نسخة تجريبيـــــــة
الإنسان ومراتب الإدراك فيه -1

خلق الله سبحانه وتعالى الأشياء لها ظاهر نراه، ومن وراء هذا الظاهر دقائق لا ترى بالعين المجردة لدقتها وصغرها، أو لخفائها داخل هذه الأشياء، فتحتاج إلى بعض الأدوات المعينة على إدراك هذه الجزئيات، ومن وراء هذه الجزئيات سر معنوي في إيجاده وخلقه لهذه الأشياء، سر لا يدرك بالعين ولا يرى بالآلات الدقيقة .. كما جعل هذه الأشياء، وإن كانت صخورًا صماء، جعلها تسبح بحمده، ولكننا لا نفقه هذا التسبيح ولا نسمعه، ولا ندرك سره ومعناه، (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا) [سورة الإســراء: 44].
وهذا المحسوس المرئي وهو عالم الملك، جعل الله في الإنسان حواسًّا لإدراكه والتعامل معه، وجعل لهذا الإنسان وهو المخلوق المكرم من الله سبحانه مراتب للإدراك تفوق هذه الحواس .. فالحواس لها محيط محدود تستطيع أن تتعامل معه، وكل حاسة لها مدى تحيط به، فإذا بعد المدى ضعف إدراك هذه الحاسة لما تتعامل معه، حتى يصل إلى حد لا تدرك فيه الحاسة الأشياء، وإن كانت هذه الأشياء ما زالت موجودة ومحسوسة، ولكنها خرجت عن مجال حاسة هذا الإنسان بعينه.
فمثلا، إذا نظر الإنسان إلى شيء وهو يتحرك من أمامه، فإنه يراه جليًّا واضحًا فيستطيع أن يحدد تفاصيله كالحجم واللون والأبعاد، فإذا بدأ هذا الشيء في الابتعاد، بدأ الناظر له في فقد إدراك هذه التفاصيل شيئًا فشيئًا حتى غابت عنه، ولم يعد يرى إلا أن هناك شيئًا يتحرك من بعيد، وهكذا حتى يغيب عنه.
وعلى الجانب الآخر، فإن الشيء قد يكون قريبًا، وفي محيط الإدراك للشخص العادي، إلا أن شخصًا بعينه لا يدركه لفقده حاسة البصر مثلا، فلا يستطيع أن يراه مع وجوده إلى جواره.
وكما جعل الله لهذا الإنسان هذه الحواس، جعل له كما ذكرنا قوى أخرى للإدراك تفوق هذه الحواس التي تتعامل فقط مع المحسوسات.
فجعل الله له الفهم والعقل الذي يستطيع به أن يرتب المقدمات فيصل بها إلى النتائج، ولا شك أن هذا العقل يختلف إدراكه من شخص إلى شخص، فقد تكون بعض الأشياء من البديهيات عند بعض الناس غير أنها مما يحتاج إلى نظر وتفكير عند غيرهم .. ولكن أين هذا الفهم من الإنسان، وكيف يأتي إليه؟ وكيف تعمل عقلك في مسألة من المسائل وتجتهد في فهمها، ثم فجأة يحصل عندك الفهم والوصول إلى نتيجة تكاد تشعر بأنها من البديهيات بعد إدراكها بعد أن كانت من الغوامض بالنسبة لك قبل قليل، وكأن شعاعًا من النور قد أضاء مساحة من عقلك فرأى ما لم يكن يراه قبل قليل.
ومن وراء ما يمكن إدراكه بالحس، أو ما يمكن الاستدلال عليه بالعقل، عالم الملكوت، وهو ما وراء المحسوس، يحتاج إلى أدوات إدراك، تفوق الحواس المحدودة، وتفوق العقل لقصوره عن الوصول إلى إدراكه حيث إنه من شأنه أن يرتب مقدمات ليصل إلى نتائج، وهذا العالم لا يتوصل إليه بترتيب المقدمات؛ ولذا فإن العقل ليس الأداه المعدة لإدراك هذا العالم، ومن أراد أن يدرك ذلك بعقله، فهو قاصر النظر إذ سيعمل أداة في غير محلها.
فجعل الله لطيفة نورانية في هذا المخلوق الكريم على الله، الذي اختصه بفضله وكرمه فجعل فيه الأنبياء والأصفياء، نعم جعل لطيفة نورانية أسماها في كتابه القلب، وقلب الشيء لبه وباطنه، وهو ليس بالطبع ما يراد عند إطلاق هذا الاسم بصفته التشريحية وإن كان من المحتمل أن يكون مركزها، ولكن هذه اللطيفة التي استودعها الله في هذا الجسد الترابي وجعل الله لها إدراكًا خاصًّا بها لإدراك ما لا تدركه الحواس لابتعادها عن الشيء، ولا يدركه العقل لقصوره عنها.
والحق سبحانه يقول:
(فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [سورة الحج: 46] .. فقد يكون الإنسان سليم الحواس، يرى ويسمع ويتكلم ...إلخ، ذو عقل وذكاء وفهم فيتفوق في علم أو أكثر من علوم الطبيعة، إلا أن مطموس البصيرة محجوب عن الله بعمى أصاب قلبه مع سلامة حواسه.
والناس في نظرتهم لأدوات الإدراك يختلفون ويتشعبون في مذاهب، فمنهم من قال بالحس وأنه لا يؤمن إلا بالمحسوس، ولا يخفى فساد هذا المذهب على عاقل، فالحواس محدودة لا تستطيع إدراك الأشياء إلا في  محيط ضيق لا تتعداه.
وهناك من عَبَدَ العقل فجعله حكما على كل شيء، فما لا يراه منطقيًّا من وجهة نظره هو لا يؤمن به ولا يصدقه، وهذا الأمر نسبي يختلف من عقل إلى عقل، فما أراه أنا منطقيًّا سليمًا، قد يراه غيري بشكل آخر .. ولذا لما جاء المعتزلة يعظمون دور العقل في الحكم على الأشياء وقالوا: ما يراه العقل حسنًا فهو حسن وما يراه العقل قبيحًا فهو قبيح، تصدى لهم علماء السنة، وانبرى لهم إمام أهل السنة (أبو الحسن الأشعري) الذي تنسب إليه العقيدة الأشعرية، عقيدة أهل السنة، فقال: بل ما يراه الشرع حسنًا فهو حسن، وما يراه الشرع قبيحًا فهو قبيح.
فالعقل نعمة عظيمة ميز الله بها الإنسان، ولولا العقل لسقط التكليف، فيه ندرك ونميز المطلوب منا؛ ولذا يسقط التكليف عن المجنون لذهاب عقله .. فالإسلام يحترم العقل ويضعه في مكانه، بل جعله من أدوات العبادة لله، بالتفكر والتدبر والتأمل.
إلا أنه من وراء هذا العقل، قوة إدراك ما لا يدركه العقل، وهو نور البصيرة في قلوب المؤمنين الذي يوصلهم إلى مراتب اليقين، وفي هذا يقول رب العالمين:
(وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) [سورة الأنعام: 75] فذكر الله عالم الملكوت، ونسب الرؤية إلى ذاته فلم يقل إبراهيم رأى، ولكن الله هو الذي أراه، فيفترض هذا أنه قد أراه ما لم يره لغيره من عوام الناس، فأوصله ما أراه هذا إلى درجة اليقين.
ولا بد لهذه الرؤية من أداة، وهى نور البصيرة الذي انقدح في قلوب الذين اصطفاهم الحق سبحانه من الأنبياء ومن تبعهم من الأولياء، فقال الحق مخاطبًا نبيه صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله:
(قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) .. فجعل لأهل الاتباع الكامل والاقتداء الشامل بصيرة ونورًا في القلوب يدعون به إلى الله كدعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، مع اختلاف المراتب، إذ الأنبياء في عصمة، ويتلقون وحيًا من الله، ويأتون مشرعين أو بمعنى مبلغين لشرع الله، والأولياء ليس لهم عصمة وإن كانوا مؤيدين وموفقين، ولا يتلقون وحيًا بالمعنى الشرعي، وإن كان لهم إلهام وتوفيق، ولا يأتون بشرع جديد، فهم على أثر النبى وشريعته يدعون إلى الله على بصيرة.
فمن وقف مع حسه فهو محصور، ومن وقف مع عقله فهو محدود، ومن أطلق العنان لقلبه فقد انفتحت له أبواب من الرؤية لما وراء الحق، ومجالات لإدراك ما وراء العقل.
وكثيرًا ما نرى الناس ينكرون أشياءً لأن عقولهم لا تقبلها، وإن جاء بها الشرع، حتى أنكر بعض الناس كرامات الأولياء، بل وأنكر غيرهم معجزات الأنبياء؛ لأن عقولهم لا تقبل أن يوضع الخليل عليه السلام في النار ولا يحترق، فقد جعلوا القوانين حكمًا على واضعها سبحانه وتعالى، ولم يفرقوا بين خرق العادة وخرق العقل.. وأن الحرق عند مس الأشياء للنار هو حكم عادة، ولا يترتب على خرقه مستحيل عقلي.
فانظر كيف احترم الإسلام وعلماء الإسلام العقل وحكم العقل، فقالوا: إن المستحيل العقلي لا يقع على سبيل المعجزة أو الكرامة، إذ لو وقع لما كان مستحيلا، ومثال هذا المستحيل اجتماع النقيضين أو الضدين، فلا يمكن أن يجتمع السكون والحركة على جرم واحد في زمان واحد.
إلا أن هذا الاحترام للعقل لا يجعلنا نعمله في غير مجاله، فللقلوب إدراك ونور تدرك ما لا تراه الحواس ولا يتوصل إليه عقل، وفي هذا يقول القائل:


قلوب العارفين لها عيون   ترى ما لا يرى للناظرين
وأجنحة تطير بغير ريش   إلى ملكوت رب العالمين
ومع النور والقلب والبصيرة نعيش، وللحديث بقية.

الشيخ: أكرم عقيل

التقييم الحالي
بناء على 44 آراء
أضف إلى
أضف تعليق
الاسم *
البريد الإلكتروني*
عنوان التعليق*
التعليق*
البحث