ما زلنا مع ريحانة البيت النبوي، الطاهرة، الكريمة، العقيلة، أم هاشم، ألقاب وألقاب، لعل أن يدرك المتكلمون بعض فضلها، ولكن هيهات. قلنا أن مسلسل الأحزان قد أتى بفصل جديد من فصوله، فقد استشهد الإمام علي أمير المؤمنين، ولم تكن هذه المصائب التي تنـزل بزينب رضي الله عنها إلا إعدادًا وتهيئة لها لتتلقى بل وتعاين وتعيش أحداث عاشوراء، يوم كربلاء.
فبعد الإمام علي بايع المسلمون الإمام الحسن، إلا أنه يحقق بشرى جده صلى الله عليه وآله وسلم ويتنازل عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان حقنًا لدماء المسلمين وإصلاحًا بين طائفتين كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومع ذلك يدس له السم في طعامه عليه سلام الله، ويبقى مريضًا أيامًا ويدخل عليه الإمام الحسين ويجلس عند رأسه فيقول: من تتهم يا أخي؟ قال: لمَ؛ لأن تقتله؟ قال: نعم. قال الإمام الحسن: إن يكن الذي أظنه فالله أشد بأسًا وأشد تنكيلًا، وإن لم يكن هو فما أحب أن يقتل بي بريء .. ويموت رضي الله عنه ويدفن بالبقيع وقبره بها معروف، وذلك بعد أن منع مروان بن الحكم الإمام الحسين من دفنه بجوار جده كما أوصى الحسن بذلك.
ويموت معاوية بعد أن أخذ البيعة ليزيد ولده نقضًا لعهده مع الإمام الحسن في أن يعود الأمر للمسلمين ليختاروا من أرادوا للخلافة، ولكن البيعة قد أخذت عنوة، فلما مات معاوية وأفضت الخلافة إلى يزيد أرسل إلى واليه على المدينة ليأخذ البيعة، فأبى الإمام الحسين وعبد الله بن الزبير، وخرجا ليلًا إلى مكة.
ويبقى الإمام الحسين بمكة عدة شهور ومعه أهل بيته ونسائه، فكتب إليه أهل الكوفة كتابًا يستنجدون به، ويطلبون منه السير إليهم، فأرسل الإمام ابن عمه مسلم بن عقيل، فأخذ عليهم البيعة للحسين رضي الله عنه، إلا أن يزيد بن معاوية أرسل عبد الله بن زياد إلى الكوفة فصال وجال وقتل جماعة من أهلها وظفر بمسلم بن عقيل فقبض عليه وقتله. ويخرج الإمام الحسين ومعه جميع أهله وولده وخاصته، وزينب في ركاب أخيها الحبيب بعد أن أذن لها زوجها وابن عمها عبد الله بن جعفر بن أبي طالب في صحبة الإمام الحسين.
ويحاول عبد الله بن عباس أن يثني الإمام الحسين عن السير حتى قال له: والله، لو أعلم أني لو أخذت بناصيتك وأخذت بناصيتي حتى تجتمع علينا الناس أطعتني وأقمت لفعلت. ويلقى الحسين في طريقه أبا فراس الفرزدق وينصحه كذلك بعدم السير إلى الكوفة إلا أنه ما كان لابن رسول الله أن يخذل قومًا استجاروا به من ظلم أميرهم وطغيان ملكهم.
وجرى ما جرى من أحداث حتى وصل الإمام وأهله ومواليه إلى كربلاء، فكتب عبد الله بن زياد إلى الحسين كتابًا يقول فيه: أما بعد، فإن يزيد بن معاوية كتب إلي أن لا تغمض جفنك من المنام، ولا تشبع بطنك من الطعام، إما أن يرجع الحسين إلى حكمي أو تقتله والسلام). فلما ورد الكتاب إلى الإمام الحسين ألقاه من يده وقال للرسول: ما له عندي جواب.
وخرج جيش عبد الله بن زياد ووصلوا إلى حيث نزل الحسين وأهله، وحالوا بينه وبين الفرات، فضاق الامر عليه وعلى أصحابه واشتد بهم العطش.
وتستمر أحداث فاجعة كربلاء، فلا بد أن نقف عندها لنتأمل، فالأمر لا يمكن أن يمر كقراءة في التاريخ، ولكن لا بد أن نتذكر ونحن نقرأ هذه الأحداث من هؤلاء الذين تجري عليهم هذه الأحداث، إنهم أهل بيت النبوة الذين أمرنا الله ورسوله بحبهم والتمسك بهم، فإذا بنا نخذلهم ونتخلى عنهم ونقتلهم.
لا بد أن نتأمل لنرى إلى أي مدى يمكن أن يصل الإنسان في حبه للملك والسلطة، فمن أجل هذا السلطان قتل أصحاب الملك عترة النبي وأبناءه.
وتعيش زينب رضي الله عنها الحدث، وترى الإمام الحسين وأبناءه وأبناء الحسن وأبناءها قتلى وصرعى، فأخذت تنشد رضي الله عنها :
ما تقولون إن قال النبي لكم ما فعلتم وأنتم آخر الأمم
بعترتي وحريمي بعد مفتقدي منهم أسارى وقتلى ضرجوا بدم
ما كان هذا جزائي إذ نصحت لكم أن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي
وأخذت زينب تحاول أن تلقي نظرة أخيرة بعينها المليئة بالدموع، نظرة تودع فيها الإمام الحسين، فخانتها قواها فأغمضت عينيها وودعته بروحها.
وحمل نساء أهل البيت أسرى، ومر الركب بجثث الشهداء، فلما وقع بصر السيدة الطاهرة على الجسد الشريف صرخت وهي تقول: (يا محمداه، يا محمداه، صلى عليك الله وملائكة السماء، هذا الحسين بالعراء، مزمل بالدماء، مقطع الأعضاء .. يا محمداه، وبناتك سبايا، وذريتك مقتلة). ثم رفعت رأسها وبصرها إلى السماء محتسبة وهي تقول: (اللهم تقبل منا هذا القليل من القربان).
عجبا لكم يا آل البيت، تقدمون الشهيد تلو الشهيد، وتجودون بأطهر الأرواح، وتعدون هذا قليلًا.
ووصل الركب إلى الكوفة، ولما رأت زينب بكاء أهل الكوفة وقفت تخطب فيهم، وتفجرت من بين جوانبها بلاغة جدها، وفصاحة أبيها، وشجاعة أخيها وهي تقول فيما قالت: (ويلكم يا أهل الكوفة، أتدرون أي كبد لرسول الله فريتم؟ وأي كريمة له أبرزتم؟ وأي دم له سفكتم؟ وأي حرمة له انتهكتم؟ لقد جئتم شيئًا إدًّا، تكاد السماوات يتفطرن منه، وتنشق الأرض، وتخر الجبال هدًّا .........). ولما انتهت فإذا بكلماتها تزلزل كيان السامعين، وتظهر شنيع الجرم الذي وقع فيه من قتل ومن خذل.
وتتجلى شجاعة السيدة زينب في مواجهة عبد الله بن زياد بالكوفة، شجاعة يفتقدها كثير من الرجال في مواجهة حاكم ظالم، أو سلطان جائر، فلما قال لها شامتًا: كيف رأيت صنع الله بأهل بيتك؟ أجابته رضي الله عنها: كتب الله عليهم القتل، فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم، فتحاجون الله فتختصمون عنده، فانظر لمن الفلج (الفوز) يومئذ.
وهكذا تتوالى الأحداث وأهل بيت النبوة يظهرون في كل محفل كمالات الأخلاق، وكيف لا وهم ورثة سيد الخلق وحبيب الحق صلى الله عليه وآله وسلم.
ويحمل الركب إلى الشام، وفي مواجهة يزيد، وتظهر زينب مثل ما أظهرت من صبر وشجاعة في مواجهة عبد الله بن زياد، فما أن رأت يزيد وهو يعبث بثنايا أبي عبد الله الحسين فانفجرت في وجهه قائلة: أظننت يا يزيد وقد أخذ علينا بأطراف الأرض وأكناف السماء فأصبحنا نساق كما يساق الأسارى أن بنا هوانًا على الله، وبك عليه كرامه؟ أنسيت قول الحق: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) [آل عمران: 178].
مواجهات يظهر فيها معدن أهل البيت، ويبرز منهم من معانى الصبر والفصاحة والقوة ما يليق بهم رضي الله عنهم.
ويحمل الركب إلى المدينة، وفي وداعهم يعرض يزيد على السيدة أموالًا كثيرة فتقول رضي الله عنها: (يا يزيد، ما أقسى قلبك !! تقتل أخي وتعطيني المال، والله لا يكون ذلك أبدًا).
وتسير إلى المدينة، وما أن أشرفت القافلة على المدينة حتى لقيها أهلها في سواد الحداد بالبكاء والنحيب، وتقدمت السيدة بعد أن أناخ الموكب بباب مسجد رسول الله فتقدمت السيدة فوقفت أمام جدها تقول: السلام عليك يا جداه، إني ناعية إليك ابنك الحسين.
فما لبثت السيدة زينب إلا قليلًا ثم هبت من سكونها ونفضت عن نفسها غبار الحزن وأخذت تدعو الناس إلى مقاومة الظلم والقهر والطغيان.
فجاء الأمر إلى الوالي أن أخرج زينب من المدينة، ومع عجب هذا الأمر -فكيف تطرد من مدينة جدها- فإن هذا كان من حظ أرض الكنانة، فبعد أن خيرت في الجهة التي تسير إليها اختارت مصر.
تشرفت مصر بقدومها، وظلت بينهم منارة للهداية، ودفنت بمقامها المعروف في الحي الذي سمي باسمها .. وما زال مقامها مزارًا للمحبين لها ولآل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم.