نسخة تجريبيـــــــة
إلى متى أيتها النفس، ألا تعتبرين؟

أمسكت بالقلم لأكتب هذا المقال بعد أن كنت قد وصلت إلى قرار نهائي أن أعتذر عن مقال هذا الاسبوع، وحتى هذه اللحظه لا أدري ما سأكتب، ولا تخيرت موضوعًا للكتابة.
نعم، كدت أعتذر، لماذا؟ لأني كثيرًا ما أسأل نفسي هل الكتابة غاية في حد ذاتها أم أنها وسيلة؟ والمفترض أنها وسيلة .. وسيلة لإيصال معانٍ، فهل يقرأ الناس ما يكتب؟ وإن قرءوا هل فيما أكتب ما ينفع؟ كثيرًا من الأوقات كل حين وآخر يسيطر على هذا الشعور، لمن تكتب؟ ولمن تتحدث؟ بل الأصعب من هذا والذي يزعجني حقيقة عند محاسبة نفسي هو مواجهتها بالسؤال التالي، إن كان عندك ما ينفع الناس ألم يكن أولى بك أن تنتفع أنت به؟ فالعيب ليس في الناس وعدم انتفاعها بما تقول ولكن العيب فيك أنت، ففاقد الشيء لا يعطيه. ألوم على الناس بعض الوقت، وأجلد نفسي سائر الوقت، إلى متى أيتها النفس اللئيمة تعرفين الحق ولا تتبعينه؟ إلى متى التسويف إلى غد وبعد غد؟ إلى متى تظهرين للناس وجهًا غير وجهك الحقيقي؟ نلبس ملابس الرهبان وقلوبنا قلوب الذئاب.
لقد اكتفيت أيتها النفس بما يظنه الناس فيك وأرضاك هذا، هيهات هيهات، اسمعي معي قول ربنا سبحانه في كتابه العزيز:
(لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [سورة آل عمران: 188].
فلتقولي ما تشائين، ولتتظاهري بما تحبين، ولكن المرآة موجودة فلتنظري فيها ولتعرفي حقيقتك فلن ينفعك ما يظن بك الناس، فأنت أعلم بحقيقتك .. فإياك أن يرضيك أن تحمدي بما لم تفعلي، وإياك أن يسعدك ويقنعك ما يقوله الناس مما لا تعلمينه عن نفسك.
والعجب كل العجب لك أيتها النفس، تفرحين بالمدح وإن لم يكن ما مدحت به من أوصافك .. وتغضبين من الذم بما هو فيك .. وما هذا إلا أنك قد شغلك الناس وما يقول الناس، وغفلت عن رب الناس وما يعلمه رب الناس .. وهل النفاق إلا هذا؟ وهل الرياء إلا صرف القلب للخلق وإشراكهم مع الحق في توجه القلب وتعلقه.
ماذا أقول لك؟ فوالله لو كنت أعلم أنك لا تعلمين لعذرتك بالجهل، ولكن كما قال الفقهاء لا يعذر بالجهل إلا حديث عهد بإسلام أو من نشأ في بيئة بعيدة عن العلماء .. فبأي عذر أعتذر عنك؟ نشأت في الاسلام فالحمد لله على نعمة الإسلام وكفى بها نعمة.. وهيأ الله لك من صحبة العلماء والصلحاء والأولياء حظًّا وافرًا، فما بالك لا تنتفعين؟ وما بالك لا تسيرين على آثارهم الشريفة متمثلة أحوالهم السنية وأخلاقهم المرضية.
لقد كنت بالأمس أعتذر عنك بحداثة السن، وإذا بك تتجاوزين الأربعين بعام والآخر ولكنك في غيك تعمهين، ألا ترين هذا الشيب الذي بدأ يدب في رأسي ولحيتي، إنه نذير بقرب الأجل ولكنك كما قال عنك الإمام الجليل شرف الدين البوصيري في بردته المباركة:


فإن أمارتي بالسوء ما اتعظت      من جهلها بنذير الشيب والهرم


نعم، لم تتعظي بهذا النذير الذي ألم برأسك، فبم تتعذرين غدًا؟! فإن لم يكفك هذا النذير، فانظري إلى الأحباب والأصدقاء الذين تفارقينهم يومًا بعد يوم .. شباب في مثل عمرك، أصدقاء نشئوا معك، توافيهم المنايا بسبب وبغير سبب، تسارعين في حملهم وتشيعيهم إلى مثواهم الأخير في هذه الدنيا حيث يطول رقادهم، ولكنك تعودين كما أنت وتغفلين عن هذا الواعظ الذي يعلو صوته كل يوم، فمتى يحين دورك أنت؟ وهل لك أن تستعدي للقاء؟ كل هذا وأنت تلبسين ثوب النساك والعباد والوعاظ، بل ويرضيك نظرة الإعجاب في أعين الناس، وكلمات الإطراء من أفواههم، وأنت وحدك تعلمين أن هذا الستر الذي أسبله الله عليك فحجب به معايبك، وستر به معاصيك هو وحده السبب في حسن ظنهم بك، فله وحده الحمد من قبل ومن بعد.
فاسمعي صوتي واعتبري بقولي ولا شأن لك بالناس فهم لا يعرفونك، ولكنهم رضوا منك بما أظهرت لهم، أما أنا، فأنا أعيش معك منذ نعومة أظافرك، وأعرف عنك كل ما لا يعرفه الخلق، فلن تستطيعي أن تتجملي أمامي، كل هذه الأقنعة تسقط إذا كنا وحدنا، فلا حاجة لك بها.
عجبًا لك أيتها النفس، استرسلت معك في الحوار ونسيت أن أكتب المقال، فليكن هذا المقال لك أنت، وليكن حواري وخطابي موجهًا إليك، لعلك إذا قرأت هذا الكلام اعتبرت .. إن لم تسمعي هذا الكلام من غيري، وأنا لك ناصح أمين، فلن ينفعك هؤلاء المداح من حولك، هؤلاء الذين أمرنا النبي أن نحثو التراب في وجوههم لأنهم بمدحهم هذا قد يهلكونا.
استرسلت معك قى الكتابة ونسيت أن أكتب للناس، وعذرًا مني إليك لم أقصد أن أفضحك أمامهم (فالنصيحة في الملأ فضيحة)، ولكني استغرقت في الحوار، ونطقت بما جرت به الأقدار.
إن حالك هذا هو الذي يجعلني أحدث نفسي في كل أسبوع بالتوقف عن الكتاية .. نعم كل مقال أقول فليكن هذا الأخير .. فماذا تكتب؟ ولماذا تكتب؟ ولمن تكتب؟ كما أنه يحملنى كذلك على الرغبة الشديدة في التوقف عن الخطابة والدروس والوعظ والارشاد. 
أريد أن أجلس معك في عزلة أقوم فيها أولا بتأديبك ووعظك وإرشادك أنت، وبعدها يمكن أن نواجه الناس .. إنك تحتاجين للمساعدة فكيف أتركك لأساعد غيرك .. بل كيف أستطيع أن أساعدهم وأنا أراك على هذه الحالة من الضعف والغفلة .. إن المعاونة تحتاج إلى قوة والقوة تحتاج إلى إمداد من القوي، فلا بد أن نهيئ أنفسنا لهذا الإمداد من الله ثم به نعين غيرنا.
إن الذي بقي من العمر أقل من الذي مضى، فلا تنجرفي مع الناس فيما هم فيه .. ولا تدخلي هذا السباق المحموم والصراع المشئوم على هذه الأموال والمناصب والغرور، فليس هناك وقت لهذا، فالعمر أقصر وأغلى من إهداره في هذا الصراع .. دعيهم وشأنهم وليقل الخلق ما يقولون، واسمعى قول القائل :


ما لي وقومي كم لامونني سفهًا     ديني لنفسي ودين الناس للناس


فليفعل الناس ما يرضيهم ويسعدهم، ولتحذري أنت من الانحراف والانجراف.. نعم إن التيار شديد ولكن لا بد لك من المقاومة والثبات .. وكفاك ما سبق من الانحراف والانجراف.
و لا يغرنك هذا الصخب والضجيج، فكل يقول، وكل يفتي، أقنعة وأقنعة .. صور باهتة، وأصوات عالية، ومضامين خاوية، فلا تنجرفي في هذا التيار، ولا تنـزلي إلى ملعبهم لمشاركتهم في هذه المباراة.
لقد بنيت أصنامًا بعد أن هدم النبي الكريم الأصنام حول الكعبة وقضى على عبادتها في شبة الجزيرة .. نعم، بنيت أصنامًا غير مرئية، عبدها الناس وقربوا لها القرابين وعظموها تعظيمًا أخضع لها قلوبهم، قصور مشيدة، ومناصب رفيعة، وأموال طائلة عبدت وخضعت لها الرقاب، فلتفعلي أيتها النفس ما فعله الخليل إبراهيم الذي سمانا المسلمين من قبل.. اعتزليهم وما يعبدون من دون الله.
لقد نصحت لك، وأخلصت لك النصيحة، فلن تجدي غيري من يقول لك هذا الكلام..
فإلى متى أيتها النفس، ألا تعتبرين؟

الشيخ: أكرم عقيل

التقييم الحالي
بناء على 51 آراء
أضف إلى
أضف تعليق
الاسم *
البريد الإلكتروني*
عنوان التعليق*
التعليق*
البحث