الى أين نحن ذاهبون؟ وماذا سنترك لأبنائنا من ميراث؟ سنترك لهم تركة ثقيلة من الكراهية والحقد والتناحر، سوف يعيشون بها ويجنون ثمارها. فرغم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأنبياء من قبله جاءوا ليعلموا الناس كيف يحبون وكيف يتسامحون، فبعد أن علموهم العبادة الخالصة لله وحده بينوا لهم أن ثمرة هذه العبادة هي المحبة لصنعة هذا المعبود سبحانه، وإكرامها والإحسان إليها.
فسيدنا نوح يتحمل إيذاء قومه وإعراضهم وسخريتهم مئات السنين، و يدعوهم إلى عبادة رب العالمين، وسيدنا إبراهيم يصبر على إيذائهم وتكذيبهم وهو الذي يدعوهم إلى النجاة والخروج من الكفر للإيمان، وهذا يوسف عليه السلام يصبر على إخوته ثم يعفو عنهم بعد ما صدر منهم تجاهه، ويصبر على السجن ولا ينتقم ممن كادوا له وقد مكن وجعل على خزائن الأرض .. وها هو المسيح عليه السلام يأتي لينشر السلام على الأرض ويعلم الناس الحب والتسامح ويمارسه ليعلمه للناس فيكون قدوة يقتدى بها، والحبيب صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله يقول يوم فتح مكة: اذهبوا فأنتم الطلقاء.
مشاعل المحبة والرحمة التي حملها الأنبياء ينيرون بها للناس طريقهم ويصلحون بها حياتهم، هذه المشاعل تحتاج منا أن نرثها بحقها فنحملها لنكمل بها المسير ونصلح بها في الأرض ما استطعنا، ونوقف قوى الشر والطغيان والحقد والحسد الذي يكاد أن يحرق الأرض ويهلك الحرث والنسل.
إن قوى الشر تلبس أكثر من عباءة، وتتكلم بأكثر من لسان، وتتزين للناس بحلو الكلام، والقرآن يصفهم فيقول: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ) [سورة البقرة: 204].
إذ يعرفون أن للكون إله، بل ويشهدون الله على ما في قلوبهم، ثم يأتي البيان العملي ليبين ما في هذه القلوب من بغض وظلم فيقول: (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَاد) [سورة البقرة: 205].
فها هم الغزاة يأتون إلى بلادنا ليزيلوا قوى الشر ويصلحوا في الأرض كما يدعون، فإذا بهم يقتلون في ثلاث سنوات أضعاف ما قتل في هذه البلاد في عشرين سنة، وهؤلاء يلبسون عباءة الديمقراطية وحقوق الإنسان.
وآخرون من بيننا يلبسون عباءة الإسلام ويتحدثون باسمه إلى الناس، بل ويزعمون أنهم القائمون على أمره، المحافظون على أصوله، العاملون على إقامة شريعة الله في الأرض، ثم نراهم يقطعون ما أمر الله به أن يوصل، ويسفكون الدماء بغير حق، ويصدق فيهم قول الحق سبحانه: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) [سورة البقرة: 11].
وفريق ثالث استهوتهم الدنيا فأخذوا يجمعونها ويراكمون ثرواتهم ويكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله، وإذا أنفقوا أخرجوا الفتات الذي يبقي الفقير على قيد الحياة، ونحن نرى ونعيش في مجتمعنا حالة غير صحية من الناحية الشرعية والاجتماعية من تفاقم واتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء .. فالأغنياء يزدادون غنى والفقراء يزدادون فقرًا.
والإنفاق ليس القصد منه أن يبقى الفقير على قيد الحياة، ولكن من الواجب علينا أن نغنيهم فلا يحتاجون للسؤال .. وأن نوفر لهم ما يعيشون به حياة كريمة تليق بتكريم المولى لبني آدم على اختلاف جنسهم ولونهم ودينهم.
ولا شك أن شح النفوس عن الإنفاق وعن العطاء هي من قوى الشر التي تتلاعب بالإنسان فيبخل بما أعطاه الله حتى إنه يغيب عنه أن في هذا حماية لنفسه وماله من الهلاك في الدنيا، فهو بإنفاقه وتوسيعه على الفقير إنما يطفئ نار الحسد في قلب الفقير ويغلق مدخلًا من مداخل الشيطان في قلوب المحتاجين، ولكن الأسمى والأرقى مفهومًا ونيتة أن يعطي وهو يعلم أن هذا حق السائل والمحروم كما قال الحق سبحانه، فإذا أعطى فهو إنما يعطي حقًّا وليس تفضلًا.
ولا بديل عن ميراث الأنبياء لإصلاح ما يفسده الشر وأهله، لا غنى عن إعلاء وإرساء قيم الحب والرحمة والمودة والتسامح وغرسها في نفوس أبنائنا .. لا بد لنا أن ننشر هذا النور في النفوس لنـزيل به آثار هذا الشر من ظلمة وظلم.
كيف ترسخت في نفوس هؤلاء كل معاني الحقد والكراهية ليفسدوا علينا فرحة العيد، فنصبح على خبر ومشهد شنق صدام حسين بهذه الصورة المهينة، شارك فيها هؤلاء الذين قاموا بعملية إعدامه وهم يهللون ويكبرون في تشف وغل لا تحمله إلا قلوب سقيمة ملئت بالبغض والحقد.
نعم إن الصورة قاتمة والظلام حالك، ولكن لا تخلو ولن تخلو الأرض من أناس يحملون في قلوبهم نور المحبة والرحمة، قد يتواروا في بعض الأحيان، وقد يكبتوا في أحيان أخرى، ولكن لا بد لهم ألا يستسلموا أو يتخاذلوا، فهذا هو قدرهم وهذه هي مهمتهم، ألا وهي حمل مشاعل الحب لنشر نورها في نفوس الناس، نعم، ليس من حقهم أن يتراجعوا أو أن ينسحبوا من الميدان بحجة علو صوت الظلم، بل لا بد عليهم من الصمود والثبات، إنهم الأمناء على هذا النور، فقد استودعه الله قلوبهم وعليهم أن يحملوه إلى من حولهم ليضيئوا لهم الطريق، فكثير منهم يعيش في الظلام وهو لا يدري، فإذا اصطدم بواحد من حملة هذا النور فوجئ بأنه كان يتخبط في طريق مظلم وهو لا يدري، فلما رأى النور تبين له الفارق بين النور والظلمات، وكم من معجب بنفسه وبرأيه يظن أنه يعلم وهو لا يعلم. وكم من إنسان يعتقد أنه يرى وهو مطموس البصيرة يمشي على غير هدى.
لا بد من صرخة حق توقظ هذه القلوب وتحمي النفوس وتنبه أهل الغفلة، فلو أخذنا تعدد الصور السلبية في سلوكنا كمجتمع من المفترض فيه أنه مجتمع مؤمن، له منهج وشريعة تقوم على أسمى القيم وأرفعها على الإطلاق، لو عددنا هذه الصور لرأينا صورًا قاتمة السواد يتخللها بعض أشعة النور.
ولكن هل تنقشع ظلمة الليل إلا ببداية هذه الأشعة التي تشرق على استحياء، فتبدأ في تبديد هذا الظلام، وتنتشر حتى يكتمل إشراق شمس الحق، فلا يتخبط في ظلمته إلا أعمى مطموس البصيرة.
أفيقوا أيها الناس! فنحن في مركب واحد، إذا غرق هلكنا جميعا، يا أهل النور، اخرجوا حاملين مشاعلكم، لا تبتئسوا ولا تنتظروا أن تروا الأثر في حياتكم، فكم من أهل الإصلاح لم ينتفع بهم إلا بعد رحيلهم، وكم من أهل الدلالة لم تدرك قيمتهم إلا بعد غيابهم.
عليكم بالغرس وليحصد من يحصد، فلكم الأجر والثواب، لقد أمرنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن نعمر ونصلح ولو أوشكت القيامة أن تقوم، فإن استطاع أن يغرسها فليفعل، فلنخرج عن طور أنفسنا وانحسارنا في أنانيتنا، ولنجعل منهجنا ودستورنا قول النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).