نسخة تجريبيـــــــة
عفوا: التبرك بالأولياء عقائد راسخة في نفوس البسطاء ويقرها العلماء

في الأسبوع قبل الماضي كتبت مقالي المتواضع، ولأول مرة قام الأخوة الأفاضل القائمون على العمل بالجريدة بتغيير عنوانها فنشروها تحت عنوان (التبرك بأولياء الله ليس شركًا أو ضلالة)، والحق أن تصرفهم في العنوان كان مناسبًا من الناحية الصحفية حتى يكون العنوان ملفتًا للأنظار.
وفي الأسبوع الماضي وجدت تحقيقًا تحت عنوان (التبرك بالأولياء عقائد راسخة في نفوس البسطاء ولكن رفضها العلماء)، والحق أن هذا العنوان فيه ما فيه من الإيحاء الخاطئ للقارئ، حيث إنه يوحي لمن يطلع عليه أن هذا العمل ألا وهو زيارة الأولياء وما يندرج تحتها من تبرك وتوسل بهم هو من أعمال العوام (البسطاء) ولا يخفى ما في هذا اللفظ من إيحاء بجهل هؤلاء العوام أو قلة وعيهم وثقافتهم، وهو بالطبع غير حقيقي فإن كثيرًا من العلماء والمثقفين والسياسيين ورجال الأعمال وغيرهم يترددون على زيارة مراقد آل البيت وقبور الصالحين للمودة والزيارة والتبرك، فإطلاق لفظ العوام بما فيه من إيحاء لم يكن دقيقًا، وأود أن أسجل هنا أنني لا أقصد الانتقاص من قدرة العوام أو من فهمهم لأمر العقيدة، فهؤلاء بفطرتهم النقية يحبون الصالحين، فاللهم ارزقنا عقيدة كعقيدة العوام.
كما أن الجزء الثاني من العنوان وهو (ولكن يرفضها العلماء) كذلك فيه من الإيحاء الخاطئ ما فيه، حيث إن كلمة العلماء المعرفة بأل تعني أن هذا أمر مجمع عليه، وأن علماء الدين كلهم يقولون بهذا الكلام، وهو بالطبع غير صحيح بالمرة، فالانتفاع بالزيارة والتبرك بالآثار والتوسل بالذوات الصالحة يقول به بل يفعله كثير، بل لا أبالغ إن قلت الأكثر من العلماء، ليس في عصرنا فقط بل على مر القرون في تاريخ الأمة.
وقد سألت إحدى أخواتنا الشيخ الشعراوي رحمه الله عن الزيارة لآل البيت وعن فضلها فقال لها الشيخ رحمه الله: (والله، ما رأينا الخير إلا على أعتابهم)، فهل يعد كلام الشيخ من كلام (البسطاء)؟! كما أن الشيخ عبد الحليم محمود كان شاذلي الطريقة وكان محبًّا للصالحين، دائم التردد على زيارتهم، وله العديد من المؤلفات عن سير الأولياء، فهل يعد هذا الإمام من (البسطاء)؟! والعديد والعديد، إلا أن في هذين الإمامين كفاية لأولي الأبصار.
وقد ورد في التحقيق على لسان أحد الأساتذة الأفاضل القول (بأن أضرحة الأولياء هي مجرد قبور عادية كغيرها من القبور). والحق أن القبور أصلًا ليست متجانسة أو متساوية، فإنها إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار، وقبور الأولياء هي من رياض الجنة بإذن الله تعالى، ويحفها ما يحفها من الملائكة الذين ينزلون عليهم في حياتهم وبعد مماتهم، وقد ورد في الأثر أن قبر النجاشي ملك الحبشه كان يرى عليه نور، فكلمة مجرد قبور عادية كلمة جانبتها الدقة في التعبير.
أما عن النذر، فإن النذر والذبح يكون لله سبحانه وتعالى، وإن نذر أحد لغير الله فهو آثم، وإن ذبح أحد لغير الله فلا يحل الأكل من هذه الذبيحة، وهذا أمر متفق عليه، ولكن محبي الصالحين ينذرون ويذبحون لله قطعًا، فهم مسلمون يتقربون بأعمالهم لله، فهل في إطعام الطعام لمن حول أضرحة آل البيت والصالحين ما ينافي هذا .. إن اختيار المكان الذي يوزع فيه النذر أو الطعام ليس داخلًا في النية، وإن جرى على ألسنة الناس غير ذلك، فيجب توجيههم وتعليمهم بدلًا من تبديعهم وتفسيقهم.
ولما كانت النية هي التوضيح والبيان دون الجدل وشقشقة اللسان، فسوف ننقل بعض كلام العلماء الأعلام في فضل الزيارة وبركتها، وبعض الأخبار في أمر التوسل إلى الله والتقرب إليه بزيارة الصالحين وهو ما أنكره بعض الأفاضل في المقال أو التحقيق المشار إليه.
قال الإمام فخر الدين الرازي بعد بسط المقدمات في الفصل الثامن عشر من كتابه المطالب العالية، وهو من أعظم مؤلفاته في علم أصول الدين: (وإذا عرفت هذه المقدمات فنقول إن الإنسان إذا ذهب إلى قبر إنسان قوي النفس كامل الجوهر شديد التأثير ووقف هناك ساعة وتأثرت نفسه من تلك التربة حصل لنفس الزائر تعلق بتلك التربة، وقد عرفت أن لنفس الميت تعلقًا بتلك التربة أيضا، فحينئذ يحصل لنفس هذا الزائر الحي ولنفس ذلك الإنسان الميت ملاقاة بسبب اجتماعهما على تلك التربة، فصارت هاتان النفسان شبيهتين بمرآتين صقيلتين وضعتا بحيث ينعكس الشعاع من واحدة فيهما إلى الأخرى، فكل ما حصل في نفس هذا الزائر الحي من المعارف البرهانية والعلوم الكسبية والأخلاق الفاضلة من الخضوع لله تعالى والرضا بقضاء الله ينعكس من نور إلى روح ذلك الإنسان الميت، وكل ما حصل في نفس ذلك الإنسان الميت من العلوم المشرفة والآثار العلوية الكاملة فإنه ينعكس منه إلى روح هذا الزائر الحي، وبهذا الطريق تصير تلك الزيارة سببا لحصول المنفعة الكبرى والبهجة العظمى لروح الزائر ولروح المزور، فهذا هوالسبب الأصلي في مشروعية الزيارة، ولا يبعد أن يحصل فيها أسرار أخرى أدق وأحق مما ذكرناه، وتمام العلم بالحقائق ليس إلا عند الله).
هذا الكلام النفيس لإمام جليل من أئمة أهل السنة يحتاج إلى نفوس زكية تتلقاه وترتقي إلى فهم معناه .. وهذا الأثر من الزيارة يستشعره أصحاب القلوب النقية والهمم العلية، فالأمر أكبر من التمسح بالضريح وتقبيل الأعتاب، بل إن هذا التمسح ليس من آداب الزيارة عند أهل الأدب.
إن الموت ليس فناء، وليس عدم محض كما يتصور بعض الناس، بل إن للميت وجودًا في هذا العالم ولكن على حالة تختلف عن وجوده الحسي على وجه الأرض، بل إن هذا الوجود الحسي وهذه الحياة التي نعيشها هي أقصر أطوار وجود الإنسان في هذا الكون .. والحالة التي يكون عليها الإنسان بعد موته تختلف من شخص إلى شخص، ولذا نجد أن القرآن ينهانا عن القول بأن الشهداء أموات، فيقول تعالى في سورة البقرة:
(وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ) [سورة البقرة: 154].
فالله يثبت له الحياة، وينفي عنا الشعور بها لما علينا من الحجب .. أما من رفعت عنه هذه الحجب فإن له شعور بهذه الحياة وبأهلها، ولذا نرى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخبرنا أنه مر ليلة الإسراء بقبر سيدنا موسى عليه السلام فوجده قائما يصلي في قبره.
ولذا فإن الإمام الرازي يقول في تفسيره : (إن الأرواح البشرية الخالية من العلائق الجسمانية، المشتاقة إلى الاتصال بالعالم العلوي، بعد خروجها من ظلمة الأجساد تذهب إلى عالم الملائكة ومنازل القدس، ويظهر منها آثار في أحوال هذا العالم، فهي المدبرات أمرًا، أليس الإنسان قد يرى أستاذه في المنام ويسأله عن مشكلة فيرشده إليها).
ومن هنا نفهم أن صلة الأرواح قد تظل قائمة ويحصل بينها هذا التواصل والإمداد من الروح القوية المنيرة إلى الأرواح الضعيفة الطالبة لهذا النور.
إن هذا الانتفاع بالزيارة وبإقامة الصلة الروحية أمر واقع يستشعره من صفت روحه وتزكت نفسه، بل وينتفع به في زيارة القرب من الله والإقبال عليه عز وجل.
وقد قال العلامة سعد الدين التفتازاني في شرح المقاصد عند إثبات إدراك بعض الجزئيات للميت ردًّا على الفلاسفة: (لما كان إدراك الجزئيات مشروطًا عند الفلاسفة بحصول الصورة في الآلات، فعند مفارقة النفس وبطلان الآلات لا تبقى مدركة للجزئيات ضرورة انتفاء المشروط بانتفاء الشرط، وعندنا (أي أهل السنة) لما لم تكن الآلات شرطًا في إدراك الجزئيات إما لأنه ليس بحصول الصورة لا في النفس ولا في الحس، وإما لأنه لا يمتنع ارتسام صورة الجزئي في النفس بل الظاهر من قواعد الإسلام أنه يكون للنفس بعد المفارقة إدراكات متجددة جزئية واطلاع على بعض جزئيات أحوال الإحياء ولا سيما الذين كان بينهم وبين الميت تعارف في الدنيا، ولهذا ينتفع بزيارة القبور والاستغاثة بنفوس الأخيار من الأموات في استنزال الخيرات واستدفاع الملمات، فإن للنفس بعد المفارقة تعلقًا بالبدن والتربة التي دفنت فيها، فإذا زار الحي تلك التربة وتوجهه تلقاء نفس الميت حصل بين النفسين ملاقاة وإفاضات).
هذا الفهم الراقي الذي ننقله عن أئمة علماء أصول الدين يجب أن يكون رادعًا لمدعي العلم وأنصاف المثقفين في المسارعة بالطعن في عقيدة المسلمين تحت دعاوى التوحيد.
أما الذي حجب بحسه عن المعاني، وجعل العقل القاصر عن إدراك الحقائق حكمًا على كل شيء فهذا معذور لقصور أدواته عن إدراك اللطائف الروحية والإمدادات النورانية.
وقد قال العلامة الشريف الجرجاني في أوائل حاشية شرح المطالع معلقًا على ما ذكره شارح المطالع في صدد بيان الحكمة في التوسل والصلاة على النبي وآله صلى الله عليه وآله وسلم: (فإن قيل هذا التوسل إنما يتصور إذا كانوا متعلقين بالأبدان وأما إذا تجردوا عنها فلا، إذ لا جهة مقتضية للمناسبة، قلنا يكفيه أنهم كانوا متعلقين بها متوجهين إلى تكميل النفوس الناقصة بهمة عالية فإن أثر ذلك باق فيهم، ولذلك كانت زيارة مراقدهم معدة لفيضان أنوار كثيرة منهم على الزائرين كما يشاهد أصحاب البصائر).
وأنا أعلم أني أطيل في النقل من نصوص العلماء، ولكن هذا مقصود حتى لا يتوهم أن الأمر هو مجرد اجتهاد شخص، فما أنا إلا ناقل لأقوال أهل الفضل مدافع عن عقيدة المسلمين لتبرئة ساحتهم من آلتهم التي تكال لهم وتشكك في دينهم .. ولا نعني بهذا أننا نقر كل ما يفعله الناس في هذا الميدان، بل إن الأمر يحتاج إلى توجيه لضبط سلوك الناس بما يليق بجلال هذه المراقد المباركة، ولكن توجيه الناس وتعليمهم أمر، ورميهم بالشرك أو الضلال أمر آخر.
وفي تاريخ الخطيب (1-123) بسنده إلى الشافعي رضي الله عنه أنه قال: (إني لأتبرك بأبي حنيفة وأجيء إلى قبره كل يوم (يعنى زائرًا)، فإذا عرضت لي حاجة صليت ركعتين وجئت إلى قبره، وسألت الله تعالى الحاجة عنده، فما تبعد عني حتى تقضى).
فمن الذي يستطيع أن يعد هؤلاء قبوريين يتعبدون الضرائح ؟ .... يتبع

الشيخ: أكرم عقيل

التقييم الحالي
بناء على 61 آراء
أضف إلى
أضف تعليق
الاسم *
البريد الإلكتروني*
عنوان التعليق*
التعليق*
البحث