نسخة تجريبيـــــــة
الأولياء الكرامة أم الأستقامة

الولاية والأولياء، موضوع غامض بالنسبة لكثير من الناس، كثر فيه اللغط بين تهويل وتهوين، وبين إفراط وتفريط .. بين تكلف من ناحية وتنطع من ناحية أخرى .. يرى بعض الناس أن الحديث عن الأولياء والكرامات هو من الأساطير والخرافات التي تؤثر سلبًا على عقلية المسلمين وتؤدي إلى تراجعهم عن مهمتهم.
و يرى البعض الآخر أن هذا هو الدين ولا حديث لهم إلا عن الكرامات وخوارق العادات .. والحق أن كلًّا من الطرفين قد تطرف وابتعد عن الوسطية .. فلا يمكن أن ننكر الكرامة وننفيها ونعدها من الخرافات ونحن نتلوها فى كتاب الله، وإلا فبمَ يوصف قول وفعل أحد أتباع سيدنا سليمان عليه السلام الذي ذكره الله فى كتابه قائلًا: 
(قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) [سورة النمل: 40]
وهل الإتيان بالعرش من سبأ إلى الشام إلا كرامة أعطاها الله لأحد أوليائه .. وتأمل كيف أن سليمان قد نسب الفضل والعطاء لله تعالى، وبين أن هذه الكرامة إنما من النعم التي يمتحن بها العبد ليشكر بنسبتها إلى الله أو ليكفر بنسبتها إلى نفسه .. وأود أن أشير هنا إلى معنى دقيق حيث إن سليمان قد سأل أتباعه أن يأتوا بالعرش،
فلما أتوا به توجه بالشكر إلى الله، ومن هنا يظهر أنه ليس كل سؤال لغير الله في الظاهر يقتضي شرك السائل، وهذا باب آخر لسنا بصدد الحديث عنه الآن.
والكرامة هي أمر خارق للعادة يجريه الله لأحد أوليائه إكرامًا وتأييدًا له.. ومن هذا الباب أيضًا ما أعطاه الله لمريم عليها السلام من الرزق بغير الأسباب العادية حيث قال سبحانه: 
(وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ) [سورة أل عمران: 37]
كما أن أخبار الصحابة وسيرهم بها من الكرامات ما لا مجال لحصره فى مقامنا هذا، ونداء عمر على سارية قائد جيش المسلمين وسماع سارية له من على بعد يكفينا في هذا الباب.
ونحتاج هنا أن نورد بعض أقوال السادة العلماء في هذا الباب ليفهم أصحاب القلوب السليمة الحق في هذه المسألة، فيقول الإمام ابن حجر رضي الله عنه :(ليس العجب من إنكار المعتزلة للكرامات، فإنهم خاضوا فيما هو أقبح من ذلك وأنكروا النصوص المتواترة المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما العجب من قوم تسموا باسم أهل السنة، ومع ذلك يبالغون في الإنكار؛ لأن كلمة الحرمان حقت عليهم حتى ألحقتهم بأهل البوار، وأوجبت عليهم نوعًا من الوبال والخسار).
ويقول سعد الدين التفتازاني فى كتاب (شرح المقاصد)، (و الجملة: فظهور كرامات الأولياء تكاد تلحق بظهور معجزات الأنبياء، وإنكارها من أهل البدع ليس بعجيب، إذ لم يشاهدوا ذلك من أنفسهم، ولم يسمعوا به من رؤسائهم، مع اجتهادهم في العبادات واجتناب السيئات، فوقعوا في أولياء الله أهل الكرامات، يأكلون لحومهم ويمزقون أديمهم جاهلين كون الأمر مبنيًّا على صفاء العقيدة، ونقاء السريرة، واقتفاء الطريقة .
وانظر كيف عد الشيخ رحمه الله إنكار كرامات الأولياء من البدع، وبين في كلامه النفيس ما أشرنا إليه في مقالات سابقة أن التزام ظاهر العبادة وحده لا يكفي، فلا بد من نقاء السريرة وتطهير القلب.
إلا أن كل ما سبق مع ضرورة توضيحه بما يسع له المقام، إلا أن المسلم لا يتعلق به كغاية ولا يدور في تلك الخوارق والكرامات، بمعنى أننا نؤمن بها ونصدقها، ولا نعدها من باب الخرافة، إلا أننا يجب أن نفهم أن الكرامة هي نتيجة (ليست حتمية أو ضرورية) للاستقامة، وأن الاستقامة هي المطلب الحقيقي للمؤمن في طريقه إلى الله، وهي التي عليها صلاح حال المسلمين في دنياهم، وحسن الخاتمه في أخراهم.
ولذا قال أحد الصالحين: (الاستقامة خير من ألف كرامة) .. ولما كان أمر الاستقامة أمر شاق يحتاج إلى مجاهدة عظيمة حتى يتسنى للإنسان أن يزكي نفسه ويطهر قلبه، وكيف لا تكون شاقة وهي -أي الاستقامة- متابعة الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم في جميع أحواله، ولا شك أن هذه المتابعة تحتاج إلى همة عظيمة ليرتقي المسلم إلى هذا الخلق المحمدي في أموره كلها.
ولهذه المشقة أقبل بعض أصحاب النفوس الضعيفة على الخوارق والكرامات وانشغلوا بها بل وشغلوا غيرهم،
وغفلوا عن أن ما يعنينا حقيقة من الأولياء هو استقامتهم وليس كرامتهم .. فأمر الدين قائم على الاقتداء والمتابعة، ونحن نطلب من الله في فاتحة الكتاب أن يهدينا الصراط المستقيم، هذا الصراط الذي أرشدنا الله إلى أنه صراط الذين أنعم عليهم، فهذا يعني أننا نطلب من الله أن يوفقنا للسير على هدي أهل الاستقامة ممن سبقونا،
فهل الاقتداء يكون في الكرامة أم في الاستقامة ؟
إن صحبة الأولياء ومحبتهم من أقرب الوسائل وأنجح السبل في الوصول إلى الله، ولذا يقول ابن عطاء الله السكندري في الحكم: ( اصحب من ينهضك إلى الله حاله ويدلك على الله مقاله).
وهذا الكلام الدقيق يبين أن الصحبة والانتفاع بها يكون مع صاحب الحال الصادق الذي يؤثر فيك فتنهض
همتك في الإقبال على الله، وليس مجرد صاحب مواعظ لا حقيقة لها في حال المتكلم.
فما أكثر الكلام الذي نسمعه وأقل الصدق الذي نراه !!
علينا أن نكون أصحاب عقلية وسطية واعية لا تنجرف إلى طرف من الأطراف بناءً على هوى النفس، فليست الكرامة من الخرافة، فهي عطاء من عطاءات الله، هو الذي يجريها وهو الفعال لما يريد، كما أنها ليست منهجًا أو شريعة يقتدى بها، ولكنها أثر من آثار استقامة العبد على الشريعة والطريقة.
فلا بد لنا ألا نبالغ في الإنكار، ولا أن ننقاد في الانجراف الذي يؤدي أحيانًا إلى الانحراف عن الشريعة الغراء التي تركنا عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
الاقتداء بالأولياء يعرفنا كيف يرتقي الإنسان من دائرة الإسلام إلى دائرة الإيمان إلى رتبة الإحسان التي قال عنها الحبيب: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) رواه مسلم.

الشيخ: أكرم عقيل

التقييم الحالي
بناء على 52 آراء
أضف إلى
أضف تعليق
الاسم *
البريد الإلكتروني*
عنوان التعليق*
التعليق*
البحث