خوف ورجاء، هكذا دائمًا حال العبد السالك إلى الله .. نعم، كيف لا أخاف وهو الله الجليل العظيم، كيف لا أخاف والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: أنا أعرفكم بربي وأخوفكم منه .. كيف لا أخاف والصالحون والعابدون يدعونه خوفًا وطمعًا.
فإذا اشتد الخوف، وتفطرت الأكباد وكادت الروح أن تزهق، هم نسيم لطفه على القلب، وأرسل عبير أنسه بمبشرات على ألسنة الخلق، فإذا بالرجاء يملأ القلب، وكيف لا ورحمته وسعت كل شيء، وأنا شيء .. فلا أشك أنه قادر على أن يقبلنا على ما فينا من النقص .. وهكذا التقلب في الأحوال بين خوف من البعد والحرمان وطمع في القرب والغفران.
و الشقاوة والسعادة أزلية قديمة في علم الله، فلا سعادة ولا شقاوة إلا وقد سبق بهما القدر والقضاء، فالسعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه، فقد رفعت الأقلام وجفت الصحف.
إن الشقي لشقي الأزل وعكسه السعيد لم يبدل والمحب يخشى أن يكون من حبيبه محروم، فإذا خطر خاطر الحرمان على القلب ضاقت به الدنيا بما رحبت، وضاقت به نفسه، كيف لا وهو يذوب شوقًا، ولا يصبره إلا أمل اللقاء، فكيف يكون حاله إذا فقد هذا الأمل أو شك في حسن اللقاء.
ولكن ما حيلتي والعجز غاية قوتي، نعم نسعى ونحاول ونجاهد، ولكن الخوف لا يفارق القلب إلا بشهود الفضل والمن من صاحب الفضل.
إلا أن العارف الذي استسلم لله بكليته وفوض له الأمر برمته، سار إليه مستسلمًا لا يرى لنفسه عملاً ولا أثرًا، وأيقن أن الأمر كله بيده، فلا حيلة ولا حول ولا قوة ولا تدبير إلا لله سبحانه، وتأمل معي هذه الأبيات :
قد كنت أحسب أن وصلك يشترى بنفائس الأموال والأرباح
وظننت جهلاً أن حبك هين تفنى عليه كرائم الأرواح
حتى رأيتك تجتبي وتخص من تختاره بلطائف الإمناح
فعلمت أنك لا تنال بحيلة فلويت رأسي تحت طي جناحي
وجعلت في عش الغرام إقامتي فيه غدوي ورواحي
وعليه فإن الولاية والقرب ليس فيه حيلة، ولكنها مواهب سبقت بها العناية، فيسر الله لها من شاء من عباده، فكل ميسر لما خلق له.
فمنهم من غلب عليه الهيبة والحياء، ومنهم من تفطر قلبه بالشوق والاشتياق، ومنهم من ملئ قلبه بالسكينة، ومنهم من نزلت روحه في مقامات الذل والانكسار رهينة.
ولكن لما كان الأمر في السعادة والشقاوة أزلي مكتوب بيد القدرة، فمن سبقت له العناية لا تضره الجناية، ظن بعض الناس أن في هذا مدعاة لترك العمل والركون والتنطع، وادعى بعض الناس أن لهم بذلك رخصة في ترك التكاليف الشرعية.
ولذا حجب الله سر هذه العناية، وأوقفها على مشيئته فقال: (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ) [سورة آل عمران: 74] وجعل له علامات تدل على القرب من الله فقال: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [سورة الأعراف:56].
فالرحمة هي سابق العناية، والإحسان هي علامة الولاية، فجعل هذا الإحسان من شواهدها .. الإحسان في عبادة الله، والإحسان إلى عباد الله.
وبين العناية السابقة القديمة، وبين العلامات اللاحقة الحادثة، تخبط أناس كثير.. فهذا اعتمد على الحكم السابق وترك العمل، وهذا مغرور لأن الحكم السابق مستور.. كما أنه مطرود لأنه أراد إبطال الحكمة وهي الاستقامة بالأعمال، ولو سبق لك من الله عناية، وليس أدل على ذلك من أحوال الأنبياء، الذين سبق لهم من الله الاصطفاء، فما ظهر منهم إلا جميل الخصال، وسني الأحوال، وما تركوا المجاهدة بالأعمال.
والآخر استند إلى العمل دون شهود القدرة والمشيئة، فهو جاهل إذ جعل الاعتماد على غير القادر، ونظر إلى عمله فأورثه هذا التعال والكبر وهما من علامات البعد والحرمان.
أما المحقق الكامل فهو الذي يعتمد على سابق العناية ويستند إلى صاحب القدرة، ويوقن أن الأمر كله مرجعه إلى المشيئة، وهو مع ذلك قائم في الخدمة، لا يحيد عنها، يظهر لله معاني العبودية، شكر باللسان وخدمة بالأركان وتصديق بالجنان.
والمشيئة سبب في حصول الأشياء ولا سبب لها، فكل شيء يستند إليها ولا تستند إلى شيء، فما شاء الله كان بلا سبب أو طلب، وما لم يشأ ربنا لم يكن، وهو قد يقرب من شاء بلا عمل ويبعد من شاء بلا سبب، وهو كما قال: (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) [سورة الأنبياء: 23].
ربي، كيف لا أرجوك ولطفك يحيط بي ويظهر في كل شيء؟ ربي، كيف لا أطمع في عفوك ورحمتك وسعت كل شيء؟ ربي، عصيتك فسترتني، وجحدت شكرك فما منعتني، فكيف لا أذوب حبًّا وشوقًا إليك؟ من نحب إذا لم نحبه سبحانه؟ أظهر لنا منه كل جميل، ولم نر منه إلا التفضيل .. فإذا استولى على قلوبنا الخوف من البعد والحرمان فإن هذا من مزيد محبتنا له، ولكن لا يطول الأمر حتى يرينا منه عظيم الامتنان فيزيل عن قلوبنا الوحشة ويمحو آثار الجفوة.
محروم والله من لا يعرف الطريق إلى محبة الله، ويخرج من الدنيا ولم يذق أجمل ما فيها ألا وهو ذكر الله .. فكل نعمة لا تعرفك الطريق إلى شكر صاحبها والمنعم بها فهي نعمة حولتها أنت بسوء استقبالك لها إلى نقمة.
فاشهد من وراء هذه النعم الكريم الذي أعطاك وحقك بها، وما من لمحة ولا طرفة إلا وله فيها نعم لا تحصى.
أقبل على الله يا أخي، فإذا وجدته فقد وجدت كل شيء، فإنك إن فقدته فقدت كل شيء.
فما فائدة الأشياء التى تفارقها وتفارقك، فكن مع الذي لا تغيب عنه وهو معك حيث كنت .. اجعل أنسك بالله وفرحك بالله وعزك بالله، فإن العز بالباقي باقٍ والعز بالفاني فان .. فإن كان عزك بمال، ذهب العز مع ذهاب المال، وإن لم يذهب عنك الآن ذهب عنك غدًا.. وإن كان فرحك بالدنيا ذهب الفرح بذهاب الدنيا أو بذهابك عن الدنيا.
بين الخوف والرجاء تقلب، وكن من الذين يدعون ربهم خوفًا وطمعًا، كن من الذين يرجون رحمته ويخشون عذابه.
بين الخوف والرجاء تقلب المحبون، وذاب العاشقون، وسهر الليالي العارفون، في بحر دمعهم يسبحون وإلى ربهم يتشوقون.
فهل لنا من نصيب من هذا العطاء؟