نسخة تجريبيـــــــة
عودة إلى مدرسة الحب والحاجة لأئمتها

واليوم وقبل كتابتي لهذا المقال أنا ألاحظ أحوال المسلمين خلال هذا الشهر الكريم، وأنا أرى المساجد ممتلئة بالرجال والنساء، وأنا أرى موائد الطعام مبسوطة للفقراء وعابري السبيل، وأنا أرى الصدقات النقدية والعينية توزع على المحتاجين والمساكين، وأنا أرى كل هذا، وأرى كل يد تحمل مصحفا أكب حامله على تلاوته، سألت نفسي هل لمدرسة الحب أن تتسع ويستمر حال التواصل بين المسلمين، هل من الممكن أن يفيض حال هذا الشيخ وأحوال أمثاله من أهل الصلاح الذين يحملون حقيقة هذا الدين في صدورهم محبة ورحمة وتسامحًا وتواضعًا إلى غير ذلك من الصفات التي ورثوها عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يفيض فيغمر قلوب المسلمين، فتتحول هذه المظاهر الإيجابية الطيبة من الإقبال على العبادة إلى الدخول في حالة العبودية يعيش فيها المؤمن في جميع أوقاته، فيكون عبدًا في زراعته وعبدًا في تجارته وعبدًا في صناعته وعبدًا في كلامه وسكوته وسائر أحواله.
إن مثل هؤلاء الصالحين هم السبيل والوسيلة في التحول من عبادة الجوارح المجردة إلى عبادة الجوارح المتصلة بعبودية القلب وخضوعه المتمثلة في دوام المراقبة لله عز وجل.
نعم إن الصالحين بما يحملون في قلوبهم من ميراث النبوة، وبما أفاض الله عليهم من أنوار ألفهم فأخرجهم بها من ظلمة الوهم، هؤلاء هم طريق النجاة لنا من هذه الازدواجية التي أشرنا إليها في مقالات سابقة بين ظاهر العبادة الذي نتمسك به، وبين قسوة القلوب وتعلقها بالدنيا التعلق الذي يحملنا على المكاثرة والمفاخرة والمداهنة والتملق إلى غير ذلك من الصفات التي لا يصح أن يتصف بها مؤمن صحيح الإيمان.
لقد وصف الله آياته قائلًا:
(بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ) [سورة العنكبوت: 49].
إن نور هذا القرآن وحقائقه قد استودعها الله صدور هؤلاء الذين أورثهم علم ما لم يعلموا، ولذلك قال (أوتوا العلم)، ولم يقل تعلموا العلم، فإن هؤلاء لما عملوا بعلمهم مع كمال الإخلاص والإقبال عليه سبحانه أفاض الله عليهم بفتح وفهم في كتابه، فسرى نور القرآن فيهم ولذا فهم يتكلمون وينظرون ويسمعون بنور من الله، ألم يقل كنت سمعه، كنت بصره، كنت يده.
إن هؤلاء العباد الربانيين الذين جعلهم الله ورثة الأنبياء لهم في أقوالهم من جملة هذا الميراث مهمة الدلالة على الله، وهى مهمة الأنبياء أصالة، ومهمة هؤلاء الصالحين وراثته بعد أن ختمت النبوة بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ولذا فإننا نسأل الله في فاتحة الكتاب أن يهدينا إلى طريقهم قائلين 
(اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) [سورة الفاتحة: 6]. ثم يبين الحق أن هذا الصراط هو صراط الصالحين قائلًا (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) [سورة الفاتحة: 7].
والمتتبع لآيات القرآن يرى الأمر بمعية الصادقين، ويرى الأمر بأن نسأل عن الرحمن خبيرًا، ويرى الأمر باتباع سبيل المنيب إلى الله، وكل هذا يوضح أهمية أمر الصحبة لم يدل على الله بأقواله وأفعاله وأحواله.
لقد استودع الله في قلوب هؤلاء نور الفهم عنه، وجعل السبيل إلى هذا النور هو الصحبة والاتباع والأدب، فهذا العلم شأنه شأن سائر العلوم لا ينال إلا بصحبة المعلم .. فإن كان العلم المنقول بالألفاظ لا ينال إلا بمجالسة العلماء والصبر على صحبتهم، فما بالنا بعلم نفيس استودعه الله قلوب أوليائه، ألا وهو العلم بالله.
ويكفي هنا أن نشير إلى سعي سيدنا موسى عليه السلام إلى العبد الصالح لينال من علم علمه الله إياه وجعل قلبه وعاءً له.
ولذا فالذي يريد أن يتحول من عبادة الظواهر والجوارح إلى حقيقة العبودية والمعرفة، فلا يتأتى له هذا إلا بصحبة شيخ عارف من أهل البصيرة، أعطاه الله في قلبه نورًا فهو الولي المرشد الذي يرى بنور الله، فيدلك على الطريق المستقيم الذي لا اعوجاج فيه.
وهذه سنة من سنن الله في هدايته لخلقة، بدءًا من بعث الأنبياء لأقوامهم والرسل لأممهم ليهدي الله بهم من يشاء، فلما انقطعت النبوة وختمت، ونسخت الشرائع وبقيت شريعة الحبيب محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم تنقطع هذه السنة، بل بقيت في العلماء العاملين من أمة الحبيب، ومن أراد أن يرى هذا جليًّا فليبحث في سير الصالحين ليرى أنه كما قالوا: (ما وصل من وصل إلا بصحبة من وصل، وما عرف من عرف إلا بصحبة من عرف).
نحتاج لمعرفة هؤلاء الرجال لنحول عبادتنا ونستثمر هذا الإقبال المحرك للقلوب فنجعله حالة إيمانية دائمة نرى أثرها علينا في الطرق والأسواق والمصانع وفي كل مجال من مجالات المعاملة مع الخلق، التي تكون في حقيقتها عند إشراقة نور الفهم على القلب معاملة مع الحق. نريد أن نكون عبادًا لله حقًّا، نريد أن تنهانا صلاتنا عن الفحشاء والمنكر، نتوق إلى الخروج من رمضان بمعنى من معاني التقوى، نريد أن نرى العبادات وقد جعلت المؤمنين في مودة ورحمة كما وصفهم رسول الله؛ إذا اشتكى منهم عضو تداعى له جسد الأمة بالحمى والسهر.
لا نريد أن نكون ممن قال فيهم الحق سبحانه: 
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ) [سورة البقرة: 204].
فكلما طلع علينا مسئول أو فنان أو أي إنسان في جهاز من أجهزة الإعلام حدثنا عن القيم والخدمة العامة والمبادئ والرسالة النبيلة للقيم، فأين الفساد إذن؟ وأين الانحراف إن كنا كلنا رهبان في محراب الفضيلة؟! حالة من النفاق العام نعيشها، نلبس الأقنعة ونغيرها حسب الحاجة، هل هذا من الدين؟! نعم نعيش حالة من التدين التي تشتد في رمضان وتجذب معظم قطاعات الشعب، فالشباب يملئون المساجد، فهل لنا أن نستثمر هذه الحالة الإيمانية لتحريك القلوب حقيقة حبًّا لله ولرسوله.
ولتحريك القلوب نحتاج إلى أطباء القلوب، نحتاج إلى العالمين بآفات القلوب وعللها حتى نتعاون على التقوى كما تعاونا على البر، فالبر أعمال صالحة، والتقوى أحوال صالحة وقلوب نقية.
فليبحث كل منا على أحد هؤلاء وليتضرع إلى الله أن يدله على من يدل عليه، اللهم دلنا على الولي المرشد.
كل منا يحتاج إليه ولو لم يشعر، وقد كان الملوك والسلاطين الأتقياء يتخذون لهم شيوخًا للنصح والإرشاد، وليعينوهم  على أنفسهم حتى لا يفسدها الملك، وهذا حال من يطلب الآخرة ويخشى فتنة الدنيا، وإلا تحقق في طالب السلطة معنى قول النبي: لتطلبن الإمارة، ثم لتكونن عليه حسرة يوم القيامة ...
نعم نحن بحاجة إلى مدرسة الحب، وبحاجة إلى من يعلمنا كيف نحب حبًّا خالصًا من الشوائب .. حبًّا نتصالح به مع أنفسنا ونعرف به كيف نحب ونتواصل مع كل ما خلق الله حولنا من إنسان وحيوان ونبات بل وجماد ...اللهم دلنا على من يدلنا عليك....

الشيخ: أكرم عقيل

التقييم الحالي
بناء على 56 آراء
أضف إلى
أضف تعليق
الاسم *
البريد الإلكتروني*
عنوان التعليق*
التعليق*
البحث