نسخة تجريبيـــــــة
الإمام الشاذلي ومدرسته الصوفية -2

انتهت مرحلة الإعداد، وأمر الإمام الشاذلي أن ينـزل من عروج الروح في سماء القرب إلى أرض الدعوة والإرشاد في صحبة الخلق لينتفع به الناس .. هكذا جاءه الأمر. ويقول الشاذلي في ذلك: قيل لي: يا علي، اهبط إلى الناس ينتفعوا بك.. هكذا عن طريق الإلهام يخاطب الأولياء .. فقال: يا رب، أقلني من الناس فلا طاقة لي بمخالطتهم .. فقيل لي: انـزل فقد أصحبناك السلامة، ودفعنا عنك الملامة. ونـزل أبو الحسن ليبدأ المرحلة الثانية، فقد انتهت المرحلة الأولى التي رسمها له الشيخ عبد السلام بن مشيش.
وهنا لمحة جميلة، فقبل أن يغادر الإمام الشاذلي (شاذلة) قال أبو الحسن: يا رب، لم سميتني بالشاذلي، ولست بشاذلي (يعني أنه ليس من شاذلة)، فقيل له :يا علي، ما سميتك بالشاذلي، وإنما أنت الشاذلي (بتشديد الذال المعجمة)، يعني : المفرد لخدمتي ومحبتي. نعم لقد شذ أبو الحسن عن الخلق، شذ لله وانفرد له محبة وخدمة ومجاهدة ودعوة، شذ حتى صار علمًا يقتدى به، شذ حتى صار علامة يهتدى به في الظلمات .. قرون بعد قرون تمر وما زال منهج الإمام الشاذلي طريقًا للسائرين وما زال الشاذلي إمامًا للسالكين وقدوة للصادقين المخلصين.
ويتوجه أبو الحسن إلى تونس، حيث بشره شيخه ومرشده إلى أنه سيؤتى فيها من قبل السلطان، فقد أدى إقبال الناس من الخواص والعوام على أبي الحسن إلى إشعال الغيرة في قلب القاضي، فوشى بأبي الحسن عند السلطان محذرًا من إقبال الناس والتفافهم حول أبي الحسن بحجة أن في هذا زعزعة لملك السلطان.. وهكذا السلاطين والأمراء يخشون على سلطانهم فيسمعون لمن يدخل لهم من هذا الباب ليوقع بمن أراد.. يسمع السلطان هذه الوشاية وأبو الحسن أبعد ما يكون عن التطلع إلى الملك أو أن تهفو نفسه إلى إمارة أو سلطان.
إن أبا الحسن رجل من أهل الله، أعده الله لمهمة أخرى ألا وهي الدلالة عليه والإرشاد إليه.
أراد القاضي أن يوقع بالشيخ، واستجاب الملك إلا أن الله قد أجرى للشيخ من الكرامة ما رد به عن أبي الحسن كيد السلطان فأطلق سراحه واعتذر له.
وعزم الشيخ على الحج، فتحرك ومعه أصحابه تجاه المشرق، واهتـزت البلدة لخروج أبي الحسن، وعلم السلطان بخروجه، وخشي أن يكون قد خرج من البلدة بسببه، فأرسل من يرجوه أن يعود، فأخبره الشيخ أنه قد خرج حاجًّا قاصدًا بيت الله الحرام. ووصل الشيخ إلى الإسكندرية ومنها إلى القاهرة، واهتزت الديار المصرية وأحسن العلماء والفقهاء استقبال الإمام الشاذلي وتوافدوا لمجالسته والانتفاع بعلمه.
فإن أمثال أبي الحسن يفتح الله عليهم بعلوم روحية وأنوار معرفية يلتمسها أهل الصدق طالبين الهداية والمعرفة، فليست علومهم مما كتب في السطور ولكنها من الأنوار التي نقشت في الصدور.
وقبل وصول أبي الحسن إلى القاهرة كانت وشاية من القاضي بتونس قد وصلت إلى السلطان بمصر تحذيرًا من أبي الحسن قائلًا فيها: إن هذا القادم إليكم قد شوش علينا بلادنا وكذلك يفعل ببلادكم).
وأراد قوم يدعون (القبائل) الوساطة من أبي الحسن لدى السلطان ليرفع عنهم ظلم الوالي بالإسكندرية. فخرج أبو الحسن إلى القاهرة وكان لا يدخل أحد ولا يخرج إلا ويفتش، فدخل وأصحابه ولم يعرف بهم أحد، حتى وصل إلى القلعة واستأذن على السلطان، فتعجب السلطان من وصوله إلى القلعة وقد أمر أن يعتقل بالإسكندرية، فلما أذن له ودخل يشفع في القبائل قال له السلطان: (اشفع في نفسك). وعرف أمر الشهادة التي جاءت من قاضي تونس، فإذا بالشيخ يتكلم قائلًا: أنا وأنت والقبائل في قبضة الله. وقام الشيخ!  فلما مشى قدر عشرين خطوة حركوا السلطان فلم يتحرك ولم ينطق، فأسرع القوم إلى الشيخ وجعلوا يقبلون يديه ويرجونه أن يعفو عن السلطان ويرجع إليه، فرجع أبو الحسن فحركه بيده فتحرك ونـزل من على سريره، وأخذ يسترضيه ويطلب منه الدعاء.
وذهب أبو الحسن وأصحابه إلى الحج ثم عادوا إلى تونس، وهناك التقى أبو الحسن بالشيخ الولي العارف (أبي العباس المرسي). وكان شابًّا، فلما لقيه قال أبو الحسن: (ما ردني لتونس إلا هذا الشاب). أما أبو العباس فقد رأى الشيخ فصحبه ولازمه حتى مات، فكان وزيره وخليفته من بعده. وبقي أبو الحسن في تونس ينتظر الأمر بالخروج، فقد كان يعرف أن مقامه بتونس مؤقت، فرأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول له: (يا علي، انتقل إلى الديار المصريه تربي فيها أربعين صديقًا) .. وتهيأ الشيخ سريعًا ورحل إلى مصر مع أصحابه.
ولما وصل الشيخ إلى مصر بشر بأيامه المقبلة فقيل له: (يا علي، ذهبت أيام المحن، وأقبلت أيام المنن، عشر بعشر، اقتداء بجدك صلى الله عليه وآله وسلم).
وبقي أبو الحسن بالإسكندرية مرشدًا ومربيًا وداعيًا إلى الله على بصيرة. وفي قدومه ومقامه في مصر يقول صاحب المفاخر العلية نقلًا عن ابن مغيزل: «إن الشيخ رضي الله عنه لما قدم من المغرب الأقصى إلى مصر صار يدعو الخلق إلى الله تعالى، فتصاغر وخضع لدعوته أهل الشرق والمغرب قاطبة، وكان يحضر مجلسه أكابر العلماء من أهل عصره مثل سيدي الشيخ عز الدين ابن عبد السلام، والشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، والشيخ عبد العظيم المنذري، وابن الصلاح، وابن الحاجب، والشيخ جمال الدين عصفور، والشيخ نبيه الدين بن عوف، وهؤلاء سلاطين علماء الدين شرقًا وغربًا في عصرهم، وأيضًا الشيخ محيي الدين بن سراقة، والعلم ياسين تلميذ ابن العربي رضي الله عنهم، فكانوا يحضرون ميعاده بالمدرسة الكاملية بالقاهرة لازمين الأدب، مصيخين له، متلمذين بين يديه، وإن الشيخ الإمام قاضي القضاء بدر الدين بن جماعة الولي بن الولي رحمهم الله كان يرى أنه في بركة الشيخ أبي الحسن في مصر، وكان يفتخر بصحبته، وبحضور جنازته والصلاة عليه بحميثرة». وقد كان الشيخ حقيقة من أهل الفهم عن الله ومن الذين أظهر الله لهم الكرامات الظاهرة والباطنة .. وكان صاحب منهج مستقيم متابعًا فيه لسيد المرسلين قائمًا على أمر سنته صلوات ربي وسلامه عليه .
وقد كان الشيخ حسن الملبس، جميل الهيئة، حتى إنه دخل عليه فقير وعليه لباس من شعر، فلما فرغ الشيخ من كلامه، دنا من الشيخ، وأمسك بملبسه وقال: (يا سيدي، ما عبد الله بمثل هذا اللباس الذي عليك). فأمسك الشيخ ملبسه فوجد فيه خشونة فقال : (ولا عبد الله بمثل هذا اللباس الذي عليك، لباسي يقول : أنا غني عنكم فلا تعطوني، ولباسك يقول : أنا فقير إليكم فأعطوني) .. وهذا هو طريق الشيخ أبي الحسن والشيخ أبي العباس من بعده، وليس هذا انتقادًا لملبس الفقير، ولكن رفع الحرج عن الفقير أو الغني في الملبس ما دام محسنًا، قال تعالى:
(مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) [سورة التوبة:91].
وفي يوم كما يروي أبو العباس أنه دخل على الشيخ أبي الحسن، وفي نفسه أن يأكل الخشن، وأن يلبس الخشن، فقال له الشيخ: يا أبا العباس، اعرف الله وكن كيف شئت.
إن الأمر عنده أمر معرفة، ثم استرسال مع الله بعد هذه المعرفة فيما أراد سبحانه بحيث يكون مراده أحب إلى العبد من مراده لنفسه، واختياره أقرب إلى قلب العبد من اختياره لنفسه. إن أبا الحسن يرسم لأصحابه وأتباعه طريق الاعتدال على قاعدة (اعرف الله وكن كيف شئت) فهو ينصحهم قائلًا: (لا تسرف بترك الدنيا فتغشاك ظلمتها، أو تنحل أعضاؤك لها فترجع لمعانقتها بعد الخروج منها، بالهمة أو بالفكرة، أو بالإرادة أو بالحركة).
وهكذا قضى أبو الحسن حياته داعيًا إلى الله، واجتمع حوله خلق كثير، ولما جاء الصليبيون بقيادة لويس التاسع واحتلوا دمياط تحرك الإمام الشاذلي إلى المنصورة .. إن الشيخ قد كبر سنه، وكف بصره ومع ذلك يرى مكانه بين صفوف المجاهدين ومعه العلماء يسيرون في الطرقات يذكرون الجنود بالآخرة ويحثونهم على النصر أو الشهادة .. إن مظهر هؤلاء العلماء وهم يسيرون في الطرقات يبعث روح المجاهدة في قلوب الجنود، وقد كانوا يمضون نهارهم بين الجنود فإذا جن عليهم الليل اجتمع هؤلاء الأكابر يتجهون إلى مولاهم بالصلاة والدعاء، ثم يجلسون يتدارسون كتابًا من الكتب، كل هذا في خيمة من خيام المعسكر.
وذات ليلة جلس هؤلاء الأعلام يتدارسون (الرسالة القشيرية)، تقرأ عليهم وهم يسمعون ويشرحون .. وتحدث العلماء وأبو الحسن صامت يستمع إلى العلماء، فلما فرغوا طلبوا منه أن يتكلم، فأبى أبو الحسن، فألحوا عليه في الطلب، فسكت الشيخ فترة، ثم تكلم. ولنستمع إلى وصف الشيخ عز الدين بن عبد السلام لكلام الشيخ، كلمات قليلة عبر فيها سلطان العلماء العز بن عبد السلام عن حال كلام أبي الحسن، فقد قام الشيخ ابن عبد السلام يقول: (اسمعوا هذا الكلام الغريب، القريب العهد من الله) .. كلام غريب لأنه ليس مسطورًا في كتاب، قريب العهد من الله، فهو إلهام الوقت وفتح من الحق. هذه شهادة من العز بن عبد السلام لكل من أراد أن يعرف قدر هذا الإمام الشاذلي..
وللحديث بقية

الشيخ: أكرم عقيل

التقييم الحالي
بناء على 61 آراء
أضف إلى
أضف تعليق
الاسم *
البريد الإلكتروني*
عنوان التعليق*
التعليق*
البحث