشيخ أبو الحسن الشاذلى
قدومه الإسكندرية
عَزَمَ الشيخ على الحَجِّ فأمر أصحابه بالنقلة إلى المشرق قبل موعد الحج بزمن طويل؛ وذلك ليمكث بمصر فترة من الزَّمَنِ قبل الذهاب إلى الديار المقدسة.
وبدأ الرَّكْبُ يتحرك، ونهضت تونس مودعة، وكانت حركة، وكان ضجيج، وعَلِمَتْ تونس كلها أن أبا الحسن راحل، وعلم السلطان فيمن علم، وظَنَّ أن أبا الحسن يريد الخروج نهائيًّا من تونس، فوقع الرعب في قلبه وأسرع بتوجيه وفد يرجوه في العودة، فقال الشيخ: «ما خرجت إلَّا بِنِيَّةِ الحج إن شاء الله تعالى، ولكن إذا قضى الله حاجتي أعود إن شاء الله».
يقول صاحب «درة الأسرار»:
فلما تَوَجَّهْنَا إلى المشرق، ودخلنا الإسكندرية، عمل ابن البراء عقدًا بالشهادة أنَّ هذا الواصل إليكم شَوَّشَ علينا بلادنا، وكذلك يفعل في بلادكم، فأمر السلطان أن يعتقل بالإسكندرية، فأقمنا بها أيامًا.
وكان السلطان رمى رمية على أشياخ في البلاد، يقال لهم «القبائل»، فلما سمعوا بالشيخ أَتَوْا إليه يطلبونه في الدعاء، فقال لهم: غدًا إن شاء الله نسافر إلى القاهرة ونتحدث مع السلطان فيكم.
قال: فسافرنا، وخرجنا من باب السدرة والجنادة فيه والوالي، ولا يدخل أحد ولا يخرج حتى يُفتَّش، فما كلمنا أحد ولا علم بنا.
فلما وصلنا إلى القاهرة أتينا القلعة فاستأذن على السلطان، قال: كيف وقد أمرْنا أن يُعْتَقَل بالإسكندرية.
فأُدْخِلَ على السلطان والقضاة والأمراء، فجلس معهم ونحن ننظر إليه قال له الملك: ما تقول أيها الشيخ؟.
فقال له: جئت أشفع إليك في القبائل.
فقال لهل: اشفع في نفسك، هذا عقد بالشهادة فيك، وَجَّهَهُ ابن البراء من تونس بعلامته فيه. ثم ناوله إياه.
فقال له الشيخ: أنا وأنت والقبائل في قبضة الله.
وقام الشيخ.
فلما مشى قدر العشرين خُطوة، حَرَّكُوا السلطان فلم يتحرك ولم ينطق، فبادروا إلى الشيخ وجعلوا يقبلون يديه ويُرَغِّبُونَهُ في الرجوع إليه.
قال: فرجع إليه، وحركه بيده، فتحرك ونزل عن سريره، وجعل يستحله ويرغب منه في الدعاء، ثم كتب إلى الوالي بالإسكندرية أن يرفع الطلب عن القبائل ويرد جميع ما أخذه منهم، وأقمنا عنده في القلعة أيامًا.
واهتزت بنا الديار المصرية، إلى أن طلعنا إلى الحج، ورجعنا إلى مدينة تونس([1]).
رجع الشيخ إلى مدينة تونس واستمر بها هاديًا مرشدًا داعيًا إلى الله ورسوله، ولكن ثورة ابن البراء لم تهدأ بل على العكس، زادت بنسبة زيادة أنوار
الشيخ وزيادة أتباعه، وفي هذه الأثناء قدم إلى تونس الشيخ الولي أبو العباس المرسي، فلما اجتمع الشيخ به ورآه، قال:
«ما رَدَّني لتونس إلا هذا الشاب»، هذا الشاب الذي لازمه فلم يفارقه منذ لقائه به إلى أن انتهت بالشيخ الحياة؛ فكان الخليفة بعده، واستمر الشيخ بتونس لا يبالي بمكائد ابن البراء، وكان يعلم أنَّ مقامه بتونس مؤقت؛ بناء على ما ذكره له شيخه كما سبق، ولكنَّه كان مقيمًا ينتظر الإذن بالسفر، وما كان له -وقد حضر إلى تونس من الحج واستقر به المقام بها- أن يسافر إلى بإذن.
وأتى له الإذن، يقول رضى الله عنه : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقال لي: «يا علي، انتقل إلى الديار المصرية تربِّي فيها أربعين صِدِّيقًا».
وبرغم أنه كان في زمن الصيف وشدة الحر؛ فإنَّه أمر أصحابه بالاستعداد للسفر، فلما تَمَّ ذلك في سرعة سريعة، سافر الشيخ إلى الديار المصرية.
وصل الشيخ إلى الإسكندرية، يقول صاحب «درة الأسرار»:
«وكان مسكنه رضى الله عنه بالإسكندرية ببرج من أبراج السور، حبسه السلطان عليه وعلى ذريته، دخلته عام خمسة عشر وسبعمائة، في أسفله ماجل كبير ومرابط للبهائم، وفي الوسط منه مساكن للفقراء وجامع كبير، وفي أعلاه أعلية لسكناه ولعياله، وتزوج هنالك ووُلِدَ له أولادٌ.
منهم الشيخ شهاب الدين أحمد، وأبو الحسن علي، وأبو عبد الله محمد شرف الدين أدركته بدمنهور قاطنًا بها، ومن البنات زينب ولها أولاد رأيت بعضهم، وعريفة الخير أدركتها بالإسكندرية وما عرفت غير هؤلاء». اهـ.
أما نوع معيشته في الديار المصرية؛ فإنَّه يصفها في إحدى رسائله إلى بعض أصدقائه بتونس، وهي رسالة طويلة يقول فيها رضوان الله عليه:
«الكتاب إليكم من الثغر([2]) -حرسه الله- ونحن في سوابغ نعم الله نتقلب، وهو بفضله وبوده إلينا يتحبب، قد ألقى علينا وعلى أحبابنا كنفه، وجعلنا عنده فما ألطفه! ندعوه فيلبينا، وبالعطاء قبل السؤال ينادينا، فلله الحمد كثيرًا كما ينبغي لوجهه الكريم وجلاله العظيم.
وأما الأهلُ والأولاد والأصهار والأحباب ففي سوابغ نِعَمِ الله يتقلبون، وبإحسانه ظاهرً وباطنًا مغمورونَ، نسأل الله المزيد التَّامَّ العام لكم ولهم أجمعين، وأن ينوب عنَّا في شكره، إنَّه أكرم الأكرمين»([3]). اهـ.
ولقد كانت إقامته بمصر مصداقًا لما نودي به حينما دخلها، يقول رضى الله عنه: «لما قدمت الديار المصرية قيل لي:
يا علي، ذهبت أيام المحن، وأقبلت أيام المنن، عشر بعشر، اقتداء بجدك صلى الله عليه وسلم». اهـ.
ولقد كانت مصر حينئذ تعتزُّ بمجموعة من أكرم العلماء وأفضلهم علمًا وخلقًا وصلاحًا، مجموعة وَهَبَتْ نفسها لله، وأسلمت قيادها له، فأحاطها الله بعنايته، وتكفلها برعايته، وَوَضَعَ حبها في قلوب الناس، وَوَضَعَ مهابتها في أفئدتهم، فكانت محبوبة مهيبة.
ولقد استقبلتْ هذه المجموعة أبا الحسن أجمل استقبال وأحسنه، ورافقته متتلمذة ومتآخية.
يقول صاحب «المفاخر العلية» نقلًا عن ابن مغيزل:
«إن الشيخ رضى الله عنه لما قدم من المغرب الأقصى إلى مصر، صار يدعو الخلق إلى الله تعالى، فتصاغر وخضع لدعوته أهل المشرق والمغرب قاطبة، وكان يحضُر مجلسه أكابر العلماء من أهل عصره مثل سيدي الشيخ عز الدين ابن عبد السلام, والشيخ تقي الدين بن دقيق العيد, والشيخ عبد العظيم المنذري, وابن الصلاح, وابن الحاجب, والشيخ جمال الدين عصفور, والشيخ نبيه الدين بن عوف, وهؤلاء سلاطين علماء الدين شرقًا وغربًا في عصرهم, وأيضًا الشيخ محيي الدين بن سراقة, والعلم ياسين تلميذ ابن العربي {؛ فكانوا يحضرون ميعاده بالمدرسة الكاملية بالقاهرة, لازِمِينَ الأدبَ, مصيخين له, متلمذين بين يديه، وأن الشيخ الإمام قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة الولي ابن الولي رحمهم الله، كان يرى أنه في بركة الشيخ أبي الحسن في مصر، وكان يفتخر بصحبته, وبحضور جنازته والصلاة عليه بحميثرة»([4]).
ويأتي الشيخ من الحج، فيقابله أمير العلماء العِزُّ بن عبد السلام في موضع يقال له: «البركة»، يبعد عن القاهرة بستة أميال.
لقد كانت إقامته بمصر فترة استقرار مادي ومعنوي, وكانت فترة خصبة من حيث الدعوة، ومن حيث تربية الرجال.
استمرَّ الشيخ يدعو إلى الله بمصر إلى أن كان شهر شوال سنة 656هـ، وفي هذا الشهر أخذ الشيخ في السفر إلى الأراضي المقدسة للحج، فلما كان في حميثرة بصحراء عيذاب -وهي بين قنا والقصير- جمع الشيخ أصحابه في إحدى الأمسيات, وأوصاهم بأشياء، وأوصاهم بحزب البحر, وقال لهم:
«حفظوه لأولادكم؛ فإن فيه اسم الله الأعظم».
ثم خلا بأبي العباس المرسي رضي الله عنهما وحده, وأوصاه بأشياء، «واختصه بما خصه الله به من البركات». ثُمَّ وجه الحديث لأصحابه قائلًا:
«إذا أنا مت فعليكم بأبي العباس المرسي؛ فإنه الخليفة من بعدي, وسيكون له بينكم مقام عظيم, وهو باب من أبواب الله سبحانه وتعالى».
وبات تلك الليلة متوجهًا إلى الله تعالى، ذاكرًا يسمعه أصحابه وهو يقول:
«إلهي, إلهي».
فلما كان السَحَر سَكَنَ, فظننا أنه نام, فحرَّكناه فوجدناه ميتًا([5]).
وجاء الشيخ أبو العباس فغَسَّلَه، وصلى الجميع عليه, ودُفِنَ حيث توفاه الله.
وقد كان للشيخ أولاد ذكور فلم يفكر في أن يستخلف أحدهم، وإنما استخلف من رآه أحق بالخلافة, ونرجو أن يعتبر به رجال الطرق في العصر الراهن، فلا يجعلوا الطريقة مورد رزق تُوَرَّث كما يورث العقار, ورحم اللهُ أبا الحسن وطَيَّبَ الله ثراه، ونفعنا ببركاته؛ إنه نعم المجيب.
المرجع : قضية التصوف ، المدرسة الشاذلية- فضيلة الإمام الأكبر الدكتور عبد الحليم محمود، مصر: دار المعارف، ط 3 ، ص 37 – 42.