جلس الشيخ يخاطب أحبابه ومريديه خطابا غاب عن مداركهم مصدره، وما مرت الأيام السبع التالية إلا وقد فارق جسد الشيخ الدنيا وصعدت روحه المشتاقة إلى بارئها.. وما أريد أن أشير إليه من خطابه الذي أخذ بالألباب هو قوله: (هنا مدرسة الحب) .. تلك المدرسة التي نشأت فيها لتتلقى روحي معاني الدين بالصحبة والمعاشرة، قبل أن تتلقاها أذني بالوعظ والإرشاد .. وكلما رأيت ما آل إليه الحال في ساحة التدين الآن أنادي على الشيخ، وبعد ثلاث عشرة سنة من وفاته: أين الحب يا سيدي؟! أين مدرستك؟! نحن نعيش حالة من التناقض بين القول والعمل، بين المظهر والجوهر، بين التمسك بالنسك والتخلي عن الخلق، وكلما رأيت هذا الحال أدركت أن غياب هذه المدرسة ومثيلاتها من أهم أسباب ما نحن فيه.
لقد جاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة من قبل الحق، وهو النبي الخاتم، ومعه كتاب تعهد الله بحفظه، ألا إن الله سبحانه أشار إلى أن هذا وحده لا يكفي ليلتف الناس حوله ويتبعوه، فقال سبحانه: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) [سورة آل عمران، الآية: 159].
فجاء الحبيب بهذه الطاقة النورانية الهائلة لمحو الظلام، ظلام البغض والقهر والظلم، وكل ظلمة تسكن القلوب فتظهر آثارها على صاحبها فى صلته بما حوله.
وقد وصف عليٌّ كرم الله وجهه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائلا: «كان أوسع الناس صدرا، وأصدق الناس لهجة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة»، فلا يكفي أن نتكلم باسم الدين ليسمعنا الناس، ولكن يجب أولا أن نملأ قلوبنا محبة لهم وشفقة عليهم ورحمة بهم، كما كان حال الحبيب وهو يبلغ عن ربه، (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) [سورة آل عمران، الآية: 31]
نعود إلى التناقض الذي نعيشه، تناقض أوجده ظهور هذا الفكر الذي حوَّل فروعا إلى أصول، وهيئات العبادات إلى فرائض تاركها فاسق، وقد يصل إلى الكفر فى رأي الداعين لهذا الفكر، كل على حسب ما وصل إليه من شطط. هذا الفكر الذي أوصل الكثير ممن يحبون أن يطلقوا على أنفسهم وصف الالتزام -وهو مصطلح مستحدث حيث كثيرا ما تسمع أن فلانا قد التزم ولم يخبرنا أحد بالحد أو التعريف لهذا المصطلح- إلى الرضا عن النفس بمجرد إقامة النسك، والتغافل عن أن الخلافة فى الأرض مقتضاها أن تقام علاقاتنا مع هذا الكون على وفق ما أراد المكون سبحانه وتعالى، وأننا لا بد لنا من دخول مدرسة الحب، الحب للصانع حتى نستمد من حبه سبحانه الحب لصنعته، فيكون هذا الحب هو دليلك ومرشدك فى هذه الحياة.
وإمامنا فى هذا هو الرسول الأكرم صلوات ربي وسلامه عليه حيث يقول : «أحد جبل يحبنا ونحبه». إن هذا التواصل مع المخلوقات كلها بما فيها الجمادات التي نعلم أنها تسبح لله سبحانه وتعالى لا يبرز إلا من قلب امتلأ بالمحبة والرحمة.
وانظر إلى الإشارة القرآنية فى وصف عباد الرحمن، فقد بدأ الله في الثناء عليهم بحالهم مع الخلائق، حال الرحمة والعطف واللين، فقال: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) [سورة الفرقان، الآية: 63]. ثم ذكر بعد ذلك أنواع العبادات المختلفة بدءا من قوله: (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا) [سورة الفرقان، الآية: 64]. ولا شك أن هذا الترتيب له معنًى عميق فى إرشادنا إلى الوصف الذي لو انتفى عنا فلا نستحق الدخول فى وصف عباد الرحمن، أو أن ننال شرف الإضافة إليه سبحانه.
أما ما نحن فيه من السطحية في فهم ديننا والتي يمكن أن تلحظها بمجرد استماعك إلى الأسئلة التي ترسل إلى برامج الفتاوى، هذه السطحية الناتجة عن عدم فهم الأولويات في أمر هذا الدين، فما فائدة الاهتمام بهيئات العبادات، ونحن مضيعون للفرائض؟! ما معنى تشددي في أمر اللحية أو طول الثوب وقلبي يمتلئ بالحقد والحسد؟!
أمور تحتاج إلى إجابات!!