نسخة تجريبيـــــــة
الوفا لوالدي المصطفى
اقتبست هذا العنوان من السيد الدكتور/ محمد سليمان الفرج، وهو من علماء الأزهر الشريف، ويعمل كرئيس للبحوث بوزارة العدل والشئون الإسلاميه والأوقاف في دولة الإمارات العربية المتحدة، والعنوان هو اسم القصيدة التي نظمها فضيلته في بيان فضل والد المصطفى سيدنا عبد الله بن عبد المطلب، وفضل والدته سيدتنا آمنة بنت وهب رضي الله عنهما، وأدلة نجاتهما من الكتاب والسنة.
وقد أحببت أن أشارك بهذه الكلمات في بيان الأمر متقربًا بها إلى الله، ومتوددًا بذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وناصحًا لأمته ببيان هذا الأمر بعد أن سمعت من يخوض فيه بغير علم، مخالفًا بذلك آراء الجمهور من أهل السنة،
وقائلًا في أبوي النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما يؤذي رسول الله.
وأود أن أعيد إشارتي التي كتبتها في مقالي السابق أن غاية الأمر والمراد منه
هو النصح والبيان، وليس من ورائه رغبة في جدل أو نصرة لرأي.
بداية أقول إنه من العجب أن نرى بعض من يدعي أنه من أهل السنة يخوض في والدي النبي ويشكك في نجاتهما، ومن الأعجب أن تجد قلوبًا تتلقف هذا الكلام وترتضيه وتردده، فإذا سمعت ما يخالفه أبت وأعرضت .. والسؤال هنا هو أي الأقوال يجب أن يكون أحب إلى قلب عبد يحب رسول الله، خاصة إذا كان هذا الرأي بنجاتهما هو رأي جل علماء السنة.
لماذا تجد بعض القلوب في آراء شاذة مثل تحريم السفر لزيارته صلى الله عليه وآله وسلم (كما بينا في المقال السابق)، والتوسل به، وعدم نجاة والديه، وعدم ذكره بلفظ السيادة وغيره وغيره من الآراء، لماذا تجد هذه القلوب راحتها في مثل هذه الآراء مع ظهور شذوذها عن أقوال العلماء والأكابر من أهل السنة. بل ولا يرفض الكثير منهم أن يعاملوا هذه المسائل على أنها خلافية، فيكون فيها سعة لمن أخذ بالرأي المخالف، بل يروجون لهذه الآراء ويجتهدون في نشرها وكأنها الحق المطلق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وقد سأل القاضي أبو بكر ابن العربي رحمه الله تعالى أحد أئمة المالكية عن رجل قال: إن آباء النبي صلى الله عليه وآله وسلم في النار؟! فأجاب بأنه ملعون، لأن الله تعالى يقول:
(إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا) [سورة الأحزاب: 57]. قال: ولا أذى أعظم من أن يقال عن أبيه أنه –والعياذ بالله تعالى- في النار.
وذكر القاضي عياض في (الشفاء) أن كاتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى قال بحضرته: كان أبو النبي كافرًا. فعزله وقال له: لا تكتب لي أبدًا! والأثر في (الحلية) لأبي نعيم.
فلم يتجاسر هؤلاء على الخوض في هذا الأمر؟ وما الدافع القلبي وراء ترديده ونشره بين الناس؟ وهل في ذلك فائدة تعود على المسلمين في دينهم من ترديد مثل هذه الآراء ونشرها مع ظهور عوارها وفسادها؟ وقد ألف الإمام السيوطي رسالة بعنوان (مسالك الحنفا في والدي المصطفى) يبين فيها آراء أهل العلم في والدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد استفتحها الإمام الحافظ بقوله:(بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى، مسألة الحكم في أبوي النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنهما ناجيان وليسا في النار صرح بذلك جمع من العلماء ولهم في تقرير ذلك مسالك).
انظر أيها الأخ الكريم كيف يقرر السيوطي رحمه الله تقريرًا صريحا جازمًا بهذه المسألة وهو العالم الحافظ الفقيه الأصولي المتمكن في كافة فروع العلم، المشهود له بالجلالة والوقار، ثم لم يسكت بل بين بالدليل النقلي والعقلي نجاتهما رضي الله عنهما، ونقل ذلك عن العلماء الأجلاء من أهل السنة.
أما مسالك أهل السنة في إثبات نجاة الوالدين الكريمين فهي ثلاثة: الأول: أنهما ماتا قبل البعثة ولا تعذيب قبلها لقوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) [سورة الإسراء:15].
الثاني: أنهما لم يثبت عنهما شرك بل كانا على الحنيفية.
الثالث: أن الله تعالى أحيا له أبويه حتى آمنا به.
هذه المسالك الثلاثة التي ذكرها الإمام السيوطي في رسالته وقام رضي الله عنه بتوضيح هذه الآراء ونقل أقوال العلماء فيها.
أفلا يرضى هؤلاء المتفيقهون والمتنطعون بأحد مسالك أهل السنة وتطمئن له قلوبهم؟ أم أنهم يأبون إلا أن يقولوا قولهم الشنيع في الأبوين الكريمين.
أما عن المسلك الأول فقد قال السيوطي أنه قد سمعه من شيخه، شيخ الإسلام شرف الدين المناوي، فقد سئل عن والد النبي صلى الله عليه وآله وسلم هل هو في النار؟ فزأر في السائل زأرة شديدة فقال له السائل: هل ثبت إسلامه؟ فقال: إنه مات في الفترة، ولا تعذيب قبل البعثة.
وقد ورد أحاديث في أهل الفترة أنهم يمتحنون يوم القيامة وآيات مشيرة بعد تعذيبهم، وقد قال الحافظ شيخ الإسلام ابن حجر في بعض كتبه: والظن بآله صلى الله عليه وآله وسلم -يعني الذين ماتوا قبل البعثة- أنهم يطيعون عند الامتحان إكرامًا له لتقر بهم عينه.
انظر يا أخي إلى حسن ظن العلماء وإلى علمهم بحب الله تعالى لنبيه وإرضائه له مصداقًا لقوله:
(وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) [سورة الضحى: 5]، فأين هذا من جهل هؤلاء الخائضين فيما لا يعلمون.
أما عن المسلك الثاني وكونهما على الحنيفية دين جدهما الخليل إبراهيم عليه السلام، فهذا قريب وله شواهد.
فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات)، وقال الحق في كتابه:
(إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) [سورة التوبة:28]. وبهذا استدل الإمام الفخر الرازي وهو إمام أهل السنة في زمانه على أن آباء النبي كلهم من الموحدين، حتى إنه ذكر في كتابه أسرار التنزيل ما نصه: (قيل: إن آزر لم يكن والد إبراهيم بل كان عمه، واحتجوا عليه بوجوه منها أن آباء الأنبياء ما كانوا كفارًا، ويدل عليه وجوه، منها قوله تعالى: (الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) [سورة الشعراء:218-219] قيل: معناه أنه كان ينقل نوره من ساجد إلى ساجد. وبهذا التقدير فالآية دالة على أن جميع آباء محمد صلى الله عليه وآله وسلم كانوا مسلمين).
هذا وانتسابه يوم حنين مشهور حين قال:


أنا النبي لا كذب                          أنا ابن عبد المطلب


وقد وردت الأحاديث في النهي عن الانتساب إلى الآباء والكفار، وها هو عليه صلاة الله وسلامه ينتسب ويفتخر بنسبه.
وقد ورد أن أمه السيدة آمنة لما كانت في مرضها الذي ماتت فيه نظرت إلى رسول الله وهو غلام له خمس سنين، ثم قالت:


بارك الله فيك من غلام               يا ابن الذي من حومه الحمام
نجا بعون الله المنعام                فودى غداة الضرب بالسهام
بمائة من إبل سوام                  إن صح ما أبصرت في المنام
فأنت مبعوث إلى الأنام              من عند ذي الجلال والإكرام
تبعث في الحل وفي الحرام    تبعث بالتحقيق والإسلام
دين أبيك البر إبراهام          فالله أنهاك عن الأصنام

   ألا تواليها مع الأقوام


ثم قالت: كل حي ميت، وكل جديد بال، وكل كبير يفنى، وأنا ميتة وذكري باق، وقد تركت خيرًا، وولدت طهرًا. ثم ماتت.
أما المسلك الثالث فكما يقول الإمام السيوطي فقد مال إليه كثير من حفاظ المحدثين وغيرهم منهم ابن شاهين والحافظ البغدادي والسهيلي والقرطبي والمحب الطبري وغيرهم.
وقد أورد الإمام بعض الأحاديث الواردة في ذلك وبين ضعف إسنادها، وبين سبب الاستدلال بها مع ضعف رواياتها.
أيها الخائضون في ما لا تعلمون، أين أنتم من قول النبي: (أنا خيار من خيار). وهل يوصف الكفار بالخيرية؟ أين أنتم من وعد الله  لنبيه أنه لا يخزيه يوم القيامة؟ أليس في  دخول والديه إلى النار خزي؟ أين أنتم من قوله تعالى (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى)؟ وهل يرضى النبي يوم القيامة ويهنأ في الجنان وهو يعلم أن والديه يعذبان؟ كيف لمن أرسل رحمة للعالمين ألا يكون رحمة لأحق الناس به وأولاهم؟ ومرة أخرى، إذا كان هؤلاء الأعلام والأجلاء من علماء السنة يقولون بنجاتهما ولهم فيه مسالك، فلم تصر بعض العقول والقلوب السقيمة على اتباع رأي فيه ما فيه من علة، وفيه ما فيه من إيذاء لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فليراجع هؤلاء رسالة السيوطي وغيرها من المصنفات الموضحة لآراء أهل العلم في هذه المسألة.
إن محبة رسول الله ومهابته وتعظيمه والتأدب معه من علامات الإيمان بل من أصوله، فليراعي المسلمون ذلك حفاظًا على دينهم وعلى صلتهم بهذا الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم ، ولنعلم أن أعمالًا معروضة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فليستحي كل منا أن يعرض عليه في أعماله ما يؤذيه.
ولا نقول هذا الكلام دفاعًا عن النبي فقد عصمه الله من الناس وكفاه المستهزئين، ولكن نقوله حفاظًا على ديننا وخوفًا على خاتمتنا.

الشيخ: أكرم عقيل

التقييم الحالي
بناء على 60 آراء
أضف إلى
أضف تعليق
الاسم *
البريد الإلكتروني*
عنوان التعليق*
التعليق*
البحث