نسخة تجريبيـــــــة
إلى روح شيخي أهدى هذه الكلمات

أين الطريق؟ ما هو العلم؟ ما هي حلاوة الإيمان؟ كيف الوصول؟ أسئلة وأسئلة تحتاج إلى إجابات كانت تدور بذهن الشيخ في أوقات حيرته.
سبق هذا الوقت مراحل، مرحلة شباب عادية، يعيش كما يعيش الشباب، أسرة أرستقراطية وحياة ميسورة إلى حد كبير.. ثم بدأ مرحلة أخرى في بداية الثلاثينات من عمره، أقبل على الدين بمبادئه نسبيًّا، وإذا به يتعرض لأزمة في عمله، وقد كان يعمل بالإدارة المحلية إذ انتقل من القضاء العسكري إليها وكان أحد أبرز قياداتها، إلا أنه وفي عام 1965 توقف عن العمل بعد أزمة مع قيادات الإدارة المحلية، ويبقى ملازمًا للبيت في خلوة قضاها في القراءة والاطلاع على كتب التراث، فقرأ التفسير والحديث والفقه والسيرة وغيرها من الكتب .. ثلاث سنوات قضاها الشيخ وهو يقرأ ويقرأ .. وإذا بالحق يستجيب لدعاء زوجته المخلصة الصادقة، فقد كانت تبكي شوقًا لزيارة الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا بهم تيسر لهم سبل حج بيت الله الحرام في عام 1968 من حيث لم يحتسب، كيف وهو موقوف عن عمله، وظروف المعيشة قد ضاقت عليهما. وذهب الشيخ وبرفقته زوجته إلى الحج، وفي أثناء هذه الرحلة المباركة كان الشيخ يؤثر الخلوة، ويطيل الجلوس وحده، يقرأ القرآن ويتضرع إلى الله أن يبين له إجابات هذه الأسئلة التي تدور بذهنه وتشغله .. إنه يطلب الهداية.. إن الكلام المسطور في الكتب لم يشف غليله، ولم يملأ قلبه بما يطلب من حقائق في الإيمان .. هكذا عبر في دعائه سائلًا الحق أن يدله على الطريق. وانتهت مناسك الحج، والشيخ يطيل التضرع إلى الله أن يرشده على ما لم يجده في الكتب.
وتوجه الشيخ وزوجته إلى المدينة المنورة، على صاحبها صلاة الله وسلامه، وهناك بقيا في المدينة عشرين يومًا بتدبير من الله.
كان الشيخ خلال هذه الأيام يقضي أوقاته بالروضة الشريفة، والعجيب أنه كان يجد مكانه خاليًا كلما دخل إليها مع شدة زحامها. إن الحيرة لا تزال مستمرة، والأسئلة لا زالت تدور وتدور في خاطره .. أين الطريق؟ إن هذه الإشارات التي رآها قبل سفره وعلى مدار شهور لا يجد لها معاني واضحة عنده. وجلس في جوار الحبيب يناجيه بقلبه، يكرر عليه أسئلته، يا إمام كل إمام أين الطريق؟ ويعيد ويكرر أسئلته .. وقبل صلاة العصر وهو جالس مغمض العينين يناجي النبي بقلبه ويدور بداخله ما يدور من أسئلة، أسئلة لم ينطق بها لأحد من الخلق، فإذا بيد توضع على فخذه، فيفتح عينيه ويلتفت جانبًا، فإذا برجل أبيض الوجه، أبيض اللحية، يلبس عمامة، عليه مهابة ووقار .. فلما نظر إليه الشيخ بادره الرجل قائلًا: (أعطني مما أعطاك الله). إن الهيئة ليست هيئة متسول أو فقير، فوقع في قلب الشيخ أن هذا لا يسأل مالًا، قال الشيخ: (يا سيدي أنا فقير). فأجابه الرجل: (أنتم لديكم الخير كله). ثم واصل قائلًا: (لقد أمرني رسول الله أن آتي إليك لأجيبك عما تسأل). وقبل أن ينطق الشيخ أو يبدي تعجبه من الأمر واصل الرجل حديثه قائلًا: (لقد كنت تسأل النبي عن كذا والإجابة كذا). وأخذ يذكر الأسئلة ويجيب عليها سؤالًا تلو الآخر.
جلس الشيخ يستمع إلى الرجل وهو يكاد لا يصدق ما يجري، بل إنه لا يصدق فعلًا. وما إن انتهى الرجل من حديثه، والشيخ يشعر أنه قد انتقل إلى عالم آخر، انكب الشيخ على يد الرجل ليقبلها، فإذا به يقول له: (يا سيدي أنتم الذين تقبل أقدامكم).
وعاد الشيخ من هذه الرحلة المباركة، وقد اطمأن قلبه، وهدأت نفسه، ووضع قدمًا راسخًا على الطريق وأصبح الأمر واضحًا أمام عينيه، فلا حيرة ولا تخبط .. وسلك الشيخ طريق السيد إبراهيم الدسوقي الذي أمر بالسير على نهجه، وكان هذا في الليلة الختامية لمولد الإمام الحسين، وما أن عاد من الحج حتى تم استدعاؤه ليعود إلى عمله.
والمفارقة العجيبة أن يعين في منصب السكرتير العام لمحافظة كفر الشيخ حيث يقع ضريح السيد إبراهيم الدسوقي شيخ الطريق بمدينة دسوق التي تتبع محافظة كفر الشيخ.
ويعيش الشيخ يجمع بين وظيفته في الإدارة المحلية وبين خدمته للطريق، ويقبل على الله بكليته، محبًّا لله ورسوله وآله بيته، ويجتمع حوله المحبون للطريق، ويفتح بيته لأهل الطريق، ويقوم أول ما يقوم بمشروع لتوسعة مسجد سيدي إبراهيم الدسوقي ويقيم المسجد الموجود حاليًا.
وتمر السنوات، فيعين رئيسًا لمجلس مدينة طنطا، فيتبنى مشروعًا لتوسعة المسجد الأحمدي بطنطا، فيقام المسجد الموجود حاليًا.
وقد قضى الشيخ هذه السنوات مجاهدًا في كل الميادين، فهو يعمل بالإدارة المحلية ويحقق الإنجازات التي شهد لها القاصي والداني، وفي المساء مرشدًا روحيًّا ومربيًا للمريدين. فإذا جن عليه الليل أحياه بالذكر والصلاة.
وفي عام 1976 يستقيل الشيخ من منصبه، ويتفرغ لخدمة الطريق، وسرعان ما ظهرت على الشيخ ثمار هذه المجاهدة وبركة  هذا الإخلاص، فها هي أنوار الفهم عن الله تظهر على لسانه، فينطق بغرائب تنفذ إلى القلوب.
وها هي أنوار الحكمة تتفجر بين جوانبه، فينتفع بها من ينتفع ويسير في نورها من يسير.
وها هي الكرامات الظاهرة يجريها الله على يديه، فيثبت بها قلوب أبنائه ومريديه. هذا وقد ألبسه الله لباس التقوى وكساه بالمهابة والجلال، فوقع ذلك في قلب كل من رآه.
وفي أثناء هذه السنوات الأولى خاض الشيخ معارك عديدة، معارك مع أدعياء التصوف، رافعًا راية تصحيح المسار.
فالتصوف مسلك صافي قد ابتلي بأهله أو بمن ينسبون أنفسهم إليه، فوقف الشيخ معلنًا (سوف نصحح مسار التصوف بعد أن انحرف به من انحرف).
فالطريق بريء ممن يلتمس أموال الناس باسمه، والطريق بريء من الذين يتجاوزون في اختلاطهم بالنساء تحت رايته، والطريق بريء من الدجل والشعوذة، الطريق بريء من السيطرة على عقول الناس وسلب إرادتهم تحت مسمى الطاعة.
فنهض الشيخ وهو المحارب القديم، مستمرًّا ثابتًا في جهاده ضد كل خروج عن المنهج القويم .. لقد حباه الله بهمة صادقة وعزم شديد خاض بهما طريقه في سبيل إصلاح ما استطاع.
وعلى الجانب الآخر خاض معارك عديدة ليدفع عن صحيح الطريق شبه من أراد ان يلصق هذه التهم بالطريق كله، ويلحق هذا الوصف بجميع أهل الطريق دون تمييز.
فقضى الشيخ أيامه ولياليه مجاهدًا في سبيل الله بنفسه وماله، داعيًا إلى الله، مربيًا لأبنائه في الطريق، محبًّا لهم، مشفقًا عليهم.
وفي عام 1993 وفي الليلة الختامية لمولد الإمام الحسين عليه السلام، في نفس الليلة التي كانت فيها البداية، كانت النهاية.
الشيخ يحتفل مع أبنائه بالذكرى المباركة، إنه يتلألأ نورًا في صورة تفوق ما كان عليه دائمًا.
ألقى الشيخ كلمته، أوصى الشيخ أبناءه بالطريق، وأوصى النواب بالمريدين، إنها وصية مودع، ولكن العقول لم تنتبه إلا بعد أن أفاقت من صدمتها. انتهى الاحتفال وانتهى مجلس الذكر، وأقبل المريدون لمصافحة الشيخ كعادتهم ولكنه رفض قائلًا: (كفاية سلام، مفيش وقت)، وخرج مسرعًا إلى الفندق المجاور لمكان الاحتفال حيث كان يقضي أيام الاحتفال مجاورًا للإمام الحسين، ورافقه اثنان من مريديه، وما هي إلا دقائق حتى جاء الخبر .. لقد مات الشيخ.
إن هذا النور الذي كان يظهر عليه، وهو نور قرب موعد اللقاء، إن هذه الوصية كانت وداعًا للأبناء.
لقد عشت يا سيدي متشوقًا لهذا اللقاء، كم بكيت حنينًا وشوقًا إلى هذا اليوم، كم أطلقت من آهات، كم أسلت من عبرات، كم سهرت ليالي سهر المحب المشتاق إلى اللقاء.
فقر عينًا يا سيدي، فلك الهناء ولنا العزاء.
وفي هذه الحيرة التي يعيش فيها الناس يحتاج الكل إلى الدليل، والمرشد، ولكن أي دليل وأي مرشد.
لمثل هؤلاء الرجال من أهل الصدق مع الله نحتاج، إلى قلوب باعت الدنيا بالآخرة، قلوب تعلقت بالله، وأعرضت عما سواه.
جزاك الله عنا يا شيخنا خير الجزاء، وجعل الجنة مثواك، وجمعنا يوم القيامة على حوض نبيه صلى الله عليه وآله وسلم.

الشيخ: أكرم عقيل

التقييم الحالي
بناء على 105 آراء
أضف إلى
أضف تعليق
الاسم *
البريد الإلكتروني*
عنوان التعليق*
التعليق*
البحث