جاء الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشكون الجفاف وقلة المطر، فدعا الحبيب فإذا بالأمطار تنهمر فتسقى الوديان والبلدان، ويستمر المطر، فيأتي الناس يشكون لرسول الله كثرته، فيرفع يده الشريفة قائلا:(اللهم حوالينا لا علينا)
ويتحرك السحاب إلى ما حول المدينة، فيسر النبي صلى الله عليه وآله وسلم مما رأى من استجابة الحق سبحانه لدعائه، فتبسم وقال: (لو أن أبا طالب بيننا ألآن لسره ذلك)، ثم قال: (من ينشدنا بيت أبى طالب)، فقام الإمام على بن أبى طالب عليه السلام قائلا:(لعلك تعنى وأبيض يستسقى الغمام بوجهه)، فقال النبى: (نعم)، فقام على بين يدى الحبيب ينشد أبياتا قالها أبو طالب في مدح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه فمال اليتامى عصمة للأرامل وتكاثر نظم الأشعار في مدح ووصف هذا النبى صلى الله عليه وآله وسلم، فأنشد الصحابة في مدحه، فهذا حسان بن ثابت رضى الله عنه، ينشد وينافح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مادحا لحضرته، والنبي يسمع ويقر، بل ويقول: (قل يا حسان ويؤيدك الروح القدس).
ومن أشهر ما قال حسان :
وأجمل منك لم تر قط عينى وأحسن منك لم تلد النساء
خلقت مبرئا من كل عيب كأنك قد خلقت كما تشاء
ومدحه كعب بن زهير فكان من إكرام الله له أن ألقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بردته، ومدحه عمه العباس بعد أن استأذنه فأذن له، فلما مدحه دعا له النبي صلى الله عليه وآله وسلم قائلا: (لافض الله فاك يا عباس)، فكبر العباسى ومات ولم يسقط من فمه سن واحد ببركة دعوتة صلوات ربى وسلامه عليه.
وتوالت ألسنة المحبين لهذا النبي تترجم عما في قلوبهم من محبة وعاطفة استولت على القلوب كل بحسب حاله، فهذا ينشد مادحا علاه، والأخر ينشد متوسلا به إلى مولاه، والثالث ينشد في وصف ما جاء به من فضل وخير أنعم الله به على الناس.
وكل في ذلك يصف بحسب قدر الواصف على قدر الموصوف، وفي ذلك يقول ابن الفارض (سلطان العاشقين)
وعلى تفنن واصفيه في مدحه يغني الزمان وفيه ما لم يوصف
ولما بعد بالناس الزمان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، انعقدت مجالس المديح التى تنشد فيها هذه الأشعار، لتتحرك القلوب شوقا ومحبة لهذا النبى صلى الله عليه وآله وسلم.
وهذه التى أطلق عليها مجالس السماع، وقد اختلف فيها اختلافا طويلا بين العلماء وبين أهل الطريق أيضا، غير أن التجربة قد بينت لنا أن هذه المجالس لها أثارا محسوسة على الناس في تعلقهم ومحبتهم لهذا النبى، وكذلك في ترقيق القلوب، وكل ذلك بشرط مراعاة الأداب التى تليق بمثل هذه المدائح والمجالس.
وقد أطال أقوام علينا في الإنكار لهذه المجالس والمدائح، وليس لنا ما نقول في هذا إلا كما قال من سبق:
مالى وقومي كم لامونني سفها ديني لنفسي ودين الناس للناس
وكما قيل أيضا:
الا قل لمن بات لي حاسدا ألا تدري على من أسأت الأدب
أسأت على الله في لأنك لم ترض لي ما وهب
جزاؤك أن زادنى في العطا وأغلق دونك باب الطلب
ومن أشهر ما صنف في هذه المدائح، قصيدة والاها الله بإنعامه وإمداده فذاع صيتها وانتشرت أخبارها، فعقدت لها مجالس خاصة بأسمها في شتى بقاع الأرض، فتجد مجالس في مصر، والحجاز، والشام، واليمن، بل وباكستان والمغرب، وأظن أنه ما من بقعة بها من أهل الإسلام قوم إلا ولها فيها مجلس ألا وهى (بردة المديح المباركة) للأمام البوصيرى رحمه الله.
والحق أن العقل يعجب، فقد مدح الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بمئات الألاف إن لم يكن ملايين القصائد، فإذا بالله سبحانه يخص هذه القصيدة بهذه الشهرة وهذا الأنتشار.. ويكرم هذا الأمام بمدد متوالى من عطاء الله، فكلما عقد مجلس يمدح فيه النبى بقصيدته فله في ذلك الأجر والثواب المتضاعف.
وقد رأى البوصيرى من بركات هذه القصيدة في حياته، فقد شفي ببركتها وبركة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الفالج وهو الشلل النصفي، كما أن النبى جاءه في المنام وغطاه ببردته ولذلك سميت البردة.
كما أنه قد أغلق عليه وهو يكتب فخط بيده قوله في وصف الرسول صلى الله عليه وآله وسلم (فمبلغ العلم فيه أنه بشر)، ولم يستطع أن يكمل، فنام فرأى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فقال له: (أكمل يا بوصيرى وقل وأنه خير خلق الله كلهم).
ولعل هذا الشطر هو سبب هذه البركة العظيمة التى أحاطت بهذه القصيدة فكتب الله لها البقاء وعظيم الأعتناء بين المسلمين.
وفي هذه البردة أبيات ترد على أصحاب العقول السقيمة الذين يقولون أن في هذه المدائح ما فيه غلو ومبالغة في مدح الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
والمحزن حقا أنه جرى على ألسنة قوم يعتقدون بذلك أنهم يدافعون عن التوحيد، فمتى كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم سببا في ضياع توحيد أحد من أمته وهو مطهر التوحيد الأعظم، والدال عليه، والمرشد إليه.
جاءت هذه الأبيات لتخرس ألسنة الجهال فقال البوصيري:
دع ما ادعته النصارى في نبيهم واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم
وانسب إلى ذاته ما شئت من شرف وانسب إلى قدره ما شئت من عظم
فإن فضل رسول الله ليس له حد فيعرب عنه ناطق بفم
ومازالت مجالس المديح منعقدة في كل بقاع العالم الإسلامي، هذا يقرأ البردة، وهذا يقرأ قصة مولده الشريف، وهذا ينشد المدائح في وصفه، فتتعلق به القلوب، وتهتز الأرواح وتسبح في محراب التبتل والسمو تطلعا لأوصاف كماله وجماله.
وكم من أناس كانت مثل هذه المجالس سببا في توبتهم ورجوعهم إلى الله، مما افاض الله فيها من بركات ونفحات أصابت قلوب من شاء من عباده، فكان ومازال هذا الحبيب سببا في الهداية ودالا عليها.
ولله در الإمام البرعي وهو يقول :
يا صاحب القبر المنير بيثرب يا منتهى أملي وغاية مطلبي
يا من به في النائبات توسلي وإليه من كل الحوادث مهربي
يا من نرجيه لكشف عظيمة ولحل عقد ملتو متصعب
يا غوث من في الخافقين وغيثهم وربيعهم في كل عام مجدب
يا رحمة الدنيا وعصمة أهلها وأمان كل مشرق ومغرب
وستبقى تلك المجالس منابع خير وفضل وجود من الله على من أحب وتعلق وتشوق لهذا الحبيب.