عندما كتبت مقالًا بعنوان العترة الطاهرة منذ عدة أسابيع، سألني بعض الأحباب أن أكتب عدة مقالات عن آل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إلا أن الكتابة عن التصوف قد أخذتني لعدة أسابيع ...
ولما أطلت وأهلت الذكرى العطرة للسيدة زينب رضي الله عنها وجدت أنه من المناسب لأن أكتب بعض السطور لتكون قطرة في بحر فضل السيدة الطاهرة، ورشفة من طوفان الحب الجارف الذي يغمر قلوبنا تجاهها.
إن المحبة التي يلقيها الله في قلوب الخلق لعبد من عباده هي من علامات المحبة من الله، فما بالك إذا استمرت هذه المحبة سنوات بل وعقود ثم قرون تتوارثها الأجيال؟ لا شك أن هذا له دلالة عظيمة يراها بوضوح أهل الفهم والذوق ويحجب عنها أهل الجفاء والشقاق.
والذي يقف متأملًا يرى أن السيدة زينب رضي الله عنها قد جعل الله لها من المحبة في قلوب المسلمين ولا سيما أهل مصر الذين تشرفوا وتشرفت بلادهم بقدوم هذه الثمرة اليانعة من ثمار الشجرة المحمدية إلى المحروسة، جعل لها محبة توارثتها الأجيال متمسكين بحبها وحب آل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، عارفين بفضلهم، رافعين رايات الموالاة والنصر لهم، متقربين بذلك إلى الله، حافظين به مودة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
إن نسب السيدة زينب نسب لا يشبهه نسب آخر؛ فهو نسب فريد، فجدها رسول الله، وجدتها أم المؤمنين وسيدة نساء العالمين خديجة، وأبوها أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب، وأمها الزهراء البتول بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وشقيقاها الإمامان الحسن والحسين، سيدا شباب أهل الجنة، وعمها هو جعفر بن أبي طالب الشهير بالطيار، الذي قطع ذراعاه في سبيل الله فأبدله الله بهما جناحين يطير مع الملائكة في الجنة.
وكما كان النسب فريدًا كانت الحياة والسيرة، فقد رأت السيدة في حياتها من الأحداث ما يثقل عن حمله شوامخ الجبال، إلا أن سليلة بيت النبوة، ووارثة أهل العزم والفتوة قد أعطت درسًا في الصبر والثبات وصدق العهد مع الله لا بد أن يكون مثلًا لأصحاب الهمم العوالي من أهل الإقبال على الله.
وجدير بنا هنا أن نتوقف لحظات لنفهم أن ما نحن فيه من تخبط وما نشكوه من حالة التيه التي أصابت الغالبية من شبابنا إنما هو لغياب قيمة القدوة في حياتنا .. فإلى من تتطلع أعين الشباب اليوم؟ ومن هم المثل القدوة لهم؟
إذا أجبنا عن هذا السؤال عرفنا لماذا وصل الشباب إلى ما نراه .. فلو أن فتاة قد جعلت من سيرة السيدة زينب وعزمها وصبرها وثباتها مثلًا وقدوة لكان لهذا الاقتداء شأن في رفع الهمم وتقوية العزائم.
نعود إلى الكريمة الطاهرة التي كثرت ألقابها حتى صارت علمًا عليها، فإذا قلت السيدة انصرف ذهن السامع إلى السيدة زينب دون جهد، بل عرف بها المكان، فالحي باسمها، والميدان الذي يطل عليه مسجدها معروف بها، فلها حظ من ميراث جدها، فقد رفع الله له ذكره، فبه شرفوا ورفع ذكرهم على ألسنة الخلق، ورفع قدرهم عند الحق.
وقد ولدت السيدة في السنة الخامسة من الهجرة بالمدينة المنورة، وقد أدخل مولدها السرور على قلب جدها صلى الله عليه وآله وسلم، وما أن مرت السنون حتى رأت جدها صلى الله عليه وآله وسلم على فراش المرض، ثم ما لبث أن فارق الدنيا متشوقًا إلى الرفيق الأعلى، وتعيش زينب الحدث، وترى أمها الزهراء وقد هزها المصاب، وكيف لا؟ ومن أصيب بفراق أصعب من فراق الزهراء لأبيها؟ يطل الحزن ويخيم على بيت النبوة، وتعيش زينب هذا الحزن مع شقيقيها الإمامين الحسن والحسين، وتمر الأيام والأسابيع القلائل ولا ترى زينب أمها باسمة بعد فراق أبيها رسول الله، ومشهد الوداع لا يفارق عينيها. إلا أن القدر قد خبأ لها وداعًا آخر سريعًا لم يكن في حسبانها، فقد لحقت أمها الزهراء برسول الله، وتبكي زينب ويبكي أخواها وحق لهم أن يبكوا، ففراق الأم الحنون سيدة النساء فراق ليس له عزاء، ثم ترى أباها الإمام يقف عند قبر أمها مودعًا قائلًا: (سلام عليك يا رسول الله، وعلى ابنتك النازلة في جوارك، والمسرعة للحاق بك .. قَلَّ يا رسول الله عن صفيتك صبري، ورق عنها تجلدي، إلا أن في التأسي بعظيم فرقتك وفادح مصيبتك موضع تعز .. إنا لله وإنا إليه راجعون، فلقد استرجعت الوديعة، وأخذت الرهينة، أما حزني فسرمد، وليلي فمسهد إلى أن يختار الله لي دارك التي أنت بها مقيم .. والسلام عليكما ... سلام مودع لا قال ولا سئم، فإن انصرف فلا عن ملاله، وإن أقام فلا عن سوء ظن بما وعد الله الصابرين).
وهكذا تجد زينب وهي في طفولتها، تجد نفسها وقد فقدت الأم الحنون بعد رسول الله بأشهر قليلة، فتحمل أعباء الأمومة وهي في السادسة من عمرها، فتودع طفولتها وتتحمل مسؤليتها وتعيش أحداث الأمة بجوار أبيها الإمام الكرار وأخويها الحسن والحسين عليهم جميعًا سلام الله.
وتنشأ زينب في رحاب أبيها ورفقة شقيقيها في أنوار بيت النبوة على ما يليق بهم من طاعة واستقامة وعلم وورع ..
وبعد سنوات تتخطى زينب مرحلة الطفولة ويبدأ خيرة شباب الأمة في التسابق لخطبة أشرف فتيات المسلمين حسبًا ونسبًا ودينًا وتقوى، فاختار لها أبوها أفضل شباب المدينة نسبًا وخلقًا، اختار لها ابن أخيه عبد الله بن جعفر بن أبي طالب الذي كان من أشد آل البيت جودًا وكرمًا حتى قال له الإمامان الحسن والحسين رضي الله عنهما : (قد أسرفت في بذل المال). فقال رضي الله عنه: (بأبي أنتما وأمي، إن الله عودني أن يفضل علي، وعودته أن أفضل على عباده، أخاف أن أقطع العادة فيقطع عني). فيالها من زيجة مباركة جمعت فرعين كريمين من فروع بني هاشم.
وقد أثمر هذا الزواج المبارك عن ذرية مباركة، فأنجبت عليًّا وعونًا الأكبر الذي استشهد مع الإمام الحسين في كربلاء وأم كلثوم وعباس ومحمد، وقد ورد أنه لما بلغ عبد الله بن جعفر استشهاد ابنه في كربلاء قال : (الحمد لله، أعزز علي بمصرع الحسين، إن لم أكن قد واسيت الحسين بنفسي فقد واسيته بولدي).
وقد كان استشهاد ولدها مع أخيها الإمام في كربلاء حلقة من سلسلة البلاء والصبر الذي عاشته السيدة الطاهرة.
فبعد أن عاشت السيدة الطاهرة حياتها مستقرة في مدينة جدها صلى الله عليه وآله وسلم، انتقلت إلى الكوفة بعد أن تولى أبوها الخلافة ونقل مقر إقامته إلى هناك.
وبدأت الفتن تطل برأسها، وخرج على الإمام من خرج، فكانت (الجمل)، ثم (صفين)، ثم (النهروان)، وزينب تعيش هذه الأحداث التي ترى فيها أباها وشقيقيها وزوجها.
فما لبثت أن عادت الأحزان لتطل عليها برأسها معيدة إليها ذكريات فراق الجد الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم، والأم الحنون السيدة الزهراء البتول، فقد استشهد أبوها الإمام بعد أن ضربه أحد الخوارج لعنه الله على رأسه الشريف بالسيف وهو بباب المسجد في صلاة الصبح، لتتحقق بشرى النبي له بالشهادة، حيث سأله (من أشقى الأولين يا علي؟) فقال : (الذي عقر الناقة يا رسول الله) أي ناقة صالح عليه السلام. فقال الرسول : (صدقت). ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم : (ومن أشقى الآخرين يا علي؟) فقال الإمام : (الله ورسوله أعلم). فقال النبي : (الذي يضربك على هذه -وأشار إلى رأسه- فتخضب هذه) وأشار إلى لحيته.
تجددت آلام الفراق، واحتجزت زينب أحزانها، فها هو مسلسل الابتلاء يتواصل، وهي كالطود الشامخ تواجه آلامها بالصبر، وتقف خلف شقيقيها كالأم الحانية على أولادها في ثبات وصبر نادرين، ولكن الشيء من معدنه لا يستغرب، وكل إناء بما فيه ينضح .. يتبع