عنوان هذا المقال كلمة قالها الإمام الشاذلي رحمه الله نقلها عنه تلميذه وخليفته من بعده الشيخ أبو العباس المرسي، وذلك حين دخل عليه أبو العباس كما يقول: دخلت على الشيخ أبي الحسن ونفسي تحدثني أن آكل الخشن وألبس الخشن، فنظر إلي وقال : يا أبا العباس، اعرف الله وكن كيف شئت.
ومع هذه الكلمة نقف، إن الشيخ هنا ينقل أبا العباس من حال إلى حال، ويغير تعلقات قلبه من المظاهر إلى الحقائق.
ولسنا هنا بصدد الحديث عن الشيخ الشاذلي رحمه الله فقد أفردنا للحديث عنه ثلاث مقالات ولكني أردت الوقوف عند هذه الكلمة لنرى أحوالنا فى هذا الزمان من خلالها .. فنحن زمن كثر فيه الكلام وقل العمل .. وإن كثر العمل قل الإخلاص، وتسللت إلى القلوب آفات تفسد الأعمال كالعجب والرياء وحب الشهرة وغيرها من أمراض القلوب.
وبمعنى آخر، اعتنينا بظاهر القول والعمل، ولم نهتم بمعرفة الله.. إن أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهم الذين عايشوا تنـزل الوحي، بل كان ينـزل الوحي موجهًا لهم ومعلمًا ومشرعًا، هؤلاء الأصحاب كان فيهم الغني والفقير، كان فيهم القوي والضعيف، كان فيهم التجار والزراع، وكان فيهم من يجلس خلف حجرات الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم والنبي يكفلهم ويطعمهم من الصدقات ومن الغنائم .
ومع تباين أحوالهم، واختلاف مظاهرهم، لم يأت فى سيرهم أو أخبارهم إن التفاضل بينهم أبدًا كان بشيء من هذه المظاهر، فمثلا عبد الرحمن بن عوف كان من التجار ومن أهل الثراء، فلم تمنعه تجارته ولم يقف ثراؤه حائلا بينه وبين أن يكون من المبشرين بالجنة. وكان عثمان رضي الله عنه كذلك له تجارة واسعة، وله مال وفير فكان هذا المال سببًا في أن يقول النبي: (ما ضر ابن عفان ما يفعله بعد اليوم)، حيث جهز جيش العسرة.
وفي مقابل هؤلاء، فإن هناك أهل الصفة، فقراء متجردون، يجلسون خلف بيت النبوة يذكرون الله وبالغداة والعشي يريدون وجهه، فجاء أمر الله لحبيبه (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) [سورة الكهف: 28].
ومن هذه المقابلة نستطيع أن نرى ونفهم أن معيار التقييم والميزان الحق عند الله (إِنّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ) [سورة الحجرات: 13] وأن القرب الحقيقي إنما هو في نقاء السريرة مع استقامة الظاهر على الشريعة.
والحق أن لكثير من الناس أحوالا وأسرارًا بينهم وبين ربهم، فهو وحده الذي يفتح لعباده أبواب القرب منه، وهو الذي يحيط بما في قلوبهم، ومن هنا جاء كلام الشيخ الشاذلي رحمه الله، فإذا عرف الإنسان ربه، عرفه بصفاته الموصوف بها سبحانه وتحقق بمعرفة هذه الصفات معرفة تحقق له معنى العبودية، فيشهد جلاله بشهود صفات الجلال، فيتحقق العبد بمعاني الخوف والحياء والهيبة نتيجة شهوده لهذه الصفات.
وعلى الجانب الآخر، يشهد صفات الجمال شهودًا يحققه بمعانى الحب والأنس والرجاء، وفي شهوده لكل من صفات الجلال والجمال، يشهد في هذه الصفات مطلق الكمال لله سبحانه، فيستولي على قلبه كمال التنـزيه له سبحانه، فيرى الكمال في كل ما يفعل، فيرضى ويسكن قلبه تحت مراد ربه.
إن الأمر أمر معرفة، معرفة له بما عرفنا به نفسه، ولكنها ليست معرفة إدراك وفهم فقط، ولكنها معرفة يقين، تخالط قلب المؤمن، فيتصف هو أي العبد بما يليق به من الصفات بين يدي ربه، مثل صفات التذلل والافتقار والرضا والحب وغيرها من الصفات التي تملأ قلوب العارفين في معاملاتهم مع رب العالمين.
إلا أننا نرى كثيرًا من الناس يقنع بما قام به من ظاهر العبادات دون أن يسعى للتحقق بمعنى العبودية الحقة لله سبحانه، تلك العبودية والإيمان الذي يجد حلاوته في قلبه. فالنبي لم يقل أن حلاوة الإيمان يستشعرها العبد بظاهر العبادة، ولو أن هذه العبادات من الضرورات التي يجب أن يقوم بها العبد طاعة لربه، إلا أن النبي قد أخبر أن الثلاثة التي يجد بها العبد حلاوة الإيمان هي: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، كما يكره أن يقذف في النار.
ثلاثة معان قلبية يجد بها الإنسان حلاوة الإيمان، ومع ذلك لا نجد أكثرنا يسأل نفسه إن كان قلبه قد امتلأ بها، وهل ظاهره يترجم عن هذه الأحوال، أم أنه فقط يؤدي عبادات حسية ظاهرية، وقلبه ما زال مشغولا بتعلقاته الدنيوية شأنه في ذلك شأن غيره ممن لا يؤدي هذه العبادات.
اعرف الله وكن كيف شئت!! فلا تقنع بصورة ظاهرية ليس من ورائها حقيقة معنوية، فتش في قلبك دائمًا، ومع كل خاطر فلتعرض هذا الخاطر على ميزان الشرع، واستشعر أن ربك يطلع على هذا القلب، واسأل هل تسعد برؤية الحق لهذه الخطرات في قلبك، أم أنك تستحي منه سبحانه.
اعرف الله حق المعرفة، واملأ قلبك بمحبته، فلن يضيرك أن تكون غنيًا أو فقيرًا، اعرف الله وكل ما شئت طالما أنك تأكل من الحلال الصافي، اعرف الله والبس ما شئت طالما أنك تلبس لباسًا شرعيًّا يستر عورتك بشرط ألا يكون لباسًا للشهرة، وليس فيه مخالفة لأمر النبي، كلبس الذهب أو الحرير للرجال.
اعرف الله معرفة تجعل من قلبك عليك رقيبًا، رقيبًا يأمرك بما يرضى من امتلأ هذا القلب بمحبته وانشغل بمرضاته، اعرف الله فلو عرفته لأحببته، ولو أحببته لاشتقت إليه، ولو اشتقت إليه لسعيت للقائه، ولو أحببت لقاءه وسعيت إليه، أحب لقاءك وأسعدك عند هذا اللقاء، فمن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه.
اعرف الله معرفة تستولي على قلبك فلا تجعل مكانًا لغيره في هذا القلب، فلا تحب إلا ما يحبه الله، وتزهد في ما سواه، ولا تعظم إلا ما عظم الله، ويهون في قلبك ما سواه، ولا يتعلق قلبك إلا بما يقربك إلى الله، وينصرف بعدها عن كل ما سواه.
معانٍ ومعانٍ وراء هذه الكلمة (اعرف الله) كلمة يندرج تحتها كل ما يقرب إلى الله ويوصل إليه.
فإذا فهم الإنسان هذا الكلام وأدرك معناه، لم يحكم على غيره بملبس أو مأكل أو مسكن، بل لم يجعل نفسه حكمًا على غيره من الأصل؛ ولذا كما ذكرت جاءت أحوال أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم متباينة ومختلفة، فهذا غني وهذا فقير، هذا سيد من أشراف قومه، وهذا عبد من العبيد، هذا يسعى في الأسباب، وهذا متجرد منقطع لله، ولم ينكر هذا على ذاك، ولم يسخر أحد من الآخر، فالمعيار هو التقوى.
و لو أدركنا أحوالهم وفهمنا هذا المعنى، لتوقف هذا الصخب والجدل الدائر في إنكار الناس على بعضهم البعض، ومن رؤية كل واحد لنفسه على الآخرين.
فنحن نعيش في هذا الجدل والكلام والدافع من ورائه إعجاب المرء برأيه وهو من المهلكات التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولذا نرى كثيرًا من الجدل في فروع الأمر فيها على السعة، فلو سافر بعض الناس، فأراد بعضهم قصر الصلاة والبعض الآخر أراد أن يتم صلاته لصار جدلا، وكل يريد أن يستدل على أن ما يفعله هو الأفضل، ولا يسأل واحد نفسه لماذا أقول هذا ؟ وهل من وراء ذلك هوى نفس أم لا؟ وانظر إلى اصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهم يرون أنهم كانوا في سفر مع النبي فصام بعضهم وأفطر بعضهم، فما عاب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم.
اعرف الله وكن كيف شئت، فإذا عرفته بقيت تحت مظلة شريعته الغراء، ولاتبعت حبيبه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم اتباعًا يوصلك إلى محبة الله (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [سورة آل عمران: 31].