مازلت أجد نفسي مدفوعًا إلى الحديث عن حالة التناقض التي نعيشها، ونصطدم بها كل يوم مرات ومرات ..
فإن رؤية أناس بعيدين عن الدين، منحرفين عن نهجه القويم وطريقه المستقيم هو جد شيء محزن وأمر عظيم..
ولكن هؤلاء الناس هم ميدان أهل الدعوة إلى الله ومحط أنظارهم، رافعين رايات الحق ومتمثلين قول النبي الكريم (الدين النصيحة). ولكن ما يزعجني أكثر ويحيرني حقيقة هو شأن هذا التناقض.
فإن المتابع لما يجري في المجتمع قد يرى أن مساحة الدين والتدين في حياتنا في زيادة، ولكن المتأمل سوف يلاحظ بسهوله أن هذا التدين في غالبه ظاهري، يقوم على إقامة العبادات ويفتقر إلى حسن المعاملات.
فالشاب أول ما يبدأ في تدينه يطلق اللحية، وقد يلبس الجلباب حتى قبل أن يعرف أحكام الطهارة أو أن يفرق بين فرائض الصلاه وسننها وهيئاتها، وأنا لا أذكر أمر اللحية والجلباب على سبيل النقد، فأنا أطلق لحيتي وألبس في معظم أوقاتي الجلباب والعمامة، ولكن ما أريد أن أشير إليه هو أننا في تديننا افتقدنا فهم أولويات الدين ومقاصد الشرع.
فكم تجد من يتشدد في مسائل مختلف فيها بين العلماء وينكر على من خالف ما ذهب إليه وهو جاهل بالقاعدة الأصولية (لا ينكر المختلف فيه، وإنما ينكر المتفق عليه) أي أن الخلاف بين العلماء وأقصد بهم الأئمة المجتهدين، هذا الخلاف يجعلنا نحن المقلدين في سعة في اتباع أي منهم دون حرج.. فما معنى أن يأتي من يريد أن يحمل الناس على رأي واحد متجاهلًا آراء الأئمة التي تخالف ما ذهب هو إليه مع ما في هذا من تضيق على الأمة.
أما عن أحوال المستفتي فهي أعجب، فنرى من يسأل عن الأحوط في المسائل الخلافية من الفروع التي كما ذكرنا أن الأمر فيها مبني على السعة، وهو مضيع لأشياء متفق عليها، كمن يسأل عن حكم اللحية ويتشدد فيه وهو عاق لوالديه، أو من تسأل عن جواز زيارة القبور وهي تؤذي الناس بلسانها وتجلس مجالس الغيبة.
لقد مكث النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من نصف مدة الدعوة دون أن تفرض عبادة على المسلمين حتى فرضت الصلاة قبل الهجرة بسنة، ثم فرضت سائر الأركان بالمدينة، أي أن نصف مدة دعوته قضاها عليه صلوات الله وسلامه يطهر قلوبًا من ظلمة الجاهلية ويزكي نفوسًا لتحمل أمر هذا الدين بفهم ووعي.
فإذا تأملنا قوله عليه الصلاة والسلام: (من يرد الله به خيرًا يفقه في الدين) والفقه لغة الفهم، وإذا نظرنا إلى قوله تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [سورة الحج: 46]
فهمنا من هذه النصوص أن القلب -وهو هذه اللطيفة الربانية المودعة في الصدور كما تشير الآية- هو المتلقي لنور الفهم عند الله، وأن من غفل عنه أصابه العمى فضل وأضل وهو لا يدري.
فالقلب هو المرآة التي تنطبع فيها صور الأشياء، فإن تطهر وتزكى كان كالمرآة الصقيلة التي تظهر لك فيها صور الأشياء على حقيقتها، وإلا كان كالمرآة الصدية التي تشوه لك الحقائق وتخدعك فيما تراه، فإن وجدت أنك تعظم أشياء استهان بها الله في كتابه، وزهد فيها الرسول في حياته وحذرنا من التعلق بها، كمن يتعلق بالمال والمنصب والجاه والسلطان وهو من أهل الطاعة والإيمان.
وإذا رأيت من نفسي مع التزامي بظاهر العبادات عدم الاستطاعة أن أتبع الرسول الكريم في حسن خلقه وأدبه وتواضعه فلا أقدر على العفو عمن ظلم، أو صلة من قطع فلا بد لنا من وقفة صادقة مع النفس ننظر فيها ونفتش في قلوبنا، فما فسدت أعمال الجوارح إلا بفساد أصاب القلب، فهو القائل صلى الله عليه وآله وسلم: (ألا إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ ألا وهي القلب). رواه البخاري ومسلم.
فلا غنى لنا عن صلاح قلوبنا إن أردنا أن نصلح حياتنا، ولا بد لنا من تطهير القلوب لنمتثل أمر الله تعالى: (وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ) [سورة الأنعام: 120]
فظاهر الإثم هو أفعال الجوارح، وباطنه هو أعمال القلوب من كبر وعجب ورياء....إلخ.
فان أردنا الإصلاح فلا بد لنا أن نعود لفهم مقاصد الشرع، وأن ندرك الكليات قبل انشغالنا بالجزئيات... وأن نعيش القضايا بدلاً من التخبط في المسائل الخلافية التي لن تحسم.
فهل لنا أن نعيد فهم ديننا ونعيد ترتيب أولوياتنا لندرك معنى مهمة الخلافة التي وكلنا بها في هذه الأرض.
هذه المهمة التي لن تستقيم إلا بفهم قضية العبودية لله حق الفهم، فهمًا ندرك به أن من العبودية أن نصلح في هذه الأرض ولا نفسد، وأن نعدل ولا نظلم، أن نحب ولا نبغض، أن نحسن ولا نسيء. فهمًا نعي معه أن العبودية أوسع من مجرد إقامة النسك التي هي وسيلة التزكية لهذه النفس، ويكفيك من هذا ما أشار إليه صلى الله عليه وسلم من أنه من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له.
فالعبادات وسائل للتزكية واكتساب التقوى، فإن لم تؤد الوسائل إلى مقاصدها فإن الله سبحانه وتعالى غني عن العالمين.