هل من المعقول ما نراه ونسمعه على الشاشات المرئية من هذا السيل الجارف من فتاوى من لا يصلح للفتوى ؟ من أين أتى هؤلاء بهذه الجراءة على الله في الإفتاء ؟ بل الأعجب من ذلك أن نرى أنصاف المثقفين، ومدعي العلم، بل والعوام يتعرضون لأهل الفتوى والقائمين عليها ممن خصهم الله بالعلم والفهم، فيعترضون على فضيلة المفتي ويتطاولون على المؤسسة الدينية.
ونبدأ أولًا بسيل الفتاوى المباشرة على الفضائيات، فنرى أناسًا قرءوا وتثقفوا في الدين، يجلسون في موضع الإفتاء، فهل الثقافة الدينية تكفي ليتعرض الإنسان إلى الإجابة عن كل مسألة تعرض عليه. هل يقول أحد منهم لا أدري في أي مسألة من المسائل، أم أنهم قد بلغوا من العلم ما يؤهلهم لاستحضار مسائل الفقه كلها دون حاجة للرجوع إلى المراجع أو أمهات الكتب، إن أصحاب رسول الله كانوا يتدافعون الفتوى، فما بالنا نقبل عليها، ونجترئ على الله.
إن العلم الشرعي علم كسائر العلوم له أصوله وقواعده ومسائله، ولذا فإن الإنسان ليكون ملمًّا بعلم من العلوم الشرعية أو غير الشرعية يجب أن يقضي في تلقي هذا العلم وفي صحبة زمنًا يتعرف فيه على قواعده ويحفظ فيه مسائله .. إلا أن العلم الشرعي له بعد ذلك خاصيته في أن حفظ المسائل والدراية بها يجعل الإنسان فقيهًا ملمًّا بمسائل الفقه وحافظًا لها إلا أنه مع ذلك قد لا يؤهل لمرتبة الإفتاء.
فإن المفتي يجب أن يكون لديه دراية بواقع الناس، ويكون لديه الملكة لربط الفقه بالواقع من خلال الفتوى .. فيتخير للناس من الآراء الفقهية ما يناسب حياتهم وواقعهم بحيث يرفع عنهم الحرج ويبقيهم مع ذلك تحت مظلة الشريعة .. ولذلك فقد قيل (إنما الفقه رخصة من ثقة، و أما التحريم فيحسنه كل أحد).
إن المفتي يوقع عن الله، ويعرف مراد الحق منهم، وهى مهمة خطيرة لا يتصدى لها إلا من كان أهلًا لها .. ولذا لم يكن يتعرض للفتيا فيما سبق إلا من يؤذن له من مشايخه بذلك. فليس الأمر أن أحصل على شهادة ليسانس أو دبلوم في العلوم الشرعية فأرى في نفسي بهذه الشهادة الكفاءة للفتوى، فالأمر حقيقة أصعب وأخطر من هذا.
الأمر يحتاج إلى دراية بالقرآن والسنة واللغة وعلم الأصول، ومقاصد الشريعة وغيرها من العلوم .. ولا أقصد بالدراية شهادة من كلية أو معهد، فكلنا يعرف حال التعليم في مصر، الأزهري وغير الأزهري .. فهل نسمح لخريج الطب أن يجري عمليات جراحية لمجرد حصوله على شهادة البكالوريوس أم أنه يتدرج في التدريب على أيدي الجراحين المخضرمين حتى يتأهل ليكون جراحًا؟ فما بالك إن لم يكن طبيبًا أصلًا .. لماذا يعاقب القانون عندنا من يمارس الطب والهندسة بغير ترخيص لأنه يوقع الضرر بمن يعالجه أو من يشيد له بناء، ولا يعاقب من يتصدى للفتوى في دين الله دون علم ودون إذن من القائمين على الفتوى مع أنه يوقع الضرر بأمة بأسرها؟ إننا نرى شبابًا في ريعان شبابهم قد اختل تفكيرهم وخاضوا فيما لا يعلمون اتباعًا لفتاوى شيوخ تصدوا للفتوى وهم ليسوا أهلًا لها، يحرمون ما لم يحرمه الله ورسوله، يضيقون على الناس في معيشتهم.
علم محدود وعقل مغلق يسوق المئات بل الآلاف من الشباب .. ناهيك عن التخبط الذي يحدث نتيجة تضارب فتاوى الفضائيات ورغبة كل شيخ في التمسك بما يراه. ومن المؤسف أن هذا التعارض والتشبث بالآراء يأتي في أمور ظنية من المسائل التي اختلفت فيها المذاهب الإسلامية، فصار هذا من المختلف فيه .. ومعلوم أن المختلف فيه هو موضع سعة للناس، لهم أن يقلدوا فيه أيًّا من العلماء.
فما معنى أن نتشبث برأي واحد وندعي أنه الحق المطلق في مسألة كانت محل اجتهاد العلماء وموضع اختلافهم ..
وهنا تجري القاعدة الكلية التي يتخرج عليها ما لا ينحصر من الصور الجزئية وهي قاعدة (لا ينكر المختلف فيه، وإنما ينكر المتفق عليه). فمن تعصب بعد ذلك لمسألة خلافية وانتصر لها فلا يكون ذلك إلا عن جهل بمثل هذه القواعد، أو عن هوى وانتصار للنفس.
ثم إن المفتي لا يفتي للناس بمذهب واحد، حيث إن الدين أوسع من المذهب، ولذا لا يتصدر للفتوى إلا من كان على دراية باختلاف العلماء واجتهادهم حتى يستطيع أن يتخير للناس ما يلائمهم من آراء العلماء.
ولا شك أن هذه الفوضى التي اعترت هذا الأمر جعلت العوام كذلك وأنصاف المثقفين يتجرءون على الدين، فيصولون ويجولون بكلامهم وأقلامهم، وينزلون بحرًا ليسوا فيه بعوامين.
فمن العجيب أن يتجرأ الناس على فضيلة المفتي وعلى دار الإفتاء المصرية، هذه المؤسسة الزاخرة بعلمائها، صاحبة التاريخ الطويل في خدمة هذا الدين وتوجيه المسلمين .. إن كلامًا مثل (كل يؤخذ منه ويرد) كلام حق يستخدم في غير محله، نعم كل يؤخذ منه ويرد ولكن من الذي يأخذ ومن الذي يرد .. لا بد للإنسان أولًا أن يعرف قدره ومكانه .. إن الواحد منا يستسلم للطبيب ويتركه يفتح له بطنه ويفعل بها ما يشاء، احترامًا لعلمه وتخصصه دون أن يناقش ويعارض ويبدي رأيًا.
فإذا تكلم مفتي الديار فكلنا ألسنة، نتكلم بجهل ونعارض بغير علم، بل إن الأدهى والأمر من ذلك أن تجد شبابًا لم يعرف معظمهم أحكام الطهارة بعد، فإذا قلت لهم هكذا يقول مفتي الديار أو شيخ الأزهر، فإذا به يقول لك (احنا ما بنخدش الدين عن هؤلاء، دول بتوع الحكومة).
إننا نمرر هذا الكلام ببساطة، وفي حقيقة الأمر إن هذا الكلام من أخطر ما يمكن أن يقال .. ففي هذا الكلام اتهام لأكبر مرجعية علمية في مصر وقد تكون في العالم الإسلامي بالمداهنة والنفاق .. ثانيًا إن خروج هذه الفئات عن المرجعية كان سببًا في ظهور التطرف والإرهاب حيث إنهم انسلخوا عن الدول وهيئاتها بما في ذلك المؤسسة الدينية .. ثم إن هؤلاء الشباب رأوا في أنفسهم القدرة على تقييم المؤسسة الدينية، ولا يخفى ما في هذا من الجهل، فما مقدار علم هؤلاء ليحكموا على علماء المسلمين على هذا النحو.
إن التهاون في أمر الدين على هذا النحو قد أصاب قلوب الناس بالاستهانة بالعلم والعلماء، ولا بد لهذا الأمر من وقفة لتعيد إلى العلم الشرعي هيبته، وتعيد إلى المؤسسة الدينية دورها، أعان الله فضيلة المفتي على ما يقوم به في هذا النحو، ونفع الله به البلاد والعباد.