مر العام سريعًا بأحداثه المتلاحقة، بخيره وشره، بحلوه ومره، وها هو شهر رمضان المحبب لقلب كل مؤمن تهب علينا نسماته لتطيب قلوبنا وتحركها شوقًا لبارئها سبحانه وتعالى.
وقد آثرت أن أكتب عن رمضان قبل دخوله بعدة أيام عسى الله أن يجعل في هذه الكلمات المتواضعة الأثر في تحريك القلوب ورفع الهمم للإقبال على الله مع بداية موسم من أفضل مواسم الخير والعطاء، وأن نكون في هذا الشهر من الذين تهيئوا للتعرض لنفحات الله المتواصلة والمتضاعفة في أيام وليالي شهر رمضان الكريم.
بداية نريد أن نقف مع لمحة إيمانية في معنى تجدد مواسم الفضل والعطاء، وتعاقب أوقات القرب والوصال، وهذا نراه في فرضية العبادات التي تتكرر وتعود على المؤمن أوقاتها إما في اليوم والليلة، أو في الأسبوع أو في العام.
فالصلاة تتعاقب أوقاتها في اليوم والليلة وهي من أعظم العبادات وأفضلها وهي مكفرات للذنوب، فقد شبهها الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم بالنهر الذي يجري بباب أحدنا نغسل فيه أوساخنا، وانظر إلى تعبير الحبيب الذي أوتي جوامع الكلم، فقد أشار إلى أن هذا بباب أحدنا، وهذا كناية عن شدة قرب الوسيلة المطهرة لنا من ذنوبنا، فما بينك وبينها إلا أن تقوم لها من مكانك لتغسل ذنوبك بالوقوف بين يدي ربك.
ثم نرى صلاة الجمعة تطل علينا مرة في كل أسبوع، في يوم هو عيد لنا، وهذا لما فيه من خير وعطاء وإجابة، وكأن هذا اليوم وما فيه من شهود الجماعة التي أمر الله أن نترك كل شيء لتلبية النداء، حتى أنه قد حرم البيع بعد النداء الثاني يوم الجمعة، لما لهذا الوقت من حرمة عند الله، وكأنه يأتي ليجبر خلل الأسبوع، فهو نفحة من نفحات الله.
فإذا مر العام يأتي شهر رمضان الذي نحن بصدد الحديث عنه، فيفتح الله أبواب رحمته لمن أراد أن يقبل عليه، فيضاعف الأعمال، ويعتق الرقاب، ويغفر الذنوب والآثام، ولا عجب في أن نرى من أحوال المسلمين في رمضان ما لا نراه في غيره، لأن الله سبحانه وتعالى جعل لهذا الشهر خصوصية في الفضل والعطاء، فكذلك نرى في أحوال المسلمين فيه خصوصية في الطاعة والاجتهاد. نعم، إن حق الله علينا أن نعبده على الدوام إلا أن الله قد فضل بعض الأيام على بعض، ففي هذه الأيام يقبل الناس عليه لينالوا من فضل هذه الأيام، كما فضل بعض الأماكن على بعض، ففي هذه الأماكن نرى الناس ذاكرين، قائمين، راكعين، ساجدين.
إلا أننا يجب أن نقف وقفة مع الثمرة المرجوة من هذه الأعمال، فهناك من يدخل بطلب الأعمال لذاتها وللأجر منها، وهذا مطلوب لا بأس به، فمن منا لا يرجو العطاء والأجر من الله، ولكن الله قد بين لنا أن الثمرة المرجوة من هذا الشهر ومن فرضيته الصيام فيه ليست فقط الثواب والأجر على الأعمال، ولكنها ثمرة يستمر أثرها مع المسلم في حياته كلها إن هو فهم معنى هذه العبادات المرجو منها. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة:183].
فالله سبحانه يبين لنا أن فرضية الصيام في هذا الشهر المبارك يرجى من ورائها ثمرة التقوى .. والتقوى محلها القلوب، أي أن هذه العبادة البدنية يرجى من ورائها ثمرة قلبية، فإذا انقضت العبادة ومرت أيامها بقي أثرها ودامت ثمارها.
ومن هنا يجب أن نبدأ، والبداية في ألا يدخل علينا هذا الشهر إلا ونحن قد تهيأنا لطلب الأثر من العبادة.
نعم، يجب أن نضع لأنفسنا أهدافًا لنسعى إليها، لا يدخل علينا عيد الفطر إلا ولنا مع الله أحوال غير التي بدأنا بها رمضان.
وكما أقول دائمًا لا يكون هذا إلا بالصدق مع النفس .. فلينظر كل منا من الآن في مرآة نفسه، وليخلع كل منا الأقنعة التي يتجمل بها أمام الناس، وليظهر لنفسه الوجه الذي لا يعرفه إلا رب الناس، وليعرض أخلاقه وأحواله وأقواله وأفعاله على القرآن، وعلى القدوة والأسوة الحسنة صلى الله عليه وآله وسلم.
فإذا بدأنا هذه البداية الصادقة دخلنا إلى هذا الموسم العظيم، وقلوبنا متعلقة بالله راجين منه سبحانه أن يعيننا على أنفسنا لنعرف كيف نتزكى ونترقى في كل يوم وفي كل ليلة من ليالي هذا الشهر الفضيل.
بهذه المعاني ومثلها يجب أن نتهيأ لشهر رمضان، أما ما نراه في بيوتنا من انشغال بالاستعداد لرمضان بألوان وأصناف الطعام إلى حد يصل إلى الإسراف، حتى أن الدولة بأجهزتها تضطر أن تستعد استعدادًا خاصًّا، حيث إنه من العجب أن الشهر الذي جعله الله للإمساك عن الشهوات، ولتدريب النفس كي تنخلع من طور الكثافة وترتقي إلى معاني اللطافة والروحانية، في هذا الشهر يزداد استهلاك البيوت. ما نراه يبين لنا أننا قد غبنا غيابًا كاملًا عن روح هذه العبادة والأثر المرجو منها.
إن هذا الإشراف هو من أهم المظاهر السلبية التي يجب أن يتخلص منها المسلم في سلوكه الرمضاني إذا أراد أن يطلب هذه الثمرة، فما معنى أن نمسك عن الطعام والشراب في نهار رمضان، ثم نأكل في ليله أضعاف ما نأكل في أيامنا الأخرى في غير موسم الصيام.
نعم، إن هذا لا يقدح في صحة الصيام ولا يفسده، ولكننا قد اتفقنا على أن نبحث عن الأثر، وتقوى القلب لا يرثها إلا عبد له حكم على شهواته، وله سطوة على عاداته.
ومن السنن السيئة التي على فاعلها وزرها ووزر من عمل بها ما يسمى بالخيم الرمضانية، وهى لا يربطها برمضان إلا اسمها، فكيف نرجو ثمرة من صيامنا ونحن نتصور أن الصيام عن الطعام والشراب، فإذا انقضى نهار رمضان قضينا ليله في لهو أو في لغو، إن رمضان موسم إعداد للمسلم؛ يصوم نهاره، ويقوم ليله، لا يلهو فيه ولا يلغو حتى يحفظ على نفسه وعلى قلبه أثر الصيام والقيام وقراءة القرآن.
ومما نستعد به كذلك لهذا الشهر أن نراجع أنفسنا في صلتنا بأرحمنا، فقبل أن ندخل إلى هذا الشهر الكريم، ونحن نقف أمام مرآة النفس، فلنعرض صلتنا بآبائنا وأمهاتنا وذوي أرحامنا على كتاب الله وسنة رسول الله، ولندع الأهواء والكبر والعناد جانبًا، ولنسأل أنفسنا عما يرضي الله ورسوله، ولنبدأ نحن بالصلة، فليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل من إذا قطعت رحمه وصلها كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إن الله قد أنعم علينا أن أمهلنا عامًا آخر وبلغنا رمضان آخر -نسأل الله أن يبلغنا رمضان- فهل لنا أن نشكر الله على هذه النعمة، فنأخذ بثمارها ونقبل على الله بقلوب صادقة طامعة راجية، لنطلب معاني التقوى، ونأخذ بأسبابها.
فلا نخرج من رمضان إلا بقلوب قد تزكت في هذا الشهر، ونطلب فيه الخلاص من الشقاق والنفاق وسوء الاخلاق.
إن رئيسًا أو أميرًا أو وزيرًا لو دعانا لبابه لرأينا هذا الشرف العظيم، فإذا بنا وقد دعانا الملك الحق المبين الى أعتاب فضله وأبواب عفوه، فهل من مجيب؟