مع النور والقلب والبصيرة نكمل الحديث الذي بدأناه في الأسبوع السابق.. رأينا كيف أن الدين لا يتعارض مع العقل، بل يزكيه ويحترمه، بل يجعل هذا العقل هو مناط التكليف، فإن ذهب العقل سقط التكليف عن الإنسان، ومع ذلك فإن استعمال هذا العقل في إدراك اللامعقول هو استخدام لآلة في غير مجالها.. ولذا كان كثير من الأنبياء يأتون بمعجزات خارقة للعادة باهرة، إلا أن أقوامهم بإعمال عقولهم رأوا أن هذا سحر؛ لأن قلوب العمية التي انطمس نورها لم تؤمن أن من وراء عقولهم قدرة إلهية تخرق العادات لأهل الاصطفاء من الأنبياء على سبيل المعجزة، فلما انطمس نور القلب، وبقي حكم العقل على ما يرونه في عالم الحس من قلب الأعيان مثلا كما تحول عصا موسى إلى ثعبان مبين، حكم العقل على ما تراه العين أنه سحر .. ولما أُسري بالحبيب صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، تباينت ردود أفعال الناس، فالمشركون قاسوا الأمر بعقولهم فرفضت هذه العقول –ولها أن ترفض- أن يذهب النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة إلى بيت المقدس (فك الله أسره) في جزء من الليل ثم يعود، إلا أن القلوب التي أنارت بنور الإيمان، وصار لها رؤية وإدراك آخر، صدقت وسلمت وحملت إلينا كلمات خالدة على لسان صاحب رسول الله أبي بكر الصديق رضي الله عنه تحرك قلب كل مؤمن (إن كان قال فقد صدق).
إن هذا الإسراء لم يكن في مجال إدراك الحواس بالنسبة للصديق أو صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقياس العقل يأبى أن تقطع هذه المسافة ذهابًا وإيابًا في جزء من الليل، إلا أنه نور الإيمان واليقين في قلوبهم جعلهم يصدقون ما لم تدرك الحواس، وما لا يستقيم بحسابات العقل، فصار القلب حكمًا في هذا الأمر على الحس والعقل.
وهنا نفهم أن قضية الإيمان في أصلها قضية قلبية غيبية؛ ولذا فإن الحق سبحانه يقول في بداية سورة البقرة : قال تعالى: (الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى للْمُتّقِينَ * الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصّلاةَ وَممّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) [سورة البقرة:1-3] فانظر كيف أن أول صفة من صفات المتقين هي أنهم يؤمنون بالغيب، ما وراء الحس، فنحن نؤمن بوجود أشياء لم نرها وإنما جاء بها الخبر الصادق المعصوم، فآمنا بها إيمانًا كاملاً، بل وصارت من أصول الإيمان، فلا بد لكل مسلم أن يؤمن بالجنة والنار والصراط والميزان والحشر والملائكة والحوض والعرش والكرسي إلى آخر ما جاء به القرآن والسنة الصحيحة دون أن يدركها الحس أو يتصورها عقل، فالإيمان هنا تسليم بما جاء به الشرع مخبرًا عن وجوده.
ولكن هل تقف إمكانات الإدراك في القلوب عند الإيمان بالغيبيات والتصديق بها فقط أم أن للقلب مجال أعلى من هذا يجول فيه ويرتقي في الإحاطه بما لم يحط به الحس والعقل.
ولما كان من هو مثلي غير قابل لأن يجزم بهذا الأمر إذ أنا قاصر عن علم القلوب وأسرارها، آثرت أن نتلقى الإجابة من أهل العلم والفكر، فلنأخذ إجابة السؤال من مقولتين لكل من الإمام الغزالي وابن خلدون وهم يتكلمون عن منهج التصوف، فالغزالي يقول : (إن الطريق إلى ذلك إنما هو تقديم المجاهدة، ومحو الصفات المذمومة، وقطع العلائق كلها، والإقبال بكنه الهمة على الله تعالى، ومهما حصل ذلك كان الله هو المتولي لقلب عبده، المتكفل له بتنويره بأنوار العلم.
وإذا تولى الله أمر القلب فاضت عليه الرحمة، وأشرق النور في القلب وانشرح الصدر، وانكشف له سر الملكوت، وانقشع عن وجه القلب حجاب الغرة بلطف الرحمة، وتلألأت فيه حقائق الأمور الإلهية، فليس على العبد إلا الاستعداد بالتصفية المجردة، وإحضار الهمة مع الإرادة الصادقة والتعطش التام، والترصد بدوام اللانتظار لما يفتحه الله تعالى من الرحمة.
فالأنبياء والأولياء انكشف لهم الأمر، وفاض على صدورهم النور لا بالتعلم والدراسة والكتابة للكتب، بل بالزهد في الدنيا والتبرئ من علائقها، وتفريغ القلوب من شواغلها، والإقبال بكنه الهمة على الله تعالى (فمن كان لله كان الله له)، وهو بفعله هذا، يصير متعرضًا لنفحات رحمة الله، وليس له اختيار في استجلاب هذه النفحات، وليس له إلا الانتظار لما يفتح الله من الرحمة، كما فتحها على الأنبياء والأولياء بهذه الطريقة، وإذا صدقت إرادته، وصفت همته، وحسنت مواظبته، تلمع لوامع الحق في قلبه، ويرتفع الحجاب بلطف خفي من الله تعالى، فينكشف له الغيب، ويحصل على اليقين) انتهى كلام الإمام الغزالي.
نحن إذن أمام منهج، غاية وطريق وثمرة، نحن أمام قلوب أصابت محبة صادقة، فتشوقت، فتحركت، فجاهدت الشهوات، فتعرضت للنفحات، ففاضت عليها من الله الفيوضات.
نحن أمام قلوب قطعت عن نفسها العوائق من الصفات المذمومة الحاجبة عن القرب من الله، وتخلصت من العلائق فلم تتعلق إلا بالله، فأمدها الله بنور أشرق عليها فأضاءها، فصار لها رؤية تسمى البصيرة، وصار لها علم اسمه المكاشفة، بهذه البصيرة ترى ما لا يراه البصر، وبهذه المكاشفة يدرك ما لا يدركه بإعمال عقل .. فالحس والعقل مدارهم ومجالهم عالم الملك، والبصيرة والمكاشفة تنطلق إلى أسرار عالم الملكوت.
نحن أمام رجال اصطفاهم المولى عز وجل من الأنبياء والأولياء، وخلصهم واستخلصهم فصاروا عباد الله المخلَصين بفتح اللام، وهو اسم مفعول، فمن الذي خلصهم، إنه الملك الذي اصطفاهم لحضرته وجعلهم أولياءه وأصطفياءه، فظهر عليهم آثار هذا الاصطفاء، وانظر إلى قول الغزالي: (وإذا صدقت إرادته، وصفت همته، وحسنت مواظبته، تلمع لوامع الحق في قلبه، ويرتفع الحجاب بلطف خفي من الله تعالى، فينكشف له الغيب، ويحصل على اليقين).
إن آثار الاقتداء والاصطفاء تظهر على العبد، فيرى أثرها في حقائق أشرقت على قلبه ترفعه إلى أعلى مراتب اليقين، وقد تظهر آثار هذه الأنوار للناس فيراها أصحاب القلوب فيعرفون هذا الولي أو ذاك ويشهدون له بالولاية .. وليس هذا من باب تزكية أحد على الله، فهذا قول قاصر، فإن الله قد يظهر وليه بالبشارة والكرامة وغيرها من العلامات والإشارات حتى يعرفه الناس وينتفعوا به، فيقع في محبته من يقع، ويخوض في عداوته من يخوض .. وقد جاء الخبر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مبلغًا عن رب العزة سبحانه فقال: (من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب ...) فكيف يحذرنا الله من عداوة من لا نعرف، بل العداوة تكون لأولياء شهرهم وأظهرهم وأشار الناس لهم بالبنان، وجرى ذكرهم على كل لسان، فأنكر بعض المحجوبين ولايتهم، وجحدوا فضلهم الذي شهد به القاصي والداني، وكذبوا ما جاء من أخبارهم من الكرامات التي جرت وما زالت تجري لهم، وقد رأينا منها والحمد لله الكثير والكثير.
ولننتقل إلى قول ابن خلدون وهو يتكلم عن منهج التصوف فيقول: (ثم إن هذه المجاهدة، والخلوة، والذكر يتبعها –غالبًا– كشف حجاب الحس والاطلاع على عوالم من أمر الله – ليس لصاحب الحس إدراك شيء منها، والروح من تلك العوالم.
وسبب هذا الكشف: أن الروح إذا رجعت عن هذا الحس الظاهر إلى الباطن: ضعفت أحوال الحس، وقوي الروح وغلب سلطانه وتجدد نشوه، وأعان على ذلك الذكر، فإنه كالغذاء لتنمية الروح، ولا يزال في نمو وتزيد إلى أن يصير شهودًا بعد أن كان علمًا.. ويكشف حجاب الحس ويتم وجود النفس الذي لها من ذاتها، وهو عين الإدراك، فيتعرض حينئذ للمواهب الربانية والعلوم اللدنية والفتح الإلهي، وتقرب ذاته في تحقيق حقيقتها من الأفق الأعلى، أفق الملائكة .. وهذا الكشف كثيرًا ما يعرض لأهل المجاهدة، فيدركون من حقائق الوجود ما لا يدرك سواهم .. وكذلك يدركون كثيرًا من الواقعات قبل وقوعها، ويتصرفون بهممهم، وقوى نفوسهم في الموجودات السفلية، فتصير طوع إرادتهم، فالعظماء منهم لا يعتبرون هذا الكشف، ولا هذا التصرف، ولا يخبرون عن حقيقة شيء لم يؤمروا بالتكلم فيه، بل يعدون ما وقع لهم من ذلك محنة، ويتعوذون منه إذا وقع لهم.
ولقد كان الصحابة -رضي الله عنهم- على مثل هذه المجاهدة، وكان حظهم من هذه الكرامات أوفر الحظوظ، ولكنهم لم يقع لهم بها عناية، وفي فضائل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم كثير منها، وتبعهم في ذلك أهل الطريقة ممن اشتملت رسالة القشيري على ذكرهم ومن تبع طريقتهم من بعدهم) انتهى كلام ابن خلدون.
كلام نفيس يظهر لنا آثار المجاهدات الخالصة التي يقبل بها أصحاب القلوب على الله سبحانه.
فهم يزكون أرواحهم حتى يفك أسرها من سجن الجسد، ويصير للروح صولة على الجسد .. ومع كلام ابن خلدون نعيش مقالنا القادم.
مع النور و القلب و البصيره نكمل الحديث الذى بدأناه فى الأسبوع السابق ..
رأينا كيف أن الدين لا يتعارض مع العقل، بل يزكيه و يحترمه، بل يجعل هذا العقل هو مناط التكليف، فأن ذهب العقل سقط
التكليف عن الانسان، و مع ذلك فان استعمال هذا العقل فى إدراك اللامعقول هو إستخدام لألة فى غير مجالها .. و لذا كان كثير من الأنبياء يأتون بمعجزات خارقة للعاده باهرة إلا أن أقوامهم بإعمال عقولهم رأوا أن هذا سحر لأن قلوب العمية التى انطمس نورها لم تؤمن أن من وراء عقولهم قدرة إلهية تخرق العادات لأهل الإصطفاء من الأنبياء على سبيل المعجزة، فلما إنطمس نور القلب، و بقى حكم العقل على ما يرونه فى عالم الحس من قلب الاعيان مثلا كما تحول عصا موسى الى ثعبان مبين، حكم العقل على ما تراه العين أنه سحر .. و لما أسرى بالحبيب صلوات الله و سلامه عليه و على أله، تباينت ردود أفعال الناس، فالمشركون قاسوا الأمر بعقولهم فرفضت هذه العقول – و لها أن ترفض - أن يذهب النبى صلى الله عليه و اله و سلم من مكة الى بيت المقدس (فك الله أسره) فى جزء من الليل ثم يعود، إلا أن القلوب التى أنارت بنور الإيمان و صار لها رؤية و إدراك أخر، صدقت و سلمت و حملت إلينا كلمات خالدة على لسان صاحب رسول الله أبى بكر الصديق رضى الله عنه تحرك قلب كل مؤمن ( و إن كان قال فقد صدق ).
إن هذا الاسراء لم يكن فى مجال إدراك الحواس بالنسبة للصديق أو صحابة النبى صلى الله عليه و اله و سلم، و قياس العقل يأتى أن تقطع هذه المسافة ذهابا و إيابا فى جزء من الليل، إلا أنه نور الإيمان و اليقين فى قلوبهم جعلهم يصدقون ما لم تدرك الحواس، و ما لا يستقيم بحسابات العقل، فصار القلب حكما فى هذا الأمر على الحس و العقل.
و هنا نفهم أن قضية الإيمان فى أصلها قضية قلبية غيبية، و لذا فان الحق سبحانه يقول فى بداية سورة البقرة :
قال تعالى: (الَمَ (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لّلْمُتّقِينَ (2) الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصّلاةَ وَممّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)
فأنظر كيف أن أول صفة من صفات المتقين هى أنهم يؤمنون بالغيب، ما وراء الحس، فنحن نؤمن بوجود أشياء لم نراها و إنما جاء بها الخبر الصادق المعصوم فأمنا بها إيمانا كاملا، بل و صارت من أصول الإيمان، فلابد لكل مسلم أن يؤمن بالجنة و النار و الصراط و الميزان و الحشر و الملائكة و الحوض و العرش و الكرسى الى أخر ما جاء به القرأن و السنة الصحيحة دون أن يدركها الحس أو يتصورها عقل، فالإيمان هنا تسليم بما جاء به الشرع مخيرا عن وجوده.
و لكن هل تقف إمكانات الإدراك فى القلوب عند الإيمان بالغيبيات و التصديق بها فقط أما أن للقلب مجال أعلى من هذا يجول فيه و يرتقى فى الإحاطه بما لم يحط به الحس و العقل.
و لما كان من هو مثلى غير قابل لأن يجزم بهذا الأمر إذ أنا قاصر عن علم القلوب و أسرارها، أثرت أن نتلقى الإجابة من أهل العلم و الفكر، فلنأخذ إجابة السؤال من مقولتين لكل من الإمام الغزالى و ابن خلدون و هم يتكلمون عن منهج التصوف، فالغزالى يقول :
(إن الطريق الى ذلك إنما هو تقديم المجاهدة، و محو الصفات المذمومة، و قطع العلائق كلها، و الإقبال بكنة الهمة على الله تعالى، و مهما حصل ذلك كان الله هو المتولى لقلب عبده، المتكفل له بتنويره بأنوار العلم.
و إذا تولى الله أمر القلب فاضت عليه الرحمة، و أشرق النور فى القلب و إنشرح الصدر، و إنكشف له سر الملكوت، و إنقشع عن وجه القلب حجاب الغرة بلطف الرحمة، و تلألأت فيه حقائق الأمور، الإلهية، فليس على العبد إلا الإستعداد بالتصفية المجردة، و إحضار الهمة مع الإرادة الصادقة و التعطش التام، و الترصد بدوام اللإنتظار لما يفتحه الله تعالى من الرحمة.
فالأنبياء و الأولياء إنكشف لهم الأمر، و فاض على صدورهم النور لا بالتعلم و الدراسة و الكتابة للكتب، بل بالزهد فى الدنيا و التبرى من علائقها، و تفريغ القلوب من شواغلها، و الإقبال بكنة الهمة على الله تعالى (فمن كان لله كان الله له)، و هو بفعله هذا، يصير متعرضا لنفحات رحمة الله، و ليس له إختيار فى إستجلاب هذه النفحات، و ليس له إلا الإنتظار لما يفتح الله من الرحمة، كما فتحها على الأنبياء و الأولياء بهذه الطريقة، و إذا صدقت إرادته، و صفت همته، و حسنت مواظبته، تلمع لوامع الحق فى قلبه، و يرتفع الحجاب بلطف خفى من الله تعالى، فينكشف له الغيب، و يحصل على اليقين) انتهى كلام الإمام الغزالى.
نحن إذا أمام منهج، غايه و طريق و ثمرة، نحن أمام قلوب أصبت محبة صادقة، فتشوقت، فتحركت، فجاهدت الشهوات، فتعرضت للنفحات، ففاضت عليها من الله الفيوضات.
نحن أمام قلوب قطعت عن نفسها العوائق من الصفات المذمومة الحاجبة عن القرب من الله، و تخلصت من العلائق فلم تتعلق إلا بالله، فأمدها الله بنور أشرق عليها فأضائها، فصار لها رؤية تسمى البصيرة، و صار لها علم إسمه المكاشفة، بهذه البصيرة ترى ما لا يراه البصر، و بهذه المكاشفة يدرك ما لا يدركه بإعمال عقل .. فالحس و العقل مدارهم و مجالهم عالم الملك، و البصيرة و المكاشفة تنطلق إلى أسرار عالم الملكوت.
نحن أمام رجال إصطفاهم المولى عز و جل من الأنبياء و الأولياء، و خلصهم و إستخلصهم فصاروا عباد الله المخلصين بفتح اللام، و هو إسم مفعول، فمن الذى خلصهم ، إنه الملك الذى إصطفاهم لحضرته و جعلهم أوليائه و إصطفيائه، فظهر عليهم أثار هذا الإصطفاء، و إنظر الى قول الغزالى : ( و إذا صدقت إرادته، و صفت همته، و حسنت مواظبته، تلمع لوامع الحق فى قلبه، و يرتفع الحجاب بلطف خفى من الله تعالى، فينكشف له الغيب، و يحصل على اليقين).
إن أثار الإقتداء و الإصطفاء تظهر على العبد، فيرى أثرها فى حقائق أشرقت على قلبه ترفعه إلى أعلى مراتب اليقين، و قد تظهر أثار هذه الانوار للناس فيراها أصحاب القلوب فيعرفون هذا الولى أو ذاك و يشهدون له بالولاية .. و ليس هذا من باب تزكية أحد على الله، فهذا قول قاصر، فان الله قد يظهر وليه بالبشارة و الكرامة و غيرها من العلامات و الإشارات حتى يعرفه الناس و ينتفعوا به، فيقع فى محبته من يقع، و يخوض فى عداوته من يخوض .. و قد جاء الخبر عن النبى صلى الله عليه و اله و سلم مبلغا عن رب العزة سبحانه فقال : ( من عادى لى وليا فقد أذنته بالحرب ... ) فكيف يحذرنا الله من عداوة من لا نعرف، بل العداوة تكون لأولياء شهرهم و أظهرهم و أشار الناس لهم بالبنان، و جرى ذكرهم على كل لسان، فأنكر بعض المحجوبين ولايتهم و جحدوا فضلهم الذى شهد به القاصى و الدانى، و كذبوا ما جاء من أخبارهم من الكرامات التى جرت و مازالت تجرى لهم، و قد رأينا منها و الحمد لله الكثير و الكثير.
و لننتقل إلى قول إبن خلدون و هو يتكلم عن منهج التصوف فيقول :
(ثم إن هذه المجاهدة، و الخلوة، و الذكر يتبعها – غالبا – كشف حجاب الحس و الإطلاع على عوالم من أمر الله – ليس لصاحب الحس إدراك شىء منها، و الروح من تلك العوالم.
و سبب هذا الكشف : أن الروح إذا رجعت عن هذا الحس الظاهر الى الباطن: ضعفت أحوال الحس، و قوى الروح و غلب سلطانه
و تجدد نشوه. و أعان على ذلك الذكر، فأنه كالغذاء لتنمية الروح، و لا يزال فى نمو و تزيد الى أن يصير شهودا بعد أن كان علما ..
و يكشف حجاب الحس و يتم وجود النفس الذى لها من ذاتها، و هو عين الإدراك، فيتعرض حينئذ للمواهب الربانية و العلوم اللدنيه
و الفتح الإلهى، و تقرب ذاته فى تحقيق حقيقتها من الافق الأعلى، أفق الملائكة .. و هذا الكشف كثيرا ما يعرض لأهل المجاهدة، فيدركون من حقائق الوجود ما لا يدرك سواهم .. و كذلك يدركون كثيرا من الواقعات قبل وقوعها، و يتصرفون بهممهم، و قوى نفوسهم فى الموجودات السفلية، فتصير طوع إرادتهم، فالعظماء منهم لا يعتبرون هذا الكشف، و لا هذا التصرف، و لا يخبرون عن حقيقة شىء لم يؤمروا بالتكلم فيه، بل يعدون ما وقع لهم من ذلك محنة و يتعوذون منه إذا وقع لهم.
و لقد كان الصحابة رضى الله عنهم على مثل هذه المجاهدة و كان حظهم من هذه الكرامات أوفر الحظوظ، و لكنهم لم يقع لهم بها عناية، و فى فضائل أبى بكر و عمر و عثمان و على رضى الله عنهم كثير منها، و تبعهم فى ذلك أهل الطريقة ممن اشتملت رسالة القشيرى على ذكرهم و من تبع طريقتهم من بعدهم) انتهى كلام بن خلدون.
كلام نفيس يظهر لنا أثار المجاهدات الخالصة التى يقبل بها أصحاب القلوب على الله سبحانه.
فهم يزكون أرواحهم حتى يفك أسرها من سجن الجسد و يصير للروح صولة على الجسد .. و مع كلام بن خلدون نعيش مقالنا القادم.