عرضت في المقال السابق ما قرره العلماء المسلمون فيما هو العلم الواجب على كل مسلم، وهي كما ذكرت ثلاثة علوم: التوحيد، والفقه، والتصوف.
فعلم التوحيد تصح به العقيدة، وعلم الفقه تستقيم به العبادات والمعاملات، وعلم التصوف أو السلوك تتزكى به النفس وتسمو به الروح. ولما كانت هذه العلوم الثلاثة هي المنظمة من الناحية الشرعية لعلاقة المسلم بالموجودات كلها، أي بالخالق سبحانه وتعالى وهو صاحب الذات واجبة الوجود، وبالبشر، وبسائر المخلوقات، بل وعلاقة الإنسان بنفسه قلبًا وقالبًا، فلا بد أن يكون لهذه العلوم علاقة فيما بينها وهو ما سنحاول فهمه فيما يلي:-
فعلم التوحيد كما ذكرت تصح به العقيدة في الله ورسله، وكذلك يتم من خلاله معرفة ما يجب التصديق للرسول فيما أخبر به وهو المبحث المسمى بالسمعيات – في القرآن أو السنة الصحيحة، كالإيمان بالملائكة والجنة والنار والحشر والنشر والصراط والميزان والشفاعة.............إلخ .. فإذا آمن الإنسان بأن للكون إلهًا واحدًا موصوفًا بكل كمال، منـزهًا عن كل نقص، لا ند له ولا شريك له إلى آخر ما يوصف به سبحانه من صفات، وآمن برسله وصدق رسوله في كل ما أخبر، انطلق من هذا الإيمان والاعتقاد إلى الانقياد لهذا الإله إلى اتباع هذا الرسول فيما أمر، فبدأ مرحلة افتقر فيها إلى العلم بما أمر به الله ورسوله حتى يقوم على هذا الأمر في أمور العبادات والمعاملات.
وهنا تأتي الحاجة لعلم الفقه ليعرف الإنسان كيف يعبد ربه، وكيف يتبع رسوله، حيث إن هذا الاتباع هو الذي تتوقف عليه صحة العبادة .. ولذا نرى الدعوة قد نزلت على هذا النحو والترتيب، سنوات بقاء النبي بمكة عبارة عن كثير من الاعتقاد وبناء القلوب وقليل من التكليف حتى إن الخمر وهي أم الخبائث قد حرمت بالمدينة.
فكانت سنوات مكة سنوات بناء قلوب مؤمنة متعلقة تعلقًا شديدًا بالله ورسوله حتى إذا جاء التكليف استقبلت هذه القلوب التكليف بحب ورضا واستجابة لأمر المشرع سبحانه وتعالى والمبلغ صلى الله عليه وآله وسلم، فلا يصح أن يحيد المؤمن عن المنهج والطريق المستقيم، ولذا قرن الله في مواضع عديدة بين الإيمان والعمل الصالح وهو ما كان موافقًا لأمر الله وسنة رسوله. وفي هذا المعنى يقول ابن رسلان:
ونية والقول ثم العمل يغير وفق سنة لا يقبل
من لم يكن يعلم ذا فليسأل من لم يجد معلمًا فليرحل
أي أن هذا العلم واجب وفرض يجب أن يرحل الإنسان في طلبه إذا تعذر من يعلمه إياه في بلدته.
والعلاقة بين العلمين المذكورين -أي التوحيد والفقه- قد تكون واضحة، فالاعتقاد والإيمان بالله وتصديق رسول الله ينقل الإنسان بالضرورة إلى العمل بالأمر والنهي، أي أن الاعتقاد يقودنا إلى الاحتياج للفقه. وهنا قد يأتي التساؤل فأين التصوف الذي ذكرته ؟ وما علاقته بالأمر؟ ولماذا تريد أن تقحم هذا العلم وتزعم أنه واجب على كل مسلم ؟
ألا يكفي أن أعتقد وأعمل بالأوامر وأجتنب النواهي؟
هذه التساؤلات وغياب الإجابة الصحيحة هو أحد الأسباب التي حرمت الناس عن التصوف مع شدة احتياجهم إليه، ولمحاولة فهم أهميته بل وضرورة سلوك هذا الطريق، نطرح سؤالًا بسيطًا، أين يجد المسلم شرحًا وتعريفًا لمعاني التوكل والرضا والمحبة والتسلم والخوف والرجاء والشكر والصبر، إلى آخر هذه العبادات القلبية التي أمرنا بها الله ورسوله، وأين أفهم كيفية العمل بها .. فالذي أمرنا بالإيمان ونهانا عن الشرك، والذي أمرنا بالصلاة والصيام، وحرم علينا الخمر والربا هو سبحانه الذي أمرنا بالشكر والصبر والتواضع، فأين حدود هذه العبادات، وأين كيفية العمل بها؟
وأين أعرف معاني الأمراض والآفات التي حذرنا منها الله ورسوله كالكبر والشح والرياء؟ وكيف أتخلص منها إن وقعت فيها؟ بل إذا رجعت إلى علمي التوحيد والفقه وجدت أن المسلم يتعلم في علم التوحيد مثلًا أن الله هو الرزاق
سبحانه ويصدق هذا، إلا أن الواقع العملي وملاحظة أحوالنا وأحوال من حولنا توضح أننا مع هذا التصديق، فإن أكثرنا يعيش في حال جزع وخوف من فوات الرزق، وطمع وتطلع إلى ما ليس لنا، فلا نجد الطمأنينة والسكينة التي تنتج عن أمر الاطمئنان إلى الرزق، أي أن التصديق والاعتقاد لم يصل إلى يقين يطمئن به القلب .. فيظهر هذا الافتقار إلى السلوك والتزكية التي تصل به إلى نور المعرفة الذي يحول التصديق عنده إلى يقين في وعد الله والاطمئنان إليه.
أما عن العبادات فإن الفقيه يحكم على الصلاه بأنها صحيحة إذا تحققت شروطها وتمت أركانها وسننها وهيئاتها، وقد تكون هذه الصلاة لا تساوي عند الله شيئًا لانصراف قلب صاحبها عن الله وانشغاله بغيره، وهذا ليس من عمل الفقيه ولا في مجال بحثه، أي أن العبادات التي يحكم عليها الفقيه بالصحة تحتاج إلى المسلك الروحي ليرتقي بها صاحبها من عمل حسي مجرد إلى معاملة قلبية مع الله ومعراج قرب ووصول إليه، فالأعمال صور قائمة ورحها سر الإخلاص فيها. فنحن هنا نتحدث عن مسلك يؤدي بالسالك إلى صفاء النفس وطهارة القلب وسمو الروح، طريق يؤدي إلى المعرفة، ومجاهدة ترتقي بالإنسان إلى مراتب القرب من رب العالمين. ولذا يقول الشيخ أبو الفتح البستي رحمه الله:
تخالف الناس في الصوفي واختلفوا وظنوه جهلًا مشتقًّا من الصوف
ولست أمنح هذا الاسم إلا فتى صافى فصوفي حتى سمي الصوفي
ويقول الشيخ ابن عجيبة في كتابه الرائع المسمى (إيقاظ الهمم) وهو شرح حكم ابن عطاء الله السكندري (إن هذا العلم يعتني بتهذيب القلوب ومعرفة علام الغيوب)، و حيث إنه لا يخلو أحد من عيب أو مرض إلا الأنبياء عليهم السلام.
فكان لا بد لكل مسلم أن يسلك الطريق الذي يخلصه من الكبر مثلًا إذ هو مانع من دخول الجنة، وأن يتطهر من العجب الذي يقدح في كمال عبادته، وأن يتخلص من الرياء الذي هو مفسد للعمل.
ولما كان التصوف علمًا ذوقيًّا كان إدراكه على غير أهله أمر عسير، فخاض كثير من الناس، وتشدقوا بكلام في الإنكار على أهل المعارف والأذواق، فالإنسان عدو ما يجهل، وبعض الناس يظن أن منتهى العلم هو ما وصل إليه، ولذا يقول الشيخ ابن عجيبة في الكتاب المذكور (واعلم أن العلم الذي ذكرناه ليس هو اللقلقة باللسان، وإنما هو أذواق ووجدان، ولا يؤخذ من الأوراق وإنما يؤخذ من أهل الأذواق، وليس ينال بالقيل والقال، وإنما يؤخذ من خدمة الرجال وصحبة أهل الكمال، والله ما أفلح من أفلح إلا بصحبة من أفلح).
ومما سبق نفهم أن التصوف هو الطريق للفوز بثمرة علمي التوحيد والفقه والعمل بهم، وهذه الثمرة هي ميراث العلم، فمن عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم.. فالسير إلى الله شريعة وطريق وحقيقة، فالشريعة أن تعبده، والطريقة أن تقصده، والحقيقة أن تعرفه.