الشاذلية - شيوخ السلسلة - الشيخ أبو الحسن الشاذلى
سياحاته
إذا كانت الأبعاد العلمية والصوفية والكفاحية وغيرها من الأبعاد التى تناولنها فى موضوعات أخرى تمثل جوانبَ أصيلة في شخصية الشيخ أبى الحسن الشاذلى, فإنَّ الأصل في شخصيته لم نتحدث عنه بعد وهو السياحة الإلهية والتعبد والتبتل لله تعالى، يقول صاحب «لطائف المنن» عن أبي الحسن: «له السياحات الكثيرة، والمنازلات الجليلة».
وهذه الكلمة الصادقة هي التي تصور لنا الجانب الآصل في شخصية الشاذلي:
لقد كان أبو الحسن عابدًا متبتلًا، ومن أجْلِ عبادته ساح سياحات كثيرة، لقد ساح ليخلو إلى الله، وساح لتصفو نفسه، وساح ليتمكن من التركيز والتجمع، فيلقي بنفسه كلية وبكيانه كله، في الرحاب الإلهي مستسلمًا مسلمًا عبدًا أسلم القيادات كلها: جسمًا, ونفسًا، وعقلًاً، وروحًا، وقلبًا -إلى من بيده الأمر، أسلمها اختيارًا راضيًا، أسلمها إسلام المحبِّ المغتبط الذي يَتَفَانَى دائما في إسلام الكيان كله، حتى لا يَرَى ولا يسمع ولا يحس ولا يشم أو يذوق إلَّا من أسلم إليه كيانه، وقد كان يسيح ليصل إلى ما يطلبه في حزبه الكبير قائلًا:
«إني أسألك أن تغيبني بقربك مني؛ حتى لا أرى ولا أحس بقرب شيء ولا ببعده عني؛ إنك على كل شيء قدير».
وإن أبا الحسن هو الذي يقول في تأكيدٍ يؤيده التاريخ كله.
اللهم إن القوم قد حكمت عليهم بالذل حتى عزوا, وحكمت عليه بالفقد حتى وجدوا، فكل عِزٍّ يمنع دونك فنسألك بدله ذلًّا تصحبه لطائف رحمتك، وكل وَجْدٍ يحجب عنك فنسألك عوضه فقدًا تصحبه أنوار محبتك.
لم تكن سياحات أبي الحسن تنعمًا بالجو, ولا استمتاعًا بالحدائق والمتنزهات, ولا حبًّا في استجلاء المجهول من عوالمِ المادة، وإنَّما كانت بحثًا عن الحق.
فَلَمَّا وجد الحق كانت سياحاته من أجل التمكن في مجالات الحق.
فلما تَمَكَّنَ في مجالات الحق استقرَّ به المقام مبشرًا وهاديًا.
والشيخُ يتحدث عن هذه السياحات، ولا بد من ذكر أمثلة منها:
يقول صاحب «المفاخر العلية» عن الشيخ: انتقل إلى مدينة تونس وهو صبي صغير، وتَوَجَّهَ إلى بلاد المشرق، وحَجَّ حجاتٍ كثيرة, ودخل العراق.
ومما رواه أبو الحسن، وكان ذلك في أوائل سلوكه: «كنت أنا وصاحب لي قد آوينا إلى مغارة, نطلب الوصول إلى الله، فكنا نقول: غدًا يفتح لنا، بعد غد يفتح لنا؛ فدخل علينا رجل له هيبة. فقلنا له: من أنت؟.
فقال: أنا عبد الملك.
فعلمنا أنه من أولياء الله، فقلنا له: كيف حالك؟.
فقاله: كيف حال من يقول: غدًا يفتح لي، بعد غد يفتح لي؟! فلا ولاية ولا فلاح، يا نفس لم لا تعبدين الله لله؟!.
قال: فَتَفَطَّنَّا من أين دخل علينا؛ فتبنا إلى الله واستغفرنا, ففتح لنا».
ويقول أبو الحسن أيضًا عن سياحاته في مبدأ أمره.
كنت في سياحتي في مبدأ أمري وحصل لي تردد: هل ألزم البراري والقِفَار للتفرغ للطاعة والأذكار، أم أرجع إلى المدائن والديار لصحبة العلماء والأخيار؟.
فوُصِفَ لي ولي هنالك، وكان برأس جبل، فصعدت إليه، فما وصلت إليه إلا ليلًا، فقلت في نفسي: لا أدخل عليه في هذا الوقت، فسمعته يقول من داخل المغارة: «اللهم إن قومًا سألوك أن تسخر لهم خلقك فسخرت لهم خلقك, فرضوا منك بذلك، اللهم وإنِّي أسألك اعوجاج الخلق على؛ حتى لا يكون ملجئي إلا إليك».
قال: فالتفتُّ إلى نفسي، وقلت: يا نفسي، انظري من أي بحر يغترف هذا الشيخ. فلما أصبحت دخلت إليه فأرعبت من هيبته.
فقلت له: يا سيدي، كيف حال؟.
فقال: أشكو إلى الله من برد الرضا والتسليم، كما تشكو أنت من حر التدبير والاختيار.
فقلت: يا سيدي، أما شكواي من حر التدبير والاختيار؛ فقد ذقتُه وأنا الآن فيه، وأمَّا شكواك من برد الرضا والتسليم فلماذا؟.
فقال: أخاف أن تشغلني حلاوتهما عن الله.
قلت: يا سيدي، سمعتك البارحة تقول: اللهم إن قومًا سألوك أن تسخر لهم خلقك فسخرت لهم خلقك، فرضوا منك بذلك، اللهم وإنِّي أسألك اعوجاجَ الخلق عَلَيَّ حتى لا يكون ملجئي إلا إليك.
فتبسم ثم قال: يا بني، عوض ما تقول: سخر لي خلقك، قل: يا رب كن لي. أترى إذا كان لك أيفوتك شيء, فما هذه الجبانة».
وقال رضى الله عنه: اجتمعت برجل في سياحتي، فقال: ليس شيء في الأقوال أعون على الأفعال من: لا حول ولا قوة إلا بالله، والاعتصام بالله، ففروا إلى الله، واعتصموا بالله، ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم.
ثم قال: باسم الله, فررت إلى الله، واعتصمت بالله، ولا حول ولا قوة إلا بالله ومن يغفر الذنوب إلا الله، رب إني أعوذ بك من عمل الشيطان؛ إنه عدو مُضِلٌّ مبين، باسم الله قول باللسان صدر عن القلب، ففروا إلى الله وصف للملك والأمر.
ثم تقول للشيطان: هذا علم الله فيك، وبالله آمنت وعليه توكلت، وأعوذ بالله منك, ولولا ما أمرني ما استعذت منك، ومن أنت حتى أعتصم بالله منك؟!.
وروي الشيخ أيضا: قلت يومًا وأنا في مغارة في سياحتي: إلهي متى أكون لك عبدًا شكورا.
فإذا قائل يقول لي: إذا لم تَرَ مُنْعِمًا عليه غيرك.
فقلت: إلهي، كيف لا أرى منعمًا عليه غيري، وقد أنعمت على الأنبياء, وقد أنعمت على العلماء، وقد أنعمت على الملوك.
فإذا قائل يقول لي: لولا الأنبياء لما اهتديت، ولولا العلماء لما اقتديت، ولولا الملوك لما آمنت؛ فالكل نعمة مني عليك.
هذه السياحات المتعددة المتكررة إنَّما كانت هجرة إلى الله وذهابًا إليه وفرارًا نحوه, وما كان لها من هدف إلا أن يخلو وربه، وأن ينسى كلَّ شيء ليملأ قلبه بالله, لقد كانت سياحات للعبادة، وما كانت العبادة العادية هي التي يقصد أبو الحسن بهذه السياحات، إن الفروض وإن سننها الراتبة من السهل على أبي الحسن أن يؤديها في الحضر كما يؤديها الآخرون, وما كانَ في حاجة إلى هجرة من أجلها, لقد كان قصد أبي الحسن أن يفرغ قلبه ليملأه بالله, ولا بد لهذا من هجرة.
ومن الناس من يهاجر إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه, أما من كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله.
لقد كانت هجرة أبي الحسن تحنثًا، وبحثًا عن الصفاء, ومرانًا على الاسترسال مع الله على ما يريد.
لقد كان يريد أن يرتبط بالحق؛ فكان يروض نفسه على ذلك.
كان يروض نفسه على أن يسيطر على نفسه، على شهواته, على إرادته، على مشيئته، إنَّه يقول: لن يصل العبد إلى الله وبقي معه شهوة من شهواته, ولا مشيئة من مشيئاته([1])، وكان يقول: إن أردتَ أن تكون مرتبطًا بالحق فتَبَرَّأْ من نفسك واخرج من حولك وقوتك.
لقد كان يريد أن يَشهد الله، أن يشهده متجليًا على أنحاء شتى، والله سبحانه يتجلى للإنسان على قَدْرِ صِفَائه، وأراد أبو الحسن أن يصل في الصفاء إلى أقصى ما يصل إليه السالكون.
لقد اعتكفَ في جبل زغوان، وسافر من قبلِ ذلك بحثًا عن القطب, وسهر الليالي قائما متبتلًا في البوادي والوِهَادِ والأودية.
وكم شهدته المغارات والكهوف قائمًا في جُنْحٍ من الليل متضرعًا إلى الله داعيًا مستغيثًا، محاولًا أن يفنى في الله، بحيث يصبح صورة تامَّة بقدرِ الإمكان مما يحب الله، وبحيث يصبح ربانيًّا.
يقول أبو الحسن: أبى المحققون أن يشهدوا غير الله تعالى؛ لِمَا حققهم به من شهود القيومية وإحاطة الديمومية.
هذه الكلمة الحق التي هي تفسير لِمَا يقوله الصوفية في وحدة الوجود، كانت الهدفَ الذي أرادَ أن يصل إليه أبو الحسن، أراد أن يصل إليه معرفة، وأن يشعر به ذوقًا، وأن يتحقق به حالًا.
فلَمَّا تَمَّ ذلك من سياحاته وخلواته وتحنثه، عاد إلى الناس مستقرًّا هاديًا مبشرًا بالنور والرحمة والمعرفة.
ولا نريد أن نترك هذا المقام دون أن نضرب مثلًا لأثر عبادة أبي الحسن عليه من إخبات وخشوع وتعظيم لله ولرسوله، ومن نسبته كل نقص وتقصير لنفسه، ومن وصله إلى درجة سامية من إسلام الوجه لله.
يقول صاحب «درة الأسرار» عن أبي الحسن:
لمَّا قدم المدينة -زادها الله تشريفًا وتعظيمًا- وقف على باب الحرم من أول النهار إلى نصفه، عريان الرأس حافي القدمين, يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليمًا، فسئل عن ذلك فقال: حتى يؤذَن لي؛ فإن الله عز وجل يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَن لَكُمْ﴾ [الأحزاب:53].
فسمع النداء من داخل الروضة الشريفة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام: يا علي، ادخل.
فوقف تجاه الروضة الشريفة فقال: «السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته, صلى الله عليك يا رسول الله أفضل وأزكى وأسنى وأعلى صلاة صلَّاها على أحد من أنبيائه وأصفيائه، أشهدُ يا رسول الله أنَّك بَلَّغْتَ ما أُرْسِلْتَ به، ونصحت أمتك، وعبدت ربك حتى أتاك اليقين، كنت كما نعتك الله في كتابه: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة:128].
فصلوات الله وملائكته وأنبيائه ورسله وجميع خلقه من أهل سماواته وأرضه عليك يا رسول الله.
السلام عليكما يا صاحِبَيْ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يا أبا بكر ويا عمر، ورحمة الله وبركاته, فجزاكما الله عن الإسلام وأهله أفضل ما جازى به وزيرَي نبيٍّ في حياته، وعلى حسن خلافته في أُمَّتِهِ بعد وفاته؛ فقد كنتما لمحمد صلى الله عليه وسلم وزيرَيْ صِدْقٍ, وخلفتماه بالعدل والإحسان في أمته بعد وفاته, فجزاكما الله عن ذلك مرافقته في الجنة, وإيانا معكما برحمته؛ إنَّه أرحم الراحمين.
اللهم إنِّي أُشهدك وأُشهد رسلك، وأشهد أبا بكر وعمر, وأُشهد الملائكة النازلين بهذه الروضة الكريمة والعاكفين عليها -أني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، خاتم النبيين وإمام المرسلين، وأشهد أنَّ كل ما جاء به من أمر ونهْيٍ عَمَّا كان أو ما هو كائن؛ فهو صِدْقٌ لا شَكَّ فيه ولا امتراء، وأنِّي مُقِرٌّ لك بجنابتي ومعصيتي في الخَطْرَةِ والفكرة والإرادة والفعلة، وما استأثرت به عليَّ إذا شئت أخذت وإذا شئت عفوت عنه، مِمَّا هو متضمن الكفران والنفاق أو البدعة أو الضلالة أو المعصية أو سوء الأدب معك ومع رسولك وأنبيائك وأوليائك من الملائكة والإنس والجن, وما خصصت به من شيء في ملكك -فقد ظلمت نفسي بجميع ذلك؛ فامنن على بالذي مننت به على أوليائك؛ فإنك أنت الله الملك المنان الكريم الغفور الرحيم».
لقد كان أبو الحسن جميل المظهر جسمًا وملبسًا، وكان فارسًا يركب الخيل ويقتنيها، وكان غير مُتَحَرِّجٍ فيما يتعلق بالمأكل والمشرب من حيث النوع، وإن كان يتحرج كل التحرج فيهما من حيث الحِلِّ والحُرْمَةِ.
وكان عالمًا أجمل ما يكون العلم وأعمقه.
وكان مجاهدًا يقِفُ مع الجيوش في الميدان يعمل على إحرازِ النصر.
وكان مكافحًا يعمل في الحَرْثِ والغرس والحصاد.
وكان عابدًا أدت به عبادته إلى قربٍ, قال هو عن حقيقته: إنَّه الغيبة بالقرب عن القرب لمعظم القرب.
هذا هو أبو الحسن.
إن يمثل شخصية المسلم التي أحب الله لكل فرد من خير أمة أخرجت للناس، ومن أجل ذلك كتب عنه عليةُ القوم مادحين معترفين بفضله, يقول صاحب «المفاخر العلية»:
وممن ذكره من الأولياء والعلماء في زمنه ومن بعده:
الشيخ صفي الدين بن أبي المنصور الشاذلي في رسالته، وأثنى عليه الثناء العظيم على حسب معرفته.
والشيخ عبد الله بن النعمان، وشهد له بالقطبانية.
والشيخ قطب الدين القسطلاني في جملة من لقيه من المشايخ.
والشيخ تاج الدين بن عطاء الله في «لطائف المنن».
والشيخ سراج الدين الملقن في «طبقات الأولياء».
والشيخ جلال الدين السيوطي في «حسن المحاضرة».
وسيدي عبد الوهاب الشعراني في طبقاته.
والمُناوي في «الكواكب الدرية».
وذكره غير هؤلاء من المشايخ, كل واحد منهم يثني عليه ويصفه بما عرف من قدره». اهـ.
وللشعراء فيه الكثير من الشعر، نكتفي من ذلك ببعض ما يقوله الإمام البوصيري صاحب البردة المباركة، رضي الله عنه وأرضاه:
أمَّا الإمام الشاذلي طريقه |
* |
في الفضل واضحة لعين المهتدي |
فانقل ولو قدمًا على آثاره |
* |
فإذا فعلت فذاك أخذ باليد |
قطب الزمان وغوثه وإمامه |
* |
عين الوجود لسانُ سر الموجد |
ساد الرجال فقصرت عن شأوِه |
* |
هِمَمُ المآربِ للعلا والسؤدد |
أو ما مررتَ على مكان ضريحه |
* |
وشممت ريح الند من ترب ندي |
ووجدت تعظيمًا بقلبك لو سرى |
* |
في جلمد سجد الورى للجلمد |
فقلِ السلام عليك يا بحرَ الندى الـ |
* |
ـطامي وبحر العلم بل والمرشد |
هذا، ولعل خير ما نختم به حديثنا عن شخصية أبي الحسن هو ما كان لهذه الشخصية من أثر رُوحي على طائفة من أكابر القوم الذين التقوا به وسمعوا منه.
يقول ابن عطاء الله: «ونشأ على يد الشيخ رضى الله عنه جماعة كثيرة، منهم من أقام بالمغرب كأبي الحسن الصقلي وكان من أكابر الصديقين, وعبد الله الحبيبي وكان من أكابر الأولياء.
ومنهم من تبعه وهاجر معه إلى مصر، منهم شيخنا وقدوتنا إلى الله أبو العباس شهاب الدين أحمد بن عمر الأنصاري المُرسي رضى الله عنه، ومنهم الحاج محمد القرطبي, وأبو الحسن البجائي المدفون بظاهر أشمون الرمان، وأبو عبد الله البجائي، والوجهاني، والجزار.
ومنهم من صحبه بديار مصر, منهم الشيخ عبد الله بن منصور المعروف بمكين الدين الأسمر, والشيخ عبد الحكيم، والشرف البوني, والشيخ عبد الله اللَّقَانِيُّ، والشيخ عثمان البوريجي, والشيخ أمين الدين جبريل.
ولكل هؤلاء علوم وأسرار وأصحاب أخذوا عنهم». اهـ.
المرجع : قضية التصوف ، المدرسة الشاذلية- فضيلة الإمام الأكبر الدكتور عبد الحليم محمود، مصر: دار المعارف، ط 3 ، ص 65 - 73.