تكلمنا عن التصوف وركزنا الحديث على أهميته وضرورته لكل مسلم يطلب السير إلى الله، وبينا حاجة الإنسان إليه للارتقاء بعقيدته وعبادته إلى مراتب القرب من الله والفهم والفقه الحقيقي في دين الله.
ومع شرف هذا العلم وسموه، ومع علو مرتبة أهله وصفائهم إلا أننا نجد أن الصورة في أذهان الناس عن التصوف وأهله صورة سلبية، مشوشة في كثير من الأحيان، فإن أكثر الناس لا يعرفون ما هو التصوف ولا يدركون حقيقته، والآخرون سمعوا من بعض من يتكلمون في الدين ولا أقول العلماء، فلوكانوا علماء لعرفوا أن هذا هو مسلك من مسالك الحق، سمعوا منهم اتهام وتشكيك في التصوف وأهله وهذا له أسباب كثيرة نركز اليوم منها على أسباب تتعلق ببعض الصور السلبية والدعاوى الباطلة من أناس ينسبون أنفسهم إلى التصوف أدت إلى رسم هذه الصورة في أذهان الناس.
إن رسول الله قد أتانا بشريعة بيضاء نقية، يستقيم بها المعوج، وينصلح بها الفاسد، ويطهر بها الإنسان من الدنس ظاهرًا وباطنًا، وجعل لنا ميزانًا نستطيع به أن نزن أعمالنا وأقوالنا وأحوالنا، بل ونستطيع به أن نميز بين خواطر الخير وخواطر السوء ..
وعلى هذا الأساس كان حال الصحابة والتابعين، تضبط الشريعة أعمالهم وأحوالهم، فقد كانوا قريبي عهد بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم .. فلما تقادم الزمن، وبعد عهد النبوة، وظهرت الفرق وغلبت الجهالات، وكثرت الفتن، وتزخرفت الدنيا، ظهر أفراد وتفردوا بأعمال صالحة وأحوال سنية وزهد في الدنيا، فبرزوا بأحوال وهيئات تشبه أحوال أصحاب النبي رضي الله عنهم، فأثمرت أعمالهم الصالحة وأحوالهم الراقية صفاء الفهم ففتح لهم باب العلم ونور اليقين الذي أشار إليه حارثة عندما سأله النبي: كيف أصبحت؟ فقال: أصبحت مؤمنًا حقًّا. وهذا لما ظهر له من معاني الإيمان مراتب لم يتبينها من قبل .. فلما ظهروا بهذه الأحوال وعرفوا بها أشير إليهم بالبنان وأقبل عليهم من أراد السلوك إلى الله ليأخذ عنهم ويقتدى بهم.
ولما رأى أهل الهوى والبطالة ذلك دخلوا إلى هذا الطريق بغير نية صادقة، بل دخلوه بحظوظ نفوسهم ورغبتهم في الدنيا والشهرة، فادعوا أحوالًا ليست لهم، وتكلموا عن مقامات لم يبلغوها، بل الأكثر من ذلك أنهم دخلوا إلى الطريق بجهل بالعلم الشرعي مدعين عدم الحاجة إليه حيث إنهم سيفتح لهم بعلم يغنيهم عن الأخذ من مشايخ التعليم .. وكانت هذه من أول البدع والآفات التي أفسدت في هذا الطريق. ويجدر بنا هنا الإشارة إلى بعض أحوال أئمة هذا الطريق لنبين هذا الأمر ونقطع السبيل على من يدعي الاكتفاء بصفاء سريرته وعدم حاجته للعلم الظاهر بدعوى الفتح له بالعلم الباطن.
كان الإمام الجنيد رحمه الله -وهو المسمى عند الصوفية بسيد الطائفة- يقول:
علمنا هذا مشتبك بحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .. وفي هذا الكلام إشارة إلى شدة المتابعة وكمال الاقتداء بالسنة، فكل باطن لا يشهد له ظاهر فهو باطل.
ويظهر هذا التمسك الشديد والمتابعة للسنة فيما رواه خادم الشبلي رحمه الله عنه عند موته حيث قال: لما أمسك لسانه، وعرق جبينه أشار إلي أن وضئني للصلاة، فوضأته، فنسيت تخليل لحيته، فقبض على يدي وأدخل أصابعي في لحيته يخللها ... فانظر يا أخى إلى رحمة الله كيف أنه يتمسك بهذه السنة من سنن الوضوء وهو في هذه الحالة، وحكي أن أبا يزيد البسطامي رحمة الله قال ذات يوم لبعض أصحابه : قم بنا ننظر إلى هذا الرجل الذي قد شهر نفسه بالولاية. وكان الرجل في ناصيته مقصودًا مشهورًا بالزهد والعبادة، فمضينا إليه، فلما خرج من بيته يقصد المسجد رمى بزاقه نحو القبلة، فقال أبو يزيد : انصرفوا. فانصرف ولم يسلم عليه وقال :هذا الرجل ليس بمأمون على أدب من آداب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكيف يكون مأمونًا على ما يدعيه من مقامات الأولياء والصديقين.
وقد اشتهرت عنهم الأخبار بالتشديد على التمسك بالشريعة والقيام بحقوقها من فرائض ونوافل وآداب.
فلما دخل أقوام إلى الطريق دون علم بأمر شرعي متبعين في ذلك أهواءهم، ضيعوا العبادات وادعوا الوصول إلى مقامات متأولين بعض الآيات والأحاديث بتأويلات فاسدة فضلوا وأضلوا .. وزعموا أن القيام بحقوق الشريعة من الفرائض هي رتبة العوام المنحصرين في الاقتداء الظاهري وهذا هو عين الإلحاد والزندقة، فكل من ادعى حقيقة تردها الشريعة فهو كاذب ..
وكما يقول الإمام السهروردي في كتابه (عوارف المعارف): فكل حقيقة تردها الشريعة فهي زندقة. وجهل هؤلاء الغرورون أن الشريعة حق العبودية والحقيقة هي حقيقة العبودية، ومن صار من أهل الحقيقة تقيد بحقوق العبودية وحقيقة العبودية، وصار مطالبًا بأمور وزيادات لا يطالب بها من لم يصل إلى ذلك، لا أن يخلع عن عنقه ربقة التكليف ويخامر باطنه الزيغ والتحريف.
ويظهر مما سبق الفرق في هذا الأمر بين الصوفية من أهل الولاية والاتباع وبين المدعين من أهل الفسوق والابتداع.
وقد ورد عن الإمام الجنيد أنه وصف قول الذين يقولون بإسقاط الأعمال أي التكليفات الشرعية قائلًا: وهذه عندي عظيمة، والذي يسرق ويزني أحسن حالًا من الذي يقول هذا.
ولا شك أن خطر هؤلاء المدعين عظيم، فهم من ناحية يفسدون في الدين، ويضلون الطالبين والراغبين، ومن ناحية أخرى يشوهون هذا الطريق الذي ينسبون أنفسهم كذبًا إليه فينصرف الناس عن الحق بسبب أن أهل الزيغ والضلال يلبسون عباءته ويرفعون رايته .. وهذا يذكرني بقول الإمام علي بن أبي طالب: ما قسم ظهري في الإسلام إلا اثنين؛ عالم فاسق ومبتدع ناسك. فالأول يزهد الناس في علمه لما يرون من فسقه، والثاني يرغب الناس في بدعته لما يرون من نسكه.
ولذا بدأت في الكتابة عن التصوف الذي انصرف عنه أكثر الناس ولم يدخل فيه حقيقة أكثر من ينسبون أنفسهم إليه.
كان لا بد لي أن أبدأ في عرض هذه الآفات الناشئة عن دعاوى أهل الضلال الذين يرفعون رايات هذا الطريق، والطريق منهم بريء.
وبطبيعة الحال كان انتشار هذه الفكرة وتعميمها على أهل التصوف في أذهان الناس صارت لهم عن اتباع هذا الطريق، وذلك لأن القبيح يحلو للناس تناوله بالكلام وترديد أخباره باللسان.
فالناس لا يستهويها الثناء على غيرهم كما يستهويهم الندم لأحوالهم .. ومن هنا كان طبيعيًّا أن ينتشر على ألسنة الناس ويلصق بأذهانهم كل غريب وشاذ يسمعونه ويرددونه دون تحقق وعلم.
كما ينتشر في أذهان الناس وعلى ألسنتهم أن الشيعة مثلًا يقولون أن عليَّا كان هو صاحب الرسالة، وأن أمين الوحي أخطأ بإنزالها على رسول الله. وهو قول بعيد عن حقيقة اعتقاد الشيعة، فهم يؤمنون بشهادة لا إله إلا الله، محمد رسول الله. ولو صح القول فإنه يكون لأحد الفرق الخارجة من غلاة الشيعة، فانظر كيف انتشر هذا القول الشاذ حتى رسخ في عقول أكثر الناس دون أن يتبينوا.
وما ذكرناه من أحد الأحوال الفاسدة للمدعين سلوك طريق التصوف لا يكون أبدًا حجة على التصوف، فكم من مسلم لا يصح أن يكون مظهرًا للإسلام ولو تكلم باسم الدين .. وهنا نرى مرة أخرى حاجتنا إلى العلم .. فتلقي العلم بصورة سليمة وفي بيئة علمية ومن شيوخ لهم إسناد في تلقي العلم يحفظ صاحبه من الانحراف والانجراف في خضم التيارات التي تتلاعب بأصحاب الأهواء وأهل الجهل في زماننا هذا.
وقبل طلب العلم نحتاج إلى نيات صالحة ندخل بها في جميع أعمالنا طالبين رضا الله سبحانه والخروج من هذه الأهواء التي تنحرف بأصحابها فوصلنا إلى ما نحن فيه من هوان وذل نعيشه في كل لحظة ونشعر بمرارته، وما هذا إلا لأننا قد أدرنا ظهورنا للمنهج واتبعنا الهوى. فهل إلى خروج من سبيل!