نسخة تجريبيـــــــة
كيف نعد لرمضان ونتهيأ له

في المقال السابق تكلمت عن استقبال شهر رمضان وها هو قد بقي يوم أو يومان على حلول هذا الضيف الكريم الذي سنجلس بعد أيام لا نشعر بمرورها، فنتحسر على سرعة انقضائه وتفلته من بين أيدينا.
وأردت أن أعيد الحديث عن استقبال الشهر؛ لأنه من فطنة المؤمن أن يغتنم مواسم الخير، ليعوض ما فاته ويجبر خلل أعماله.
إن الله يبسط موائد الفضل والعطاء المتنوع في أيام وليالي رمضان ليقبل على هذه الموائد من يقبل وينال منها من ينال، فيضاعف الحسنات ويغفر الزلات، ويعتق الرقاب إلى آخر الخيرات التي يفتح الله أبوابها لعباده في هذا الشهر.
ولذا فمن الفطنة وحسن الفهم أن يقف المؤمن مع نفسه اليوم وقبل بداية هذا الشهر ليعرف كيف سيدخل إلى رمضان، بأي نية وعزم سيبدأ هذا الشهر، وبأي حال سوف يخرج منه.
فعلينا جميعًا أن نبادر بالتوبة إلى الله، ولا أقصد بذلك أن نردد بألسنتنا ما تعودنا عليه عند التوبة وهو قولنا (أستغفر الله العظيم، تبت إلى الله، ورجعت إلى الله، وندمت على ما فعلت، وعزمت على أني لا أعود إلى المعاصي، وبرئت من كل قول أو فعل أو دين يخالف دين الإسلام). هذه الصيغة المعتادة للألسن تحتاج إلى حقيقة التوجه إلى الله.
نعم، يجب أن نبادر بالتوبة، ولكن توبة نستشعر معها عظمة الله الذي نفرط في استجابتنا لأمره، ونتهاون في اجتناب ما نهانا عنه.
إن التوبة تبدأ بتعظيم الله في القلب، فإذا عظمنا الله وشعرنا بجلاله في القلب كانت الخشية، خشية من أن يراك حيث نهاك سبحانه وتعالى، أو أن يرى منك تهاونًا بما أمرك به سبحانه.
فمع هذا التعظيم يشعر الإنسان بالندم على التفريط في حب الله، فها نحن على أبواب شهر تعتق فيه الرقاب من النار، فيجب أن نبادر بتوبة ورجوع وندم وعزم ، حتى يفتح الله لنا ويقربنا إليه.
ومع هذه التوبة من جانب العبد فيجب على العبد أن يلح على ربه في الدعاء ليتوب سبحانه عليه، إذ إن التوبة توبتان، توبة من العبد إلى الله، وهي توبة قد يرجع بعدها، وتوبة من الله على العبد وهي توبة يتجلى بها الله على عبده فيكرمه بتوبة كاملة نصوحًا يقلع بها عن المعاصي فينقله من ذل المعصية وهوانها إلى عز الطاعة وكرمها.
وفي هذا المعنى يأتي قوله سبحانه: (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [سورة التوبة: 118] ولذا جاء رجل الي رابعة العدوية رضي الله عنها فقال: (يا رابعة، هل إذا تبت إلى الله تاب الله علي). فقالت رابعة: ( بل إذا تاب عليك تبت). فليكن مع توبتنا إلحاح على الله أن يتوب علينا.
ثم إذا دخلت إلى هذا الشهر بتوبة صادقة فمن المعين لك على حسن الإقبال على الله أن تجد لنفسك صحبة صالحة يعينك على أمر الاستقامة والتصبر على العبادة في هذا الشهر. فالصحبة الصالحة من أهم الأمور التي يجب على العبد أن يبحث عنها، إذ إن الله تعالى يقول:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [سورة التوبة: 119]. إذ إن معية الصادقين تعينه على الصدق والاستقامة.
وكم من أناس نفعتهم صحبة عالم أو عابد أو ولي من أولياء الله، فأعانوهم على أنفسهم، وغيرت أحوالهم وبدلت أوصافهم.
ومن الأمور الهامة في إقبالنا على هذا الشهر، بل وعلى كل عبادة أمرنا الله بها أن نلتمس كما ذكرنا أثر العبادة، لا أن نطلب أجرها فقط .. ففرق بين من يعبد الله طلبًا للعوض على العمل وبين من يعبده طلبًا لرضوانه ومحبته.
وتأمل معنى قول الله في سورة التوبة:
(وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة: 72].
نعم وعد بالجنة والنعيم لمن أراد أن يكون هذا مقصوده، إلا أنه نبه القلوب إلى أن هناك ما هو أكبر من نعيم الجنة ومساكنها الطيبة، ألا وهو رضوانه سبحانه وتعالى، فلا قياس بين المخلوق والخالق، فأين الجنة من رضوانه، وأين النعيم فيها من النظر إلى وجهه الكريم.
ولذا فهناك من يطلب الحسنات، وهناك من يريد أن يرتقي بعبادته في الدرجات .. والترقي في الدرجات يحتاج إلى تغيير وتزكية حتى تتم الترقية؛ أي أن الإنسان يتبدل حاله من حال إلى حال .. يتخلى ويتحلى، يجاهد نفسه ليتخلى عن مذموم عاداته، ويتحلى بكل خلق محمود يرضى عنه الله ورسوله.
وشهر رمضان وما فيه من عطايا الله، لو أدركنا وفقهنا معنى الصيام فيه لخرجنا منه بثمرة التقوى التي يرجوها لنا مولانا سبحانه وتعالى، والتقوى محلها القلب، فعلينا مع بداية الصوم أن نلتفت إلى قلوبنا نفتش فيها لنطهرها من الآفات، وهي كثيرة؛ الحسد، الرياء، الكبر، الشح، حب الدنيا وزينتها، تعظيم الأمراء والاغنياء، احتقار الفقراء، إلى آخر هذه الأمراض التي تملأ القلوب ولا يلتفت إليها أكثر الناس .. فندخل في عبادة تلو الأخرى، ونخرج منها ولا أثر لهذه العبادة على القلب. نعم قد نخرج ببعض الأجر، ولكن أين
(إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء:89].
إن هذا الأثر ألا وهو التقوى هو الذي يعين العبد على استمرار التوبة والاستقامة بعد شهر الصيام، فكم من أناس يصومون ويصلون في شهر رمضان وهم عازمون على الرجوع بعد رمضان إلى ما كانوا عليه قبله من المعاصي، أي استهانة هذه التي تجعل العبد يدخل ويتلبس بطاعة ربه وهو عازم على عصيانه بعد انتهاء هذه الطاعة؟! إن هذا لا يكون إلا من قلوب مريضة غافلة عن ربها. نعم كثير منا قد يرجع إلى بعض المعاصي، ولكن فارق كبير بين من يرجع عن ضعف، و بين من ينوي الرجوع ويعزم عليه.
ترى أناسًا يشربون الخمر، فاذا جاء رمضان صلى وصام، وهو ينوي أن يعود إلى أم الخبائث في بداية أيام شوال .. فليجرب هؤلاء التضرع إلى الله والإلحاح عليه في أن يتوب عليهم، مع إظهار نية ورغبة وعزم منهم على عدم الرجوع إلى المعاصي.
سئل أحد الصالحين فقيل له: (يا سيدي، هل إذا لزمت الباب فتح الله لي)؟ فأجاب: (ومتى أغلق الله بابه حتى يفتح).
إن باب رحمته  مفتوح لعبادة، فهل لنا أن يرى الحق منا حسن التذلل والافتقار والرجوع إلى بساط طاعته وموالاته، عسى أن نخرج من رمضان بحال غير الحال الذي دخلنا به إليه.


التقييم الحالي
بناء على 45 آراء
أضف إلى
أضف تعليق
الاسم *
البريد الإلكتروني*
عنوان التعليق*
التعليق*
البحث