نشأ طالبًا للعلم، محبًّا للعلماء، وحصل ما حصل من العلوم الشرعية وبرع فيها براعة كبيرة، إلا أن هذا كله لم يشف غليله، ولم يشبع رغبته، ولم يطمئن نفسه، فما زال المقصد بعيدًا، وما زال الطريق طويلًا، إنه يبحث عما لا يوجد في كتاب ولا ينقل بكلام، ويستدل عليه بوعظ وإرشاد، إنه يبحث عن نور المعرفة والعلم بالله.
لقد حصل ما يحصل بالاكتساب ولكنه يرغب فيما يفتح به من عند الوهاب، ومن هنا انطلق الشاذلي رحمه الله في رحلة البحث عن المرشد الذي يفتح له أبواب المعارف ويضع قدمه على طريق الوصول .. خرج من بلدته بالمغرب يبحث عن الولي المرشد، ولكن إلى أين؟ إن بغداد كانت قبلة طلاب الدنيا والآخرة، فهي تعج بالعلماء من أهل الفقه والحديث، وبها الأئمة الأعلام من أهل التصوف منذ عدة قرون، فهل هي على حالها الآن في القرن السابع الهجري؟ تحرك الإمام الشاذلي رحمه الله، والأسئلة تدور في خاطره، ونزل بلدة تلو بلدة، وقطرًا بعد قطر، وانتهى به المطاف إلى بغداد، والتقى فيها بالأولياء وقال رضي الله عنه: (لما دخلت العراق اجتمعت بالشيخ الصالح أبو الفتح الواسطي، فما رأيت بالعراق مثله).
ولكن همة الشاذلي كانت تبحث عن إمام الأولياء وقمتهم في زمانه، إنه يبحث عن دورة أهل الصلاح وقطبهم .. ها هم الأولياء يرى النور في وجوههم ولكنه لم يجد مطلوبه، وذات يوم قال له أحد الأولياء: (إنك تبحث عن القطب بالعراق مع أن القطب ببلادك، ارجع إلى بلادك تجده).
وعاد أبو الحسن الشاذلي من حيث أتى، سفر ومشقة وهمة عالية في طلب المعرفة والقرب، ووصل أبو الحسن إلى المغرب وقد بعث الأمل فيه همة السير، ودخل بلدته وأخذ يسأل المقبل والمدبر عن غايته، يسأل عن المرشد، يسأل عن معلمه.
يقول أبو الحسن: (ولما قدمت عليه وهو ساكن بمغارة برأس جبل، اغتسلت في عين بأسفل ذلك الجبل، وخرجت عن علمي وعملي، وطلعت إليه فقيرًا، وإذا به هابط إلي، وعليه مرقعة، وعلى رأسه قلنسوة من خوص، فقال لي : (مرحبا بعلي بن عبد الله بن عبد الجبار)، وذكر نسبي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال لي : (يا علي، طلعت إلينا فقيرًا من علمك وعملك، فأخذت منا غنى الدنيا والآخرة).
يقول أبو الحسن: (فأخذني منه الدهش، فأقمت عنده أيامًا إلى أن فتح الله علي بصيرتي).
نعم أقام أيامًا حتى فتح الله على بصيرته، فأركان المعادلة مكتملة، نية خالصة، وهمة عالية، وشيخ عارف .. نية خالصة من كل ما سوى الله، حتى تخلص من نفسه وعلمه وعمله وجاء فقيرًا طالبًا .. وهمة عالية، وكيف لا وهو الذي سافر في زمن كان يصعب فيه السفر من المغرب إلى العراق مرورًا بالأمصار، ثم عاد أدراجه ليبحث عمن يدله على الله .. وشيخ عارف وهو الولي الكبير سيدي عبد السلام بن مشيش يقول عنه صاحب كتاب الدرر البهية: (هوالقطب الأكبر، والعلم الأشهر، والطود الأظهر العالي السنام وهو البدر الطالع الواضح البرهان، الغني عن التعريف والبيان، المشتهر في الدنيا قدره، والذي لا يختلف في غوثيته اثنان، وطريقه ترياق شاق لأدواء العباد، وذكره رحمة نازلة في كل ناد، سرى سره في الآفاق، وسارت بمناقبه الركبان والرفاق، قضى عمره في العبادة، وقصده للانتفاع به أهل السعادة .. وكان رضي الله عنه في العلم في الغاية، وفي الزهد في النهاية، جمع الله له الشرفين: الطيني والديني، وأحرز الفضل المحقق اليقيني).
فمن كان هذا وصفه فتح الله على من صحبه بنية خالصة واهتدى به وانتفع كل من رآه أو جالسه.
رسم عبد السلام بن مشيش لأبي الحسن طريقه وأرشده بنور البصيرة إلى المسار الذي سيسير فيه إلى أن يكون علمًا وإمامًا يقتدي به القاصي والداني، ويؤسس مدرسة من أعظم المدارس في الإسلام، خرجت رجالًا وأئمة على مر الدهور والأيام، سلكها أقوام من أهل الفوز والإنعام.
وتأمل هذه الوصايا النورانية التي يرسم بها عبد السلام بن مشيش الطريق ويضع به علامات لكل سالك لمسلك أهل التحقيق. وقبل أن نستمع لكلام هذا الإمام لا بد لنا أن نعلم أن كلام هؤلاء العلماء الربانيين ليس ككلام غيرهم من علماء الدنيا الذين يزهدون الناس في الدنيا وهم من أشد طلابها، أو يحثون الناس على التواضع وقد انطوت قلوبهم على الكبر والعجب .. كلا، إن هؤلاء الربانيين قد صفت سرائرهم وأنارت فترجمت ألسنتهم عن حقائق انقدحت في هذه البواطن النقية والسرائر الزكية، مستمسكين في ذلك كله بالكتاب والسنة عاملين بهما ملتزمين لهما، واسمع إلى قول بن مشيش إذ يقول: (أفضل الأعمال أربعة بعد أربعة، المحبة لله، والرضا بقضاء الله، والزهد في الدنيا، والتوكل على الله، هذه أربعة وأما الأربعة الأخرى فالقيام بفرائض الله، والاجتناب لمحارم الله، والصبر عما لا يعني ، والورع من كل شيء يلهي).
قيام بالفرائض واجتناب للمحارم وصبر وورع، يعقب ذلك محبة ورضا وزهد وتوكل، إن هؤلاء الأولياء يجمعون معاني الدين كاملة وحقائق المعرفة بالله في كلمات قليلة، ولكنها تحتاج إلى قلوب حية بنور الله لتتلقاها وتحملها في طياتها للقيام بحقها والعمل بها.
وقضى أبو الحسن هذه الأيام ينهل من نور هذا القطب الكبير، وحان موعد الفراق بعد أن عرف أبو الحسن طريقه ووقف مودعًا لعبد السلام بن مشيش قائلًا: (يا سيدي، أوصني. فقال له : يا علي، الله الله، والناس الناس، نزه لسانك عن ذكرهم وقلبك عن التمايل من قبلهم .. وعليك بحفظ الجوارح وأداء الفرائض، وقد تمت ولاية الله عندك .. ولا تذكرهم بواجب حق الله عليهم، وقد تم ورعك .. وقل : اللهم ارضني من ذكرهم، ومن العوارض من قبلهم، ونجني من شرهم، واغنني بخيرك عن خيرهم، وتولني بالخصوصية من بينهم، إنك على كل شيء قدير).
وهكذا يحمل أبو الحسن بين جنباته أنوارًا وأسرارًا استمدها من روح هذا الولي الكبير لتكون بداية انطلاقه في رحلة العروج الروحي والسمو النفسي لمراتب أهل الصدق والولاية .. نعم مجرد بداية، فلم يكن ما أفاض به عبد السلام بن مشيش على أبي الحسن منتهى غايته، ولكنه كان بداية انطلاقه وسيره، فخرج من عنده وسار، ولكن سيره هذه المرة يختلف عن سيره الذي أوصله إلى بغداد. في المرة الأولى كان يصحبه بحث وقلق وحيرة، أما هذه المرة فهو يسير على نور وبصيرة.
سار أبو الحسن إلى حيث أخبره شيخه، فنزل إلى بلدة (شاذلة) ولكنه آثر الخلوة وزهد في مخالطة الناس، وهكذا دائما تكون بدايات أهل الهداية، يؤهلون أولًا بالانقطاع عن الخلق والهجرة إلى الله والفرار إليه، هكذا حبب إلى نبينا الخلوة في الغار قبل الوحي استعدادا لتلقيه وحمل الرسالة.
فخرج أبو الحسن إلى جبل (زغوان) بصحبة رجل صالح من أهل شاذلة وكان خروجه بسبب التفاف الناس حوله في شاذلة، فخرج وانقطع متعبدًا صائمًا ذاكرًا، فقد كان يشعر أنه ما زال في حاجة للمجاهدة، وهكذا دائمًا أهل الكمال والهمم العالية، يشهدون في أنفسهم النقص على الدوام والحاجة إلى الارتقاء بأنفسهم.
وانقطع أبو الحسن وصاحبه للعبادة، ورأى الحبيبي صاحب أبي الحسن منه الكرامات وخوارق العادات، وكان كلما نزلا إلى شاذلية يحدث الناس بما يراه من أحوال الشاذلي وكراماته.
ولم يكن الشيخ بمعزل عن الناس في خلوته، ولكن ابتعد عن المتطفلين، فلن يذهب إليه في هذا المكان إلا أهل الصدق الراغبين في رؤية الشيخ والانتفاع به.
فلما تمت فترة الإعداد الروحي للشيخ أمر أن ينـزل إلى الناس لينتفعوا به، لقد انتهت المرحلة الأولى، مرحلة الإعداد والتهيؤ والرقي، مرحلة التحنث والانقطاع، قد امتلأ المعين، ورمت النفس الشيطان بجمرات، وتخلت، وتحلت، تزكت وترقت، وجاء وقت العطاء.
بدأت المرحلة الثانية لينتفع الخلق بعبد من عباد الحق، أعده الله لهذه المهمة وأعطاه ما يوصله إلى خلقه ... يتبع.