عجيب أمر هذا الإنسان، كيف أنه لا يشعر بالنعمة التي أنعم الله بها عليه، فإذا سلبت شعر بمدى خسارته ومدى افتقاده لها، ولذلك أمرنا النبي بالشكر على النعم للحفاظ عليها وكذلك قال الله عز وجل في كتابه: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) [سورة ابراهيم: 7].
وقد أحسست بهذا الإحساس؛ شعور بالحزن الممزوج بالأسف والتأنيب للنفس لعدم اغتنام الفرصة، وكأن الإنسان لا يتعلم من أخطائه، نعم أحاسيس مختلطة شعرت بها عندما علمت بوفاة شيخي ومعلمي الذي كنت أتعلم على يديه قراءة القرآن يوم الجمعة السابق على وقفة عرفات في هذا العام، أقوم بالاتصال على استحياء لأني قد تغيبت عنه عدة أسابيع، فإذا بابنته تجيب الهاتف وتخبرني أن الشيخ في غيبوبة منذ أسبوع بعد إصابته بجلطة في المخ، وكم كان وقع الصدمة علي، وقبل أن أفيق من هذه الصدمة أرى رقم الهاتف الخاص بمنزله وبعد ساعة واحدة من اتصالي الأول على هاتفي على المحمول فأجيب فإذا بابنة معلمي على الطرف الآخر تنعي إلي الشيخ وهي باكية وتقول (الشيخ ممدوح خلاص يا شيخ أكرم) وترددها عدة مرات.
حزن عميق، أسف شديد، ندم وحسرة، ما سبب هذا الحزن؟ هل أنا حزين لفراقه، أم حزين على فقدان المعلم والأستاذ؟ كم كان يحثني على الإسراع في الحفظ ويعاقبني إذا تغيبت عنه .. كلماته في أذني (يا ولد، شد حيلك، أخاف ألا يمهلني العمر لأنهي معك حفظ القرآن). كلمات كانت تبدو لي عادية وقتها، وكان ذلك منذ ثلاثة أشهر، إلا أنها الآن تعني الكثير.
بكيت كثيرًا بعد أن توجهت إلى بيته المتواضع بحي طره، وجلست أبكي وجاء ابنه يخفف عني ويطلب مني عدم البكاء ويواسيني .. أشعر أني قد سلبت شيئًا عزيزًا زاد من حزني على فراقها وفقدها أني كنت أتهاون في الأخذ منها والحفاظ عليها .. جلست أبكي كما لم أبك لفقد أناس أقرب لي كثيرًا من الشيخ والمعلم، حتى إني عندما عدت إلى بيتي قالت لي زوجتي (لم أكن أعلم أنك تحبه كثيرًا إلى هذا الحد)، فقلت لها (وأنا لم أكن أعلم).
وفي اليوم التالي توجهت إلى المسجد الذي كان يعقد فيه مقرأة القرآن بحي طره، وإذا بالمسجد يكتظ بالمصلين في صلاة الظهر، رجال، نساء، شيوخ، شباب، مئات من الناس جاءوا لوداع هذا الرجل، فرأيت كرامة القرآن، الشيخ رجل بسيط، متواضع الحال بمقاييس الدنيا وأهلها، إلا أن الله قد جمع له القلوب ووضع له القبول في الأرض .. كان ضريرًا لا يرى بعينيه، ولكن بصيرته قد أنارت بنور القرآن فاستغنى بها عن بصره .. دخلت فرأيت جسده مسجى ينتظر الصلاة عليه، والمسجد به سكينة وخشوع، فما أن رأيته حتى سال الدمع مني.
وبعد الصلاة خرج الجثمان في مشهد مهيب، أنظر خلفي فلا أرى نهاية الجنازة، كيف علم كل هؤلاء الناس؟ قلوب جمعها الله على حب رجل من أهل القرآن، فليس بينهم من جاء مجاملًا، فلا مجال للمجاملات، فالكل جاء محبًّا صادقًا في محبته.
سار الجمع إلى القبور رافضين وضع الجثمان في سيارة، وأصروا أن يحملوا الشيخ على أعناقهم إلى مثواه الأخير، والكل يتسابق على حمله والمشاركة في إيصاله إلى هذا المقر الذي يستقر فيه الجسد، أما الروح فإنها ترقى وترقى، فأهل القرآن هم أهل الله وخاصته.
عشت يا سيدي زاهدًا في الدنيا، لا تملك منها إلا القليل، فقد كنت أذهب له في بيته يوم السبت من كل أسبوع، وأرى كيف كان يعيش هذا الرجل، كنت أرى طعامه، وكنت أرى حجرته، حياة بسيطة في رضا وقناعة عجيبة، كان يستغني بالقرآن، ويشعر به أنه أغنى الناس، والحق أن من يحمل في صدره القرآن فقد أوتي خير الدنيا وخير الآخرة.
لا أدري لماذا أكتب هذا الكلام، فعندما أمسكت بالقلم لم يكن بخاطري أن أكتب عن أستاذي ومعلمي الشيخ ممدوح عبد الجليل، فما الذي يعني القارئ الكريم في هذا الأمر، أمر صلتي بمعلمي ومدى حزني عليه، ولكني وجدت نفسي مدفوعًا للكتابة عن هذه التجربة وعن هذا الرجل. ولذا فسوف أتم هذا الكلام بما رواه لي معلمي رحمه الله عن حياته، وكيف توجه إلى القرآن بعد أن ابتعد عنه، ففي هذه القصة آية من آيات الله.
كان الشيخ يحفظ القرآن وهو طفل صغير إلا أن القروش العشرة التي كان يدفعها والده للمحفظ كانت تمثل عبئًا ماديًّا على الأسرة لضيق ذات اليد، فلم يستطع الشيخ أن يلتحق بمعهد القرآن كما أراد.
وتصور أيها القارئ الكريم بأي مهنة التحق هذا الشاب، عمل طبالًا في شارع محمد علي .. نعم طبال!! بل كما قال لي أنه كان من أحسن ثلاثة طبالين وأمهرهم. لقد تعجبت كثيرًا عندما علمت ذلك، ولكن ما جاء وراء ذلك كان أعجب.. فقد كان له زميل يعزف على آلة (الأوكرديون) وكان هذا الزميل يشرب الخمر ويعمل وهو في حالة سكر، وذات يوم وفي أثناء عملهم في أحد الأفراح فإذا بهذا الرجل يخاطب الشيخ قائلًا (ماذا تفعل هنا يا ابن .....، أنت أعمى وليس لك إلا القرآن، ماذا تفعل معنا هنا). فإذا بالدنيا تدور بالشيخ على حد تعبيره حتى إن يده اضطربت على الطبلة فشعرت بذلك الراقصة فلطمته على وجهه .. فانتبه من حيرته وما أن انتهى الحفل حتى طلب من زملائه ألا يتناولوا وجبة العشاء في الفرح كما هو معتاد، ثم دعاهم للعشاء على نفقته، وبقي معه عشرون قرشًا من هذا العمل، فألقاها في الشارع وعاد إلى طره سائرًا على قدميه.
وعاد الشيخ إلى رحلته مع القرآن، فعاود حفظه، والتحق بمعهد القراءات، وأتم القراءات وأتقنها، وصار مقرئًا بالإذاعة والتليفزيون ومعلمًا للقرآن. سبحان من يرسل رسائله على لسان من يشاء من عباده في إشارات عناية ورعاية لمن أحب من خلقه.
كم أشعر بحسرة على التفريط في نعمة الصحبة لمعلم وأستاذ تهاونت في التلقي عنه، ولكن في ذلك دروس وعبر، فاللهم أجرني في مصيبتي وأبدلني خيرًا منها.
كم يكون الإنسان حريصًا على التحصيل إن تعلق الأمر بالمال والدنيا الزائلة، ويتهاون إذا كان الأمر متعلقًا بأمر من أمور الآخرة، وليس هذا إلا لطول الأمل في الحياة وغفلة الإنسان عن اقتراب الموت منه وهو لا يدري.
حقيقة إن أمر الصحبة أمر عظيم، والإنسان يكون محظوظًا إذا وجد من ينتفع بصحبته في هذه الدنيا وخاصة في أيامنا هذه.. وأقصد بالانتفاع بالصحبة الانتفاع بها في القرب من الله والعلم النافع الذي يقرب إليه سبحانه، ولا أقصد الانتفاع الذي يسعى الناس إليه من صحبة أهل المال أو المناصب أو الجاه طلبًا لمصالح زائلة في دنيا قصيرة، بل ويهدرون في ذلك كرامتهم وهم يتملقون هذا أو يتوددون إلى هذا .. ولكن أقصد صحبة أهل الصلاح والمحبة لله ورسوله، أقصد صحبة أهل الاستقامة وحسن الخلق، أقصد صحبة رجال يعينون على أمر الآخرة ويذكرونك بها، إذا وجد الإنسان هذه الصحبة لا بد له أن يغتنمها ويحصل منها الفوائد والمنافع الجمة .. فما وصل من وصل إلا بصحبة من وصل، ولا عرف من عرف إلا بصحبة من عرف، فبصحبة أهل العلم بالله والاستقامة على نهج رسول الله يحصل الإنسان هذه الثمرات.
وفي هذا يقول سيدي أحمد بن عطاء الله السكندري صاحب الحكم: (اصحب من ينهضك إلى الله حاله ويدلك على الله مقاله) حكمة عظيمة وفائدة جليلة وكلام دقيق في الإرشاد إلى وصف من ينتفع بصحبته.
فالشيخ يرشد أولًا إلى حال من نطلب صحبته، وهو حال صدق واستقامة وهمة عالية في الإقبال على الله، تسري إليك إذا صحبته فتنهض من رقادك وتنشط من خمولك فتقبل على الله، فإذا تحركت همتك ونشطت عزيمتك كان في مقاله الإرشاد والتوجيه إلى الطريق الصحيح والقول المفصل.
نعم، فهمة دون إرشاد قد يتخبط صاحبها ولا يدري إلى أين يسير، وإرشاد دون عزيمة وهمة لا يؤتي ثماره لأن المتلقي خامل معرض لا يستمع ولا يطيع.
فليبحث من أراد السلوك إلى الله عن أحد هؤلاء وهم لا شك موجودون ولكن لا بد من صدق الطلب للوصول إليهم، ولا بد من إخلاص النية للانتفاع بصحبتهم، فاللهم دلنا على من يدلنا عليك، وارزقنا حسن صحبتهم إليك يا رب العالمين.