نسخة تجريبيـــــــة
الصدقات وترتيب أولويات الأمة في ضوء كلمات فضيلة المفتي

لقد جعل الله في هذا الدين وفي هذه الشريعة آليات ذاتيه تجعل للمجتمع إمكانية تنمية ذاته وتغيير توجهاته بما فيه صالح الفرد والجماعة مع الحفاظ على ثوابت العقيدة والعبادة.
فعندما شرع الله الزكاة، وحث بعدها على الصدقات جعل للزكاة مصارف متعددة، ثم فتح بعد ذلك باب الصدقات والصدقة الجارية لتشمل جميع أوجه الخير، بما يوصل النفع للفرد والمجتمع.
وعند التعامل مع هذه الفريضة أي الزكاة لا بد أن نفهم أنها إنما جاءت لتعمق معنى التكافل والإحساس بالمسئولية تجاه الغير، فالله سبحانه قادر على أن يرزق كل إنسان بما يكفيه دون أن يحتاج هذا الإنسان إلى عطاء غيره، إلا أن الحكمة الإلهية جعلت التواصل والتكافل بين أفراد المجتمع أمرًا ضروريًّا تنشأ عند وجوده مودة ورحمة بين الناس، وجعل بذل المال لغير المحتاج من أعظم القربات التي يضاعفها الحق سبحانه أضعافًا مضاعفة فقال:
(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة: 261]، والآيات والأحاديث التي تحث على البذل والإنفاق أكثر من حصرها في هذا الموضع.
فإذا تأملنا هذا التدرج في مسألة الإنفاق نجد أن المستوى الأول يعاقب الإنسان على عدم أدائه وهي الزكاة المفروضة، وبهذا تبدأ مسألة تهذيب النفس وتدريبها على الإنفاق والبذل للغير ولو خوفًا من العقاب، ثم إذا تعودت النفس وترقت كان أمر الاختيار في التصدق على أهل الحاجات، ثم ترتقي النفس في حب التقرب إلى الله ببذل ما في حوزتها فتتخير المحبب إليها فما تملك لبذله في سبيل الله مصداقًا لقوله:
(لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) [آل عمران: 92]. 
ولكن مع تنمية هذا الشعور في قلب المؤمن برغبته في البذل والإنفاق نحتاج إلى آلية لتناول هذه الصدقات لتوجيهها إلى ما يصل به النفع إلى المجتمع بما يسمى في الاقتصاد بتعظيم النفقة.
ولقد كان هذا الأمر في الصدد الأول للإسلام يسيرًا يتم عن طريق بيت المال، إلا أنه قد أصبح في زمننا أكثر تعقيدًا يحتاج إلى تضافر جهود علماء الدين والاقتصاد والاجتماع والطب إلى آخر التخصصات التي يمكن أن تساهم في وضع أولويات المجتمع في ورقة عمل ثم وضع آليات الانتفاع من أموال الصدقات لتعظيم المنفعة منها بما يلائم حاجات هذا المجتمع.
وهنا لا بد أن يتم أولًا إعادة ترتيب أولويات الأمة كما أشار إلى ذلك فضيلة المفتي حفظه الله في أحد البرامج المرئية، عندما قال أن العقلية المسلمة قد حصرت عند الرغبة في مجال الصدقة الجارية في بناء المساجد أو طباعة المصاحف.
نحن في زمن احتياج الأمة فيه أكبر وطموحها يجب أن يكون أعلى من أن نحصر الإنفاق في سبيل مياه على روح فلان، أو زاوية تحت عمارة، أو حتى هذا الكتيب الذي يضم بعض سور القرآن الذي يوزع في المآتم، فأنا عندي منه العشرات في بيتي وقطعًا كلكم مثلي فهل سوف نقرأ في جميع هذه المصاحف وأجزاء المصاحف حتى يتحقق معنى الصدقة لروح المتوفي.
وهنا يظهر أننا نحتاج حقيقة إلى إعادة توجيه لعقل الأمة الإسلامية .. فإننا ننساق في هذه الأمور كما ننساق في غيرها فنقلد وكأنها موضة. فقد بدأت هذه الكتيبات فصارت عرفًا في جميع المآتم تقريبًا، ثم بدأ أهل الخير في بناء دور الأيتام، وهذا من الأعمال النبيلة الجليلة، ولكنها قد تحولت إلى حمى، فصارت دور الأيتام بالعشرات، ولا أستطيع أن أجزم أن المجتمع قد وصل إلى حالة التشبع حيث إنني لا أملك إحصاءات، إلا أنني أجزم أن هذا الأمر كغيره لا يخضع لتخطيط أو تنسيق من الجهات المعنية بهذا الأمر أو من الأفراد القائمين بهذا العمل النبيل.
إن مجتمعنا الإسلامى وخاصة في بلد مثل بلدنا الحبيب يواجه تحديات وأزمات تحتاج إلى وقفة صادقة من الكل، الحاكم والمحكوم، نحتاج إلى استحضار معنى الإيمان الحقيقي الذي يحرك معنى المسئولية تجاه الغير وتجاه الأمه لنقف بإخلاص للخروج من هذه الأزمة التي نعيشها.
إن مجتمعنا يعاني من الفقر، والبطالة، وتدني مستوى الخدمات وعلى رأسها الطبية التي أصبحت كارثة حقيقية في مصر سواء من الناحية العلمية أو الأخلاقية مع احترامي للأطباء الذين لم يتحولوا إلى التجارة بصحة البشر واحتفظوا بشرف المهنة وميثاقها أمام هذا الفساد الجارف، كما أننا نعاني من ضعف مستوى علماء الدين، فحال الخريجين من الأزهر الشريف كما نعلم جميعًا، وهؤلاء العلماء من المفترض أنهم هم الذين يقودون ضمير الأمة.
فإذا وضعت هذه الصورة المتكاملة أمامك، فقراء لا يجدون قوت يومهم، مرضى لا يتم علاجهم أو يعالجون بصورة خاطئة مع استنزاف مواردهم المحدودة، شباب لا يعمل، علماء دين محدودو الفكر والعلم، فإلى أين نظن أن المجتمع يمكن أن يصل؟
وهنا أقول أننا بحاجة إلى مؤسسات ضخمة يتم تأسيسها بصورة علمية من الناحية الإدارية، استثمارات تدر عائدًا أو شركات توجه أرباحها إلى أوجه الخير التي تحدد في عقود إنشاء هذه الشركات وبناءً على الأولويات التي تحددها هيئة من علماء المسلمين ومعهم أهل التخصص في المجالات المختلفة لسد الفجوات في مجال الصحة والتعليم والبحث العلمي وكفالة طلبة العلم الشرعي إلى غيره من المجالات التي تفتقر الأمة فيها.
أي أن الشخص الذي يريد أن يتصدق سوف يملك سهمًا في هذه المؤسسة لكن يوجه عائده إلى المجال الذي سوف تنشأ من أجله المؤسسة، وهذه هي فكرة الوقف الإسلامي ولكن بشكل يتناسب مع العصر الذي نعيش فيه.
وهنا يأتي دور رجال الأعمال في التعاون في هذا المجال، بحيث يتخيرون المجالات التي يرونها مناسبة من حيث تعظيم العائد ويشرفون على إنشاء هذه الشركات وإدارتها لضمان نجاحها بما لديهم من خبرة في إدارة الأعمال.
إن أعظم الجامعات والمستشفيات في الغرب تقوم على هذه الفكرة، والتي تسمى Fund، وهي فكرة الوقف الإسلامي في صورته الحديثة كما ذكرت في بداية المقال، ونحن أولى منهم بذلك.
ولتحقيق ذلك لا بد من تعميق معنى التعاون بين أفراد المجتمع مع إيجاد آلية تبعث روح الثقة بيننا بحيث يطمئن كل منا على أن صدقته ستصل إلى المرجو منها. كما يجب علينا أن نتخلص من حب الشهرة، فليس من الضروري أن يوضع اسمي على لوحة الشرف كي أساهم في هذا الأمر فالله قد أمرنا بالإنفاق سرًّا وعلانية.
ولنجاح هذا المشروع فلاغنى عن التخصص، بحيث يتخصص كل مشروع إما بحسب المجال الذي يقوم بتمويله أو بحسب المنطقة الجغرافية التي يعمل بها، وأن يتم التنسيق عن طريق الهيئة العليا التي تقوم بوضع الأولويات التي يحتاجها المجتمع بحيث لا يحدث ازدواجية أو تضارب بين التخصصات التي ترعاها الشركات أو الأوقاف المختلفة.
وإن الله تعالى يقول:
(وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [المائدة: 2]. 
وهذا التعاون يحتاج إلى فهم احتياجات الأمة وأولوياتها حتى لا نهدر مواردنا .. ولقد حبى الله مصر في هذا الزمن رجلًا ذا عقلية مستنيرة وسريرة خالصة وتوجه صادق لله تعالى، مع غزارة علم وقوة شخصية.
وهوفضيلة الإمام الدكتور/ علي جمعة حفظه الله، ولا يضر في ذلك أن يتطاول عليه من يرى في نفسه علمًا أو تسول له نفسه أن يخوض فيما ليس له به علم.
ولذا فإن تعاون أهل الخير والفضل والعلم مع فضيلته لا شك سوف يكون له أثر عظيم في توجيه الأمة إلى ما فية خيرها، وفي استنارة عقلية المسلم ليرى أولوياته ويفهمها ويسير إلى تحقيقها بما يساهم في صلاح المجتمع بتوفيق من الله تعالى.

الشيخ: أكرم عقيل

التقييم الحالي
بناء على 79 آراء
أضف إلى
أضف تعليق
الاسم *
البريد الإلكتروني*
عنوان التعليق*
التعليق*
البحث