اعلم أن بعض أو كثير ممن قرأ شيئًا من هذه المقالات المتواضعة قد يتساءل متعجبًا عن موضوع التصوف، وما أهمية ما أكتب الآن، وفي خضم هذه الأحداث الرهيبة التي تمر بها الأمة .. ثم أين مكان هذا التصوف من هذه الحياة التي تسلط عليها وعلى قيادة الفكر الإنساني فيها من يتكلمون باسم العلم والتقدم والتنوير والثقافة والإبداع إلى غير هذه المصطلحات التي تطلق على أشياء لا علاقة لها في حقيقتها بمعنى هذا المصطلح، فالإباحية يطلق عليها تنوير، والانجراف وراء فكر يخلعنا من هويتنا هو الثقافة، أما حرية الإبداع فضع تحت هذا المسمى ما شئت من خلاصة نتاج أمراض نفسية وآفات قلبية دفعت أصحابها للخروج عن كل ما تدعو إليه القيم والأخلاق والديانات، فإن وقفت لتواجه أيًّا من هذه الأفكار فأنت من دعاة الجهل والرجعية والتخلف إلى آخر التهم التي تكال كيلًا لكل من أراد أن يحفظ علينا هويتنا الثقافية والدينية.
فأين مكان هذا التصوف الذي نتكلم عنه ؟ أليس هذا التصوف هو الانعزال والانقطاع عن الدنيا؟ أليس هؤلاء الصوفيون هم أصحاب الملابس الرثة الذين يجلسون على الأرصفة ينتظرون إحسانًا من هذا أو ذاك؟ إلى آخر هذه الصور المرسومة في أذهان الناس عن التصوف والصوفية، ومن ثم يحكم على المنهج وأهله بأحكام خاطئة لأن (الحكم على شيء فرع عن تصوره)، فأنت تتصور الشيء قبل الحكم عليه، ولذا يحكم عليهم من خلال هذه الصورة السائدة في أذهان الناس ، فيأتي الحكم عليهم نتيجة التصور الخاطئ في بعض الأحيان، ونتيجة الجهل بمعاني كلامهم في أحيان أخرى، يأتي الحكم عليهم بالتخلف والبطالة والتوكل .................إلخ.
أقول في معرض الرد عما سبق، نعم الآن وخاصة الآن نحن في حاجة إلى التصوف وإلى أهل الصدق ممن يرفعون رايته، نعم في هذه الظروف وفي هذا المناخ الذي تختلط فيه الأوراق وتتضارب فيه الأهواء نحتاج إلى التصوف .. في زمن ارتفاع صوت الظلم وشيوع قيم الفساد نحتاج إلى التصوف .. نعم في ظل هذه الحياة المادية الرهيبة، والأنماط الاستهلاكية المخيفة، واللهث وراء سراب الثروة نحتاج إلى التصوف.. نعم في زمن لا ينام أكثر الناس فيه إلا بالمهدئات والأدوية التي وصل استخدامها إلى إدمان أصحابها لها نحتاج إلى التصوف.
نحتاج إلى منهج يعيد لنا التوازن بين المادة والروح، فنحن أمة وسط، نأكل ونشرب ولا نسرف .. نبينا صلى الله عليه وآله وسلم يصوم ويفطر، وينام ويقوم، ويتزوج النساء، نحتاج إلى منهج يعيدنا إلى حقيقة الاقتداء بهذا الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، لنكون صورًا محمدية في القول والعمل والحال.
إن استعلاء القيم المادية وسطوتها على الفرد والمجتمع قد انحرف بنا عن هذه الوسطية وجعل الانقياد للمادة، والمادة تزكي الشهوة، والشهوة رغبة الجسد، فضاقت الروح وضاعت تحت قهر المادة، ولذا نحتاج إلى منهج يعيد إلينا التصالح مع النفس، ويعيد إلينا التوازن بين حاجات الجسد المادية، ومتطلبات الروح النورانية.
لقد ذكرت في مقالات سابقة وأنهيت المقال الأخير بذكر أننا نحتاج إلى نية صالحة تتوجه فيها القلوب إلى الله تلتمس نور الهداية، هداية ظاهرة وباطنة، يستقيم فيها ظاهر الإنسان على منهج الحبيب محمد صلى الله عليه وآله وسلم، كما يستقيم باطنه ويتطهر بنور المحبة لله ولرسوله.
نعم يا إخواني، نحتاج التصوف لنخرج من ضيق الجسد واحتياجه الذي يؤدي بصاحبه إلى الأنانية التي تدفع الإنسان في طريق تلبية حاجاته الشهوانية من وصول إلى منصب أو مال أو غيره من حاجات النفس إلى الاعوجاج عن الاستقامة، فنرى ما نرى من كذب وغش وخداع ورشوة وتربح، حتى رأينا الطبيب يتاجر بآلام الناس وأمراضهم، ورأينا المحامي يتاجر بمشاكل الناس وقضاياهم، وصار كل من يملك تعطيل مصالح البشر، لا ينهيها إلا بمقابل لا يستحقه ..
وليس هذا إلا نتاج السعار المادي الذي أصاب المجتمع، ومن العجب أننا نلوم على إسرائيل وأمريكا لما يقومون به من ظلم وقتل وقهر للشعوب الإسلامية والعربية ونتعجب من قدرتهم على الكذب والخداع والمراوغة، وننسى أو نتناسى ما نفعله نحن في مجتمعنا ومع إخواننا.
فلننظر حولنا ونرى كم من حقوق تغتصب فيما بيننا ولا يستطيع صاحب الحق أن يسترده، كم منا يأكل الرشوة؟
كم منا يظلم في ميراث؟ كم صاحب سلطة أيًّا كانت يبطش ويتجبر على من يرى أنه لا يستطيع أن يرد بطشه ..
نحن قوم ضاع الحق بيننا .. نحن قوم لا يستطيع الضعيف فينا أن يأخذ حقه، ولا يجد من الأقوياء نصيرًا ينصفه.
كيف لا نحتاج إلى التصوف؟ بل نحن في أحوج ما نكون إليه لنخرج من هذا النفق المظلم. ولكن التصوف الذي نحتاجه ليس هو ما ذكرناه مما يدور في أذهان الناس، ولكن هو العودة إلى الأصل، أصل الهداية والاقتداء، هو العودة لما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، هو الصفاء الناتج عن معرفة الإنسان بحقيقة وجوده ومهمته. إن الله قد فرض علينا الصلاة وأمرنا أن نتوجه في صلاتنا إلى المسجد الحرام، فصار البيت لنا قبلة، ولكنه قبلة الوجه، ولذلك حياء الأمر أن نولي وجوهنا شطره، أي أنه قبلة القالب وهو الجسد، أما قبلة القلب فهو الوجه الكريم الذي يتوجه إليه قلب العارف راجيًا له وطامعًا فيه.
وهذا هو الحال الذي يسعى إليه السالك في هذا الطريق، أن يصرف قلبه في جميع أحواله إلى مولاه الكريم، أينما توجه بوجهه في عبادة أو معاملة أو عمل من أعمال الدنيا يكون قلبه معلقًا بربه متوجها إليه، صادقًا له كل عمل من أعماله.
فإن الإنسان إذا صرف حبه لمولاه ارتقى بهذا الحب فوق العاطفة أو الشهوة أو الطمع، وجعل رجاء مولاه هو المطلب والغاية، ولذلك قال الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به).
أي أن الهوى يكون تابعًا وليس متبوعًا .. هذا الهوى الذي إذا تحكم جعل الإنسان يسعى لرغباته كالوحش الذي يفترس كل من يعترض طريقه .. ولذا لا بد أن يمنع من التحكم ويروض حتى يصير تابعًا للمنهج الذي جاء به الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم.
ولما سئل أحد الصالحين عن سر استقامته قال: وقفت على باب قلبي فلم يدخل فيه إلا الله. أي أنه لم يمكن شيئًا غير الله أن يسكن حبه في قلبه. فأنت إذا أحببت الصانع أحببت صنعته من أجله، فصار حب الأكوان تابعًا لحب المكون سبحانه، والرحمة بالخلق مستمدة من الخالق .. ويصير الناس محلًّا للإحسان منك ولكنهم لا يكونون محلًّا للرجاء فيهم .. أي أنك تعطي دون انتظار مقابل، وتصل دون توقع الثناء، وتعفو لا طلبًا للشهرة وهذا معنى التجرد الحقيقي أي الانخلاع عن متطلبات النفس في أن تشكر على إحسانها أو تمدح بحسن صنيعها متجردة في ذلك لطلب الرضا من الله، وبدون هذا فلا يستطيع الإنسان أن يصل من قطعه أو يعطي من حرمه أو يحسن لمن أساء إليه طاعة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
نحن في حاجة لهذا المنهج حتى ندخل نفوسنا التي صارت كالوحوش الكاسرة من شدة طمعها في هذه الدنيا وزخارفها الفانية، ندخلها إلى مراحل من الترويض الذي يعيدها إلى رشدها حتى نستطيع أن نفهم ونعي المهمة التي نحن في هذه الدنيا من أجلها.
فنحن أمة وارثة لمهمة، إذا قمنا بها صلحنا وصلح العالم من حولنا، وإذا غبنا عنها وغابت عنا انحرفنا وفسد العالم من حولنا ألا وهي مهمة الهداية والإرشاد، بل وقيادة هذا العالم إلى طريق الخير والرشاد، فإذا تركنا هذه المهمة قام بالقيادة أوباش الناس فأوصلوا العالم لما نراه اليوم من دمار وخراب.
إن قوة هذه الأمة في قلوب أبنائها وليس في عددهم أو عتادهم، فإذا مرضت القلوب وهنت الأمة وضعفت ولا أقول ماتت، فأمة الله ربها، والقرآن كتابها، والرسول إمامها، هي أمة قد كتبت لها الحياة.