لا شك أن ارتباط وجدان هذا الشعب المصري بدينه هو من أبرز خصائصه، إذ إن التمسك بالعقيدة وفي كثير من الأحيان التعصب لها يضرب بجذوره في أعماق هذا الشعب.. ونحن الآن نتعرض حقيقة إلى محاولات مستمرة ومكثفة إلى انتزاعنا من هذا الرباط أو على الأقل محاصرة الدين وحبسه في دور العبادة كي لا يطل برأسه فيؤثر في حياة الناس ومعيشتهم. والعجيب في هذا الأمر أن تجد تيارين فكريين متضادين في ظاهرهما وتوجهاتهما إلا أنهما يخدمان نفس الغرض ويدفعان الأمة دفعًا في هذا الاتجاه.
التيار الأول يقوده بعض العلمانيين والمفكرين الذين تجد فيهم من يريد أن يخرج من تحت مظلة الشريعة وينسلخ من هذا الدين وإن لم يصرح بذلك، إما للحفاظ على مكاسب حققوها أو لغلبة الهوى عليهم وتلاعب الشيطان بهم، فالله سبحانه يقول في كتابه: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) [سورة الأنعام: 112]
فأخذوا يخوضون في الدين بغير علم، وتأمل قوله سبحانه: (الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) [سورة غافر: 35]
و نجد معهم فريقًا آخر من المفكرين يتمسك بأمر دينه، إلا أن ظهور التيار الثاني والذي سيلي الحديث عنه قد أحدث عندهم تصورًا مشوهًا نتج عنه حكم مغلوط على ما يؤدي إليه التدين، فهم ضد التدين الموجود وليسوا ضد الدين، فساندوا العلمانيين في بعض الدعاوى دون أن يدركوا ما ينتج عنها من انحراف بالأمة من مسارها المرجو لها.
أما التيار الثاني والذي يظهر أنه على النقيض من الأول بل هو مضاد له، إلا أن العجيب أنه يخدم أغراضه من حيث لا يدري. هذا التيار الذي يلبس ثوب الدين، بل ينصب أصحاب كل فريق من فرقه نفسه متحدثًا إلى الناس باسم الدين انطلاقًا من أن القرآن هو كلام الله وهو الحق المطلق، وأن السنة صدرت من المعصوم الذي لا ينطق عن هوى جاهلًا أو متجاهلًا أن ما يخاطب الناس به إنما هو فهمهم لكلام الله، وتفسيرهم لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بذلك يستخدمون حصانة الكتاب وقدسيته ومهابة الرسول وجلالته في نفوس المسلمين لفرض نوع من الإرهاب الفكري يظهر في المسميات كما يظهر في الشعارات.. فإن من لا يقبل شعار (الإسلام هو الحل) فهو ضد الدين.. و(من لم يكن من أنصار السنة فهو عدو لها).
و قد لا يرى الكثير من الناس وجه التشابه بين ما يدفعنا إليه كلًّا من التيارين، ولكن المتأمل حقيقة سوف يرى أن التيار الثاني يخدم أغراض الأول دون وعي من أصحابه.
إن هذا التيار يزكي ويعمق نظرية الصدام الحتمي مع الآخر، حيث يبدأ أول ما يبدأ بإحداث انقسام في المجتمع كنتيجة طبيعية لتقسيم المجتمع إلى مسلم وغير مسلم، ثم تقسيم المسلمين إلى موافق ومخالف، فهو رافض لكل من ليس على شاكلته، ويرى أن الصدام بينه وبين الآخر حتمي إن آجلًا أو عاجلًا.. وقد غاب في هذا عن معنى التعايش والتعارف.
هذا التعارف الذي من أجله خلق الله التنوع فقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [سورة الحجرات: 13]
كما غاب عن إطلاقية النصوص التي تحض على حسن الخلق مثل قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن) رواه الترمذي– و هي واضحة الدلالة، فلو أراد النبي وهو أفصح العرب أن يقول وخالق المسلمين لقالها، ولكن قال الناس.
إن هذا الانحراف فيه ذريعة؛ أراد أن يخلط الأوراق ويتخد من الدين عدوًّا راغبًا أن ينسلخ منه بالكلية وأن يقود المجتمع إلى الخروج عن تعاليمه.
ثم يعود هذا التيار الفكري ليعطي الذريعة الثانية للمناهضين لأمر الدين في أن يصولوا ويجولوا، فيقوم هذا الفكر بشغل عقل المسلم بالفرعيات والشكليات التي تكون في بعض الأحيان من السنة إلا أن ترتيبها في الأولويات هي التي تمثل مشكلة حقيقية.. فنترك ونغفل عن فروض وكفايات كإتقان الصنائع والحرف والعلوم المختلفة التي يحتاجها المسلمون في حياتهم ومعيشتهم، والتي تخلفنا فيها عن ركب الحضارة لعدم وعينا بمهمتنا وانشغلنا بهذه الأمور، فنحكم بالكفر تارة وبالفسق تارة أو البدعة تارة أخرى على من لا يقوم بها، فيرجع بنا هذا الحكم إلى الأمر الأول وهو رفض المخالف، فيجد في هذا الأمر العلمانيون ضالتهم في الطعن في الدين على أنه سبب تخلف هذه الشعوب، في حين أن كل منصف يعرف ويعترف أن حضارة الغرب قامت على التراث المعرفي للحضارة الإسلامية التي ازدهرت عندما فهم المسلمون مهمتهم، فترى علماء الشريعة أو تلاميذهم هم من يبرعون في علوم الطبيعة.إن انحراف هؤلاء جاء كنتيجة طبيعية لعد التواصل مع المذاهب الفكرية الإسلامية سواء في العقيدة أو الفقه، هذه المذاهب بما لها من تراث قائم على فهم الشريعة فهمًا عميقًا يراعي مقاصدها ويعمق في نفوس طلابها روح هذا الدين..
فهذا العلم شأنه شأن سائر العلوم لا بد من تلقيه من أهل العلم، بل إن الحرف يتم تعلمها بالتلقي، فما لنا لا نتجرأ على مطالعة كتب الطب أو الهندسة مثلًا دون أستاذ، ولكن نتجرأ على علم الدين، فننظر في الأدلة ونستنبط أحكامًا دون فهم أو توفر الأدوات.
إن هذه النصوص قد نقلت لنا بتفسيرها، فلا بد من مجالسة أهل السند المتصل لتلقيها عنهم، أما هؤلاء الذين يهجمون على الكتب ويتعاملون مع النص مباشرة فإنهم يضلون عن كثير من الحق نتيجة الغياب عن روح هذه النصوص، بل في كثير من الأحيان عن دلالتها اللفظية.
نحن بحاجة إلى وقفة حقيقية تخلص فيها النوايا لله للخروج من هذه الأزمة، نتجرد فيها من رغبات من أجلها رفع الكثير شعار الدين، ومقصده الحقيقي هو جمع مال أو وصول إلى حكم.. وقفة من علماء الأمة وحكامها وأفرادها تتضافر فيها الجهود للعودة إلى الوسطية في معيشتنا دون إفراط أو تفريط.
لقد اقتصر الأمر في كثير من الأحيان على القيام بقمع أصحاب هذه الأفكار مما في هذا من تزكية لفكرة الصدام وترسيخها. إن الحجة يجب أن تقرع الحجة، وقد تأخرنا كثيرًا في مواجهة هذه الأفكار، وما زلنا مقصرين في التصدي لها بالحجة، مع وجود عوامل أخرى من انحراف وفساد وتطرف في الجانب الآخر البعيد عن الدين وتعاليمه، دفعت الشباب الغيور على الدين إلى أحضان من يلبس عباءة الإسلام ويتكلم بلسانه في كثير من الأحيان، وهو بعيد عن فهم مقاصد الشريعة وروحها، فيبث فيه روح الكراهية وتكفير المجتمع وجاهليته..
فهل من بداية جادة لوقفة صحيحة نرد بها كلًّا من الطرفين إلى الوسطية والاعتدال.