نسخة تجريبيـــــــة
منهج التحقيق في كلام شيخ الطريق

كتبت عن الشيخ بغير ترتيب، وذكرت هذا القدر اليسير من سيرته، وكيف كانت بدايته ... قد يصدق البعض، ويتعجب البعض الآخر، وينكر البعض الثالث. والحقيقة أن الشيخ قد أفضى إلى ربه ولا يحتاج دعاية أو تعريف، فالأمر عنده يستوي، عرفه الناس أو جهلوه، بل لقد تعمدت عدم ذكر اسمه حتى لا يكون الأمر تعريفًا بشخص بعينه.
فما المقصود الارتباط بأشخاص، ولكن المقصود توجيه القلوب وتنبيهها إلى النهوض والإقبال على الله بصدق، ثمرة صدق التوجه إليه سبحانه، هذا الصدق الذي يورث صاحبه التوفيق والتأييد من الله وأحيانًا خرق العادات وهو ما يسمى بالكرامة، لإظهار هذا التأييد وتثبيت قدم السائر إليه على الطريق.
وما كتبته إنما هو قطرة من فيض سيرته العطرة، فقد رأينا ما رأينا في صحبته من آثار وبركات اجتباء الحق سبحانه له، فأكرمنا الله وثبت قلوبنا بما رأينا للسير على نهجه والثبات على أمره، لا نسمع في ذلك الأمر للائم أو نلتفت لعازل، فكيف ننكر ما رأينا؟! أما أهل الإنكار فهذا حظهم وهذا مبلغهم من العلم، يعتقدون أن منتهى العلم هو ما يعرفون، وأن غاية الأمر هي ما يدركون، ويجعلون عقولهم القاصرة وقلوبهم السقيمة حكمًا ودليلًا، وهم لا يعرفون أنهم يتبعون الهوى وينقادون إلى الكبر والحسد في قلوبهم، إذ يصعب عليهم أن يروا تفضيل الله لبعض خلقه، أو أن يقروا بهذا الفضل.
ولكن ما هو هذا المنهج الذي سار عليه الشيخ، وما هو طريق الشيخ إبراهيم الدسوقي؟ أليس في الكتاب والسنة كفاية؟ فلم نحتاج إلى الأشياخ ؟ وحقيقة فإن هذا الأمر قد يلتبس على الإنسان، فيعتقد أن في اتباع هؤلاء الأشياخ انحرافًا عن الكتاب أو عن سنة الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم.
إن هؤلاء الأولياء ما هم إلا مظهر من مظاهر الاتباع الكامل لهذا الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم، وكل ما ظهر عليهم من فيض وما  أوتوه من علم إنما هو من آثار وبركات اتباعهم الكامل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وكفاهم أنهم وقد فارقوا هذه الحياة منذ قرون عديدة، فإن القلوب ما زالت تهفو إليهم، والأفئدة تهوي إليهم، وتظهر بركات السير على نهجهم على من صدق في هذا السير وأخلص في هذا الاتباع، لا يضر في هذا وجود بعض المدعين والمنحرفين عن الطريق، فالمنهج الصافي لا يضره من نسب نفسه إليه ثم انحرف عنه.
وبدلًا من التخبط والكلام بغير علم، فلنأخذ المنهج من فم صاحبه، ولنضع أقدامنا على الطريق من نصائحه ووصاياه، وذلك لنقيس هذا الكلام على المنهج الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لنعرف حقيقة هؤلاء القوم.
وقبل أن نتكلم عن وصايا شيخ الطريق السيد إبراهيم الدسوقي نقول: إنه السيد إبراهيم الدسوقي ابن السيد عبد العزيز المكنى بأبي المجد، يصل نسبه لأبيه إلى الإمام الحسين بن علي، ويصل نسبه لأمه إلى الإمام الحسين بن علي، فهو شريف النسبين .. ولد وعاش ومات في مدينة دسوق. ظهرت بشائره وهو في صلب أبيه، وظهرت كراماته وهو ما زال طفلًا صغيرًا، ولا عجب فالله هو المجري للكرامة وليس للمخلوق فيها فعل أو شأن، وهو فعال لما يريد، وقادر على كل شيء.
وضريحه المبارك علم من أعلام مدينة دسوق يؤمه الزوار من مشارق الأرض ومغاربها، فكم يأتي زوار من أوروبا ومن تركيا ومن الحجاز والسودان واليمن وغيرها من البلدان زائرين للسيد إبراهيم الدسوقي، لما يرون من آثار وبركات هذه الزيارة، وكم يعرفون من فضله وحسن سيرته.
فلننتقل سريعًا إلى كلامه ووصاياه لنرى إلى أين يرشد الشيخ أبناءه ومريديه، وها هو يضع أقدامهم على أول الطريق قائلًا: (أول الطريق الخروج عن النفس والتلف والضيق والحظ، فإن الفلاح والنجاح والصلاح والهدى والأرباح لا تصح إلا لمن ترك الحظ وقابل الأذى والشر بالاحتمال والخير ووسع خلقه).
ها هو شيخ الطريق يبين لنا كيف أن حظوظ النفس من الكبر والعجب والرغبة في الانتصار للنفس إنما تكون حجابًا لا عن الوصول إلى الله، بل هي حجاب عن البداية وسلوك أول الطريق، وهذا الترك لحظوظ النفس هو الذي يوصل صاحبه إلى اتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صلة من قطع، والعفو عمن ظلم، وإعطاء من حرم، والإحسان لمن أساء، إذ كيف يكون الإنسان فيه بقية الحظوظ النفسانية ويقدر على ذلك، ولذا لما كان الرسول الأكرم صلوات ربي وسلامه عليه قد طهره الله من هذه الحظوظ البشرية والرعونات النفسية بما كمله به من كمال الشهود، فإنه لم يغضب لنفسه قط ولم ينتصر لها. ومن هنا نرى كيف أن هؤلاء السادة إنما قد أفاض الله عليهم بالفهم وأعطاهم مفاتيح القلوب، ليرفعوا عنها أقفالها، فهل من آذان صاغية ونفوس تميل إلى الاقتداء بأهل الوصول.
ثم يرشد شيخ الطريق ويشدد على معاني الصلة التي تربط بينه وبين أبنائه، وأن هذه الصلة إنما هي قائمة على التزامهم وانقيادهم لله سبحانه فيقول رضي الله عنه: (من لم يكن متشرعًا متحققًا نظيفًا عفيفًا شريفًا فليس من أولادي ولو كان ابني لصلبي، وكل من كان من المريدين ملازمًا للشريعة والطريقة والحقيقة والديانة والصيانة والزهد والورع وقلة الطمع فهو ولدي وإن كان من أقصى البلاد).
ولا شك أن هذا من ثمار المنهج القرآني، ألم يرشد الحق سبحانه وتعالى ويشير مثل هذه الإشارة إلى سيدنا نوح عندما أخبره أن ابنه ليس من أهله، مبينًا أن حقيقة الصلة إنما هي صلة الإسلام والتوحيد والطاعة والإيمان.
وهذا الكلام حجة على كل من ادعى السير على هذا الطريق ثم رأى لنفسه مسوغًا يخرج به عن الشريعة أو يخالف أوامرها صراحة مدعيًا لنفسه شيئًا من الخصوصية يجوز له ذلك، فهذا كله افتراء على الله، وكذب على رسول الله، وإساءة إلى من نسب نفسه إليهم من شيوخ الطريق .. بل أقول أنها من المعاداة لأولياء الله، ولم لا ؟ أليس الإساءة إلى منهجهم الصافي النقي من الإساءة إليهم ؟ ولذا حذر شيخ الطريق السيد إبراهيم الدسوقي من هذا الأمر قائلًا: (الله خصم من شهر نفسه بطريقتنا ولم يقم بحقها واستهزأ بنا).
عجيب أمر هذا الإمام، كيف أنه يحذر من هذه الآفات التي ابتلي بها أهل الانتساب إلى الطريق .. ولا عجب فهم أهل البصائر والميراث لهذا النور المحمدي، فهم الحكماء وهم الأولياء.
وها هو يحذر من آفة أخرى من آفات الطريق، ويتبرأ من فعلها ومن فاعلها فيقول:  بايعت الله تعالى على أني لا ألتمس أموالكم، ولا آخذ تراثكم، ولا أدنس خرقتي بما في أيديكم .. فاسمعوا وأطيعوا وعلى أموالكم الأمان مني، ومن جماعتي الذين أخلصوا معي، وأسأل الله تعالى أن يلحق بقية أولادي ممن أخلصوا معي، ويجعلهم مثلهم فيشفقون على إخوانهم، وينصحون لهم مع تجنب أموالهم).
بارك الله لنا فيك يا سيدي .. فها أنت منذ سبعة قرون تحذر من هذه الآفات، ولكن أين المخلصون من أبنائك، لقد ابتلينا يا سيدي بأناس يجمعون المال باسم الطريق وخدمة الطريق، ويتربحون وتتراكم ثرواتهم تحت رايتك، ولكنك منهم بريء.
هل تخطت بصيرتك حاجز الزمان فرأيتهم؟ ولم لا وقد قال الحق: (كنت سمعه، وكنت بصره، فبه تسمعون وبه تبصرون ..).
إن هذه السبل هدى الله إليها أصحابها بعد المجاهدة، ونور لهم بصائرهم ليقودوا بنور البصيرة إلى ما فيه الفلاح والنجاح، فكم من أناس اتبعوا ظاهر الشريعة وأقاموا النسك والعبادات، وهم أبعد ما يكونون عن حقيقة الامتثال لأمر الله من الأدب والتواضع والرحمة والعفة وغيرها من الأوصاف القلبية التي هي من ثمرات حقيقة العبودية.
ولكن هؤلاء الذين ورثوا مهمة الدعوة إلى الله على بصيرة لهم قدم راسخ في الأخذ بأيدي الناس على المنهج القويم.
وهنا يرشدنا شيخ الطريق إلى ثمرة لا بد لكل سالك أن يبحث عنها في نفسه فيقول: (كل من ادعى الصدق والإخلاص ولم يحصل عنده ثمرة الأدب والتواضع فهوكاذب، وعمله رياء وسمعة لا يثمر له إلا الكبر والعجب والنفاق وسوء الأخلاق شاء أم أبى).
ولكن أين الإجابة عن السؤال الذي طرحته في البداية، أليس في الكتاب والسنة كفاية؟ فلم نحتاج إلى الأشياخ؟ نجيب عنه من كلام شيخ الطريق وقدوة السالكين السيد إبراهيم حيث قال: (لو هاجر الناس إلى الله مهاجرة صحيحة، واستظلوا تحت مظلة الشريعة لما احتاجوا إلى الأشياخ .. ولكنهم جادوا إلى الطريق بعلل وآفات ولذلك احتاجوا إلى الحكيم).
نعم مهاجرة صحيحة، ظاهرة وباطنة، في القول والعمل والحال، فهل يمكن أن نقول أن المتكالب على الدنيا قد صحت هجرته وإن صل وإن صام؟ هل صحت هجرة المتصدر للمجالس، الطالب للمكانة في قلوب الناس، وإن وعظ وأرشد؟
إن الهجرة الصحيحة الكاملة أن نكون محمديين قولًا وفعلًا وحالًا، فهل إلى ذلك من سبيل.
لقد شرب هؤلاء الأولياء من النبع الصافي من نور النبوة، فأنارت قلوبهم وساروا واثقين ثابتين لم يضرهم من خالفهم، فنفع الله بهم خلقًا كثيرًا، وهدى الله بهم من كتب له السير على الطريق المستقيم.
رضي الله عن السيد إبراهيم الدسوقي وعن الأولياء والصالحين، ونفعنا بهم وبحبهم، وحشرنا بفضله في زمرتهم .. آمين.

الشيخ: أكرم عقيل

التقييم الحالي
بناء على 111 آراء
أضف إلى
أضف تعليق
الاسم *
البريد الإلكتروني*
عنوان التعليق*
التعليق*
البحث