نسخة تجريبيـــــــة
الصيام وتربية النفس وثمار التقوى

الصيام وتربية النفس وثمار التقوى كثير منا بل أكثرنا يدخل إلى عبادة من العبادات ويتلبس بها ويخرج منها وهو لم يعرف لم دخل؟ وماذا يقصد أو يطلب من وراء هذه العبادة؟ .. إن المتأمل في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسيرته يرى الغاية من وجودنا متحققة في هذا الحبيب، ألا وهي معرفة الله عز وجل وعباداته والدعوة إلى دينه سبحانه وتعالى .. فشرع الله لنا دينًا، بلغه لنا على لسان نبيه وفي سلوكه، أي أن النبي بلغنا هذا الدين حالًا ومقالًا .. وجعل الله لنا هذه العبادات لتكون شعارًا على عبوديتنا وانقيادنا لأمره، وجعل الاقتداء والاتباع لهذا النبي صلوات ربي وسلامه عليه هو طريق محبته.
وقد نوع الله لنا العبادات لعلمه بأن النفس تمل من التكرار، قكان تنوع أبواب القرب إليه ملائمًا لهذا التنوع الكبير في طبائع البشر وأحوالهم وبيئتهم وظروفهم .. فجعل الله فرائض واجبة على الكل، بعضها قد يسقط لعارض متعلق بالمكلف كالمرض في الصيام، وعدم الاستطاعه في الحج، وتبقى الصلاة لا تسقط إلا بزوال العقل أو غيابه .. ثم فتح أبواب التقرب بالنوافل كل على قدره، فعدد الأبواب ونوعها ليدخل كل منا عليه من الباب الأقرب إليه.
إلا أن هذا التعدد في أنواع العبادات له مغزى آخر ألا وهو تنوع الآثار الناتجه عن هذه العبادة، فلكل عبادة أسرار وتجليات يتجلى الله بها على العبد الذي يدخل في هذه العبادة مخلصًا الوجه لله تعالى، ولكل عبادة أثر في طريق التزكية للنفس حتى نصل لحقيقة القرب منه، ولذا ورد في الحديث القدسي (و مازال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه).
فتنوع ألوان العبادات وتكرارها يزكي نفس العبد ويطهرها ليصل إلى حالة المحبوبية من الله سبحانه وتعالى.
وهنا نقف مع الصوم، فكما ذكرنا أن حياة النبي وكل ما أمرنا به من فروض ونوافل توصلنا إذا فقهنا حقيقتها إلى الغاية من وجودنأ الا وهي معرفة الله وعبادته.
فلا بد أن الصوم وهو من الأسس التي بني عليها الإسلام، فلا بد أن لهذا الأساس من أسس الإسلام شأنًا عظيمًا في تحقيق هذه العبودية والمعرفة لرب العالمين.
والصوم لغة هو الإمساك، ولذلك سمى إمساك مريم عليها السلام عن الكلام صومًا، ولذا فإذا نظرنا إلى هذه العبادة نجدها تتفرد بأنها عبارة عن ترك ، وسائر العبادات تتمثل في الفعل .. فالشهادة تصديق ونطق، والصلاه نية وتكبير وقراءة وركوع وسجود وجلوس إلى آخر أفعال الصلاة، وكلها فعل .. والزكاة نفقة، والحج نية وإحرام وطواف وسعي ووقوف بعرفة إلى آخر أعمال الحج .. إذن فأركان الإسلام كلها أفعال، أما الصوم فهو كف وإمساك، أي هو امتناع.
فهو كبح لجماح النفس بمنعها عن المباح من الطعام والشراب والشهوه المباحة تربية لها وتزكية، حتى يكون الإنسان هو القائد والمتحكم في الجانب الشهواني فيه، بعد أن كانت الشهوة هي الحاكمة عليه، وهذا أول طريق التزكية وهو الذي يعبر عنه أهل الطريق بالخروج عن النفس أحيانًا، وأحيانًا بقتل النفس بالمجاهدات، وليس المقصود هنا قتل النفس بالمعنى الظاهري أي الانتحار، ولكن يعني به قتل الشهوة الطاغية المتحكمة في الإنسان التي تقوده إلى ما فيه خروج عن معنى الاستقامة إما بالوقوع في المحرمات أو بالإسراف والإفراط في المباحات.
ثم إن الصوم ينبه ويقوي معنى المراقبة في قلب المؤمن، حيث يتعود على تجنب المفطرات، فيمتنع عن تناول أشياء هي في أصلها مباحة، فإذا كان من أهل الصدق والفطنة والتأمل في أسرار العبادة أيقظ هذا الامتناع عن المباحات في نهار رمضان معاني مراقبة النفس وتهذيبها لتجنب الوقوع في المحرمات في رمضان، لتستمر معه بعد رمضان فيقلع عن الحرام نهائيًّا، ولا شك أن هذه المراقبة والاجتناب لكل محرم خشي الصائم أن ينقص بسببه ثواب صيامه، لا شك أن هذه المراقبة معنى من معاني التقوى المرجوة من الصيام.
ومن هنا أمر النبي الشاب الذي لا يستطيع أن يتزوج أن يتمسك بالصوم، وأشار حضرته صلى الله عليه وآله وسلم أن في هذا الصوم حماية ووقاية، وهذا يبين أثر الصوم في إلجام القوة الشهوانية في نفس الشاب، وهذه النصيحة من النصائح المهجورة في سنة النبي، ليت شبابنا الذي يتأخر عن الزواج أن يعمل بها.
كما أن من أسرار الصيام أن يدرب الإنسان على الجوع وخلو الجوف، فإن الحكمة لا تنبع إلا من جوف خال، ولذا نرى أن النبي كان كثيرًا ما يجوع، وكان ينهى أصحابه عن أن يملئوا بطونهم، ويحذر من كثرة الطعام، إلا أننا غبنا وحجبنا عن هذه الحكمة من حكم الصيام. فإذا بنا نعوض في ليل رمضان ما شعرنا به من جوع في نهاره، فنملأ بطوننا بألوان الطعام والشراب فنفقد آثار هذا الجوع على نفوسنا وقلوبنا.
إلا أن الصالحين السائرين على قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم دأبوا على الصيام تطوعًا وعودوا أنفسهم الجوع طلبًا لرقة القلوب وزكاة النفوس، وكان هذا من أسس طريقهم ومبادئ مجاهداتهم.
ولذا فلا بد أن نفهم معنى أن نعبد الله بالإمساك والامتناع وهو معنى دقيق يحتاج إلى التأمل، فهذا الصوم منهج تربية للنفس، فالامتناع لا يكون فقط عن طريق شهوة البطن والفرج، ولكن عن الكلام المحرم والفعل المحرم، ولذا يرشدنا حبيبنا إلى أن من لم يدع قول الزور والعمل به فلا حاجه لله في أن يدع طعامه وشرابه. فينقلنا النبي بهذا الكلام من صورة الصيام التي قد تتحقق في شخص لا يبالي الله بصيامه، إلى حقيقة الصيام وهو الارتقاء بالنفس وتهذيبها عن طريق ترك بعض المباحات الأساسية للإنسان، ليرتقي إلى ترك كل محرم ومذموم.
ثم إذا تهذبت النفس على هذا الترك تعودت بعده على عدم الإفراط في هذا المباح الذي تدربت على تركه نهارًا في شهر كامل. فإذا صحب هذا الامتناع قيام وذكر وتلاوة قرآن تسمو بها الروح مع إخماد شهوات البدن عن طريق الترك، ارتفعت روح الصائم وعرجت في مراتب القرب من رب العالمين.
أي أن منهج المؤمن في هذا الشهر يقوده إذا فهم كيف يتعامل مع هذه العبادة العظيمة إلى استمداد المدد النوراني لروحه اللطيفة، مع التحكم في رغبات هذا البدن الكثيف عن طريق الإمساك عن شهواته، حتى تتزكى الروح بقطع العوائق والعلائق، وتموت النفس بالمجاهدات والرياضات الروحية.
إلا أن  انشغال القلوب بالدنيا وكثرة الذنوب التي تورث قسوة القلوب قد حجبت عنا معاني التدبر في أسرار العبادات، فصرنا لا نرجو من العبادة إلا الأجر ونغفل عن الأثر.. طلبنا الأجر للحصول على الحسنات، وغفلنا عن الأثر فلم نرتق في الدرجات.
إن فهم أسرار هذه العبادات لا يعود أثره فقط على علاقة المسلم بربه وعلى مكانه في آخرته، ولكنه يعود أولًا على صلته بالخلق ويؤثر في المجتمع .. ولذا فإن العبادة الصحيحة المحققة لمعنى العبودية هي طريق لصلاح الدنيا قبل الآخرة، وسبيل لنهضة المجتمع، وذلك لما يعود من هذا الفهم من آثار على سلوك الفرد وانضباطه في المجتمع، مراعاة لكل حق أقره الله سبحانه وبينه إليه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم .. ومنها حق الأسرة، حق الجار، حق الطريق، حق الأجير، حق صاحب العمل، فما العلاقات بين أفراد المجتمع إلا مجموعة متشابكة من الحقوق والواجبات، إذا تم ضبطها انتظم واتزن أداء المجتع بأسره، ولا شك أن فهم المعاني الحقيقية للعبودية يكون له أكبر الأثر على انتظام أداء هذه الحقوق تجاه الخلق مراعاة لحق الخالق سبحانه وتعالى.

الشيخ: أكرم عقيل

التقييم الحالي
بناء على 115 آراء
أضف إلى
أضف تعليق
الاسم *
البريد الإلكتروني*
عنوان التعليق*
التعليق*
البحث