"الطريقة النقشبندية، هي: متابعة الشريعة المحمدية، ومباعدة المكروهات والمحرمات المنهية، وإشغال القلب بالذكر والفكر، ومراقبة الذات العلية"([1]).
وتعتبر الطريقة النقشبندية من أكثر الطرق انتشارًا في الوقت الحاضر، وقد انتشرت انتشارًا واسعًا في مناطق آسية الوسطى الإسلامية: التركستان والصين والهند وماليزيا وتركيا([2]). وأتباعها حتى اليوم يعدون بمئات الألوف في باري وخوارزم وتمنجن بوادي فرغانه (أوزبكستان)... حتى إن مفتي المسلمين في روسيا حاليًا ضياء الدين بابا خان ووالده المفتي السابق إيشان بابا خان، كانا من شيوخ النقشبندية. وقد لعبت النقشبندية دورًا مهمًا في نشر الدين الإسلامي ومحاربة البدع التي كانت منتشرة بين أبناء تلك المناطق([3]).
وللنقشبندية فروع عديدة أهمها: الأحرارية والناجية والكاسانية والمجددية والمرادية والمظهرية والجامعية والخالدية... وهذه الأسماء نسبة لأسماء بعض مشايخها المجددين والمشهورين([4]).
ولا بد من الإشارة إلى أن النقشبندية قد كانت من العوامل المهمة في ثورة المسلمين الكبرى في مناطق التركستان الصينية، كما أنها ألهبت حماس جماهير المسلمين في جزائر الهند الشرقية ليتصدوا للنفوذ الاستعماري([5]).
وقد استقت الطريقة النقشبندية مبادئها وأسسها التي ميزتها عن بقية الطرق الصوفية بفضل تعاليم أربع شخصيات:
1- سلمان الفارسي (ض).
2- أبو يزيد طيفور البسطامي.
3- عبد الخالق الغجدواني.
4- محمد بهاء الدين الأويسي البخاري المعروف بشاه نقشبند.
ولقد عُرفت هذه الطريقة، منذ نشأتها حتى الآن، بعدة أسماء: فمن عهد أبي بكر الصديق رضى الله عنه حتى أبي يزيد البسطامي كانت تسمى صديقية.
ومن عهد أبي يزيد حتى عبد الخالق الغجدواني كانت تسمى طيفورية نسبة إلى الاسم الأول لأبي يزيد.
ومن الغجدواني إلى محمد بهاء الدين كانت تسمى خواجكانية نسبة إلى ختم (ذكر) الخواجكان الذي أدخله الغجدواني.
ومن محمد بهاء الدين أصبحت تعرف بالنقشبندية، وهي كلمة مؤلفة من جزءين:
نقش وهو صورة الطابع إذا طبع به على شمع أو نحوه. وبند ومعناه ربط وبقاء من غير محو. فالكلمة تشير إلى تأثير الذكر في القلب وانطباعه فيه([6]).
ويرى النقشبندية أن طريقتهم أقرب الطرق وأسهلها على المريد للوصول إلى درجات التوحيد، وهي طريقة الصحابة على أصلها لم تزد ولم تنقص؛ فهي تدعو إلى العبودية التامة ظاهرًا وباطنًا مع الالتزام التام بآداب السنة النبوية.
وهي تحض على العزائم وتجنب الرخص في جميع الحركات والسكنات، في العادات والعبادات والمعاملات؛ كما أنها متحررة من الابتداع والانحرافات والشطحيات والرقص وسفاسف السماع. وليس فيها كثرة الجوع وكثرة السهر، وبالتالي فإنها سليمة من كدورات جهلة المتصوفة؛ لأنها ملتزمة بآداب الشريعة التي تحت على الاعتدال وفضيلة الوسط([7]).
ومدار الطريقة عندهم يقوم على:
أ- التحقق بكمال الإيمان بالله وبرسوله، وبما جاء به الرسول ×. بحيث تظهر نورانية تلك الحقيقة في جميع أعضاء المريد. ولا يتسنى ذلك إلا بملازمة طاعة الله، وابتغاء مرضاته، ومتابعة الرسول ×، ومخالفة النفس الأمارة.
والإيمان الحقيقي، في رأيهم، يقوم على ثلاثة أركان:
الأول: إيمان إعطائي ويقصدون به ما بداخل الفرد من نورانية روحانية وهبها الله لكل إنسان عند خلقه.
الثاني: إيمان بواحدنية الحق وبما جاء به الرسول ×.
الثالث: إقرار باللسان بـــ (لا إله إلا الله محمد رسول الله).
فإن اجتمعت هذه الأركان الثلاثة صار الإيمان حقيقيًا وكاملًا.
ب- التحقق بكمال الإسلام المعبر عنه بالتزام العبد بجميع الأحكام الشرعية مع إظهار العجز والافتقار والذل والانكسار والتسليم من حيث الظاهر والباطن. ولا يحصل كمال الإسلام إلا بمجاهدة النفس لتتبع السنة النبوية وتعمل بالعزيمة وتتجنب الرخصة.
ج- التحقق بكمال الإحسان، أي تصفية العمل من طلب عوض أو قصد غرض أو رياء، وبكلمة هو الإخلاص، أي أن يكون العمل خالصًا لوجه المولى سبحانه وتعالى. ولا يحصل كمال الإحسان عندهم إلا بمشاهدة حضرة الألوهية، بنور البصيرة في جميع العبادات. هذا الإحسان يحقق دوام العبودية، أي دوام الحضور من غير مزاحمة الخواطر والتعلق بالأغيار. ويعبر عن ذلك بالفناء، أي فناء صفات السالك في صفات الحق؛ والمراد بذلك إسقاط أوصاف النفس المذمومة لتحل محلها الصفات المحمودة([8]).
«وللطريقة النقشبندية قدم راسخ في إنقاذ البشر من عالم الشرور، لما فيها من التعاليم العالية؛ فغايتها تهذيب النفوس وإيصالها إلى ما هي الغاية من الإيمان»([9]).
وبالجملة فهي: «أم الطرائق ومعدن الأسرار الصديقية والحقائق، وهي الطريق الأقرب، الأسلم، الأحكم، الواضح، والمشرب الأعذب الأصفى المصون عن قدح كل قادح»([10]).
يقول شاه نقشبند: «طريقنا أقرب الطرق إلى الله تعالى. المعرض عن طريقتنا على خطر من دينه»([11]).
وهكذا نجد أن الطريقة النقشبندية تعتبر من الطرق الصوفية المعتدلة التي تنأى عن كل انحراف وتطرف؛ وتحاول أن تجعل مبادئها تستند إلى الشريعة الإسلامية، وتُظهر التزامها بما قرره القرآن الكريم، وما دعت إليه السُّنَّة النبوية. ولئن حمل البعض على مبدأ الرابطة الذي ترتكر إليه الطريقة النقشبندية، فإن هذه الرابطة لا تعني أكثر من محبة المريد لشيخه الذي يدله على الطريق السليم؛ للوصول إلى الفتوح. ولم ترتفع هذه المحبة إلى مرتبة التقديس أو التأليه أو الإشراك بالله، وإنما قصارها الاعتراف بالجميل تمامًا، كاعتراف الطالب لأستاذه، حيث لا يخرج هذا الاعتراف على حدِّ الاحترام والتقدير والمحبة والعرفان بالجميل لما بذله في سبيل تربيته وتعليمه وتهذيبه.
وقد أسهمت النقشبندية في محاربة الرياء، وذلك بتركيزها على الذكر الخفي، الذي لا يطلع عليه إلا عالم الأسرار، وهي تحث على تطهير النفس من الوساوس والخواطر؛ حتى تستقبل النور الذي يغمر القلب بعد المجاهدات والرياضات، وتكاد تكون الطريقة الوحيدة التي تتدخل في كل شؤون المريدين لتصلح بواطنهم وظواهرهم، كما أنها تشجعهم على طلب العلم والاستزادة منه؛ لذلك سماها البعض «طريقة العلماء الأعلام» وقد ظهر ذلك من خلال تراجم أعلامها؛ حيث إن غالبيتهم الساحقة قد اشتهروا بالتصنيف والتأليف نثرًا وشعرًا وفي مختلف الموضوعات واللغات التي تتحدث بها الشعوب الإسلامية، ومن المعلوم أن بعض الطرق تضع العراقيل والصعوبات في وجه مريديها؛ حتى لا يستمر بسلوكها إلا المخلصون الصادقون، لكن النقشبندية تمتاز بالتسهيل والتيسير؛ لأنها تعتقد أن الهازئين والمرجفين والمترددين سرعان ما يصبحون من المريدين الملتزمين، وهذا الأمر يفسر انتشارها السريع واندفاع الألوف إلى سلوكها والإقبال على أذكارها ورياضاتها، كما أن لهذه الطريقة دورًا مهمًّا في نشر الإسلام بين الشعوب المختلفة قديمًا وحديثًا، لاسيما بين الأتراك والفرس والأفغان ... وحتى بين الشعوب الغربية؛ لأنها استطاعت أن تلبي تطلعاتهم لإشباع الروح في توجهها نحو الملأ الأعلى.
ولئن ظهرت بعض الانحرافات من بعض الأدعياء، فإن ذلك لا ينهض دليًلا على انحراف الكل؛ ذلك أن الصوفية شأنهم شأن بقية الفرق، منهم المخلص الصادق ومنهم المدعي الكاذب، وليس من الصعب التمييز بين طيبهم وخبيثهم إذا طبقنا القاعدة الجليلة التي سنَّها سيد الطائفتين الجنيد البغدادي
(ت 298هـ/910م) حيث يقول: «الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا من اقتفى أثر الرسول ×، واتبع سُنَّته، ولزم طريقته؛ فإن طرق الخيرات كلها مفتوحة عليه» مصداقًا لقوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب: 21].
المصادر: - محمد أمين الكردي الأربلي، الهداية الخيرية في الطريقة النقشبندية، القاهرة: مطبعة الحبانية ، 1316 هــ، (ص 9).
- د/ محمد أحمد درنيقة، الطريقة النقشبندية وأعلامها، جروس برس، ص 11، 22-24، 55، 173-174.
([1]) محمد أمين الكردي،الهداية الخيرية في الطريقة النقشبندية، (ص 9) .
([2]) را: دائرة المعارف الإسلامية، ترجمة الفندي ورفاقه، مج 15، (بيروت دار المعرفة)، ص 176.
([3]) را: مجلة العربي، العدد 254، (الكويت ك 2، 1980)، ص 93-94.
([4]) را: بطرس البستاني، دائرة المعارف، مج 11، ص 297.
([5]) را: أنور الجندي، العالم الإسلامي، (بيروت 1983)، ص 305.
([6]) را: سليمان، الحديقة الندية، ص15 وص41.
([7]) الكمشخانلي، جامع الأصول، (القاهرة 1328هـ)، ص 136. أيضًا عياد، التصوف الإسلامي، ص 298.
([8]) را: أسعد صاحب، بغية الواجد في مكتوبات خالد، (دمشق 1334هـ)، ص 25-26. أيضًا الكمشخانلي، جامع الأصول، ص 16.
([9]) عبد الله الدهلوي، منحة الرحمن (اللاذقية دون تاريخ)، ص 31.
([10]) سليمان، الحديقة الندية، ص17.
([11]) الخاني، الحدائق، ص5.