لم أستطع أن أوفي بوعدي بإكمال المقالات عن مراتب الإدراك في الانسان، والوقوف مع بعض معاني كلام ابن خلدون الذي نقلته في مقال الجمعة الماضيةكما ذكرت، حيث لم يمكنني تجاهل ذكرى هي بين الذكريات أطيبها، ويوم هو بين الأيام أسعدها، وليلة هي بين الليالي أكرمها وأقربها إلى نفوس المؤمنين وقلوبهم، وكيف لا؟ وهى ليلة أبرز الله فيها نور مَن أرسله رحمة للعالمين، فآثرت أن ألتمس بركات المولد الشريف، وأن أشم من عبيره أطيب ريح، خاصة وأنكم وأنتم تقرءون هذا المقال أكون في رحاب طيبه، في جوار الحبيب صلوات ربي وسلامه عليه وآله، أنعم بنسمات المولد المبارك في رحاب صاحب المولد، عسى الله أن يجعل من هذا القرب في المكان قربًا في المكانة، وأن ينعم علينا بجواره يوم القيامة.
هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضير بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن نضر بن نزار بن معد بن عدنان، وإلى هنا أمسك النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذكر نسبه الشريف، نعم نسب شريف كريم، فقد انتقل في الأصلاب الطيبة والأرحام الطاهرة، حفظه الله من السفاح، وتنقل نوره بالنكاح، وقد رؤي في الظهور والجباه، فهو خيار من خيار كما قال، اصطفى الله له الآباء والأمهات، شرفًا ونسبًا وسيادة وقيادة.
ظهرت قبل مولده البشائر، وبشرت بذلك الأم الكريمة السيدة آمنه بنت وهب، فقد سمعت في حملها من يقول لها: يا آمنة إنك قد حملت بخير العالمين طرًّا (أي جميعًا)، فإذا ولدته فسميه محمدًا، واكتمي شأنك.
ولم تشتك السيدة آمنة في حملها مما تشتكي منه الناس، فلم تجد ألما ولا ثقلا، ورأت من بركات حمله ووضعه ما رأت.. فقد رأت حين حملت به أنه خرج منها نور، رأت منه قصور بصرى من أرض الشام. وحين وضعته أرسلت إلى جده عبد المطلب سيد قريش أن قد وُلد لك غلام فأته فانظر إليه، فأتاه ونظر اليه، وحدثته بما رأت حين حملت به، وأخبرته بما قيل لها وما أُمرت أن تسميه، فنظر إليه وقال: إن محمدًا لن يموت حتى يسود العرب والعجم، وأنشأ يقول :
الحمد لله الذي أعطاني هذا الغلام الطيب الأردان
أعيذه بالواحد المنان من كل ذي عيب وذي شنآن
حتى أراه شــــــامخ البنـــــيان
وكان هذا الوضع في يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول .. وقد سئل بعدها عبد المطلب عن سبب تسميته بمحمد، وليس من أسماء آبائه ولا قومه، فقال رجوت أن يحمد في السماء والأرض: وقد حقق الله رجاءه.
ولذِكرى هذا المولد الشريف على صاحبه وآله أفضل الصلاة والتسليم مكانة رفيعة في نفوس المؤمنين، المتعلقين بحضرته .. وقد دأبت البلدان الإسلامية، حكامًا ومحكومين، علماء وعوامًّا على الاحتفال بهذا المولد الكريم المبارك.
ومن المعلوم أن هذه الاحتفالات لم تكن في القرون الثلاثة الأولى، إلا أنها أحدثت بعدها، فكيف يمكن الحكم عليها من الناحية الشرعية؟ وهل مجرد إحداث أمر من الأمور بعد عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم والخلفاء الراشدين والقرون الثلاثة الأولى دليل في ذاته على عدم جوازها؟.
أما عن إحداث أمور بعد عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم فمن المعلوم أن الصحابة أحدثوا بعده أمورًا، مثل جمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق، وجمع الناس على إمام واحد في صلاة التراويح في عهد عمر، والآذان الثاني في الجمعة في عهد عثمان رضي الله عنهم جميعًا، ولم يروا في ذلك مخالفة لأمر النبي أو سنته حيث إنها أمور ليس فيها نهي كما أنها تستقيم مع أصول الشريعة ومقاصدها.
ومما استحدث في عهد التابعين، إدخال القبر الشريف وقبري الصاحبين الكرام والحجرات داخل الحرم النبوي الشريف، وكان عمر بن عبد العزيز واليًا على المدينة، ولم يرَ في أحد من التابعين في ذلك مخالفة شرعية أو بدعة منكرة، بل صار القبر المعظم وقبري الصاحبين داخل المسجد، وصار المسلمون يصلون أمام الحجرة وخلفها وعن يمينها وعن شمالها دون نكير من أحد من علماء الأمة أو فقهائها على مر الزمان.
ولا نقول هنا أن الخلفاء الراشدين، والتابعين والفقهاء والعلماء قد أحدثوا في الدين ما ليس منه، ولكنهم أحدثوا ما لم يفعله النبي صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله، ولكن مما يشهد له الشرع وأصوله، وإن لم يأت بتفصيله وهيئته على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ولذا يقول الشافعي رحمه الله: (كل أمر له مستند من الشرع فليس ببدعة وإن لم يفعله السلف).
فمجرد ترك الشيء وعدم فعله في عهد النبي وفي القرون الثلاثة الأولى ليس فيه دليل على التحريم، ولم يقل بذلك من له أدنى دراية
بعلم الفقه وأصوله.
فإذا جئنا إلى أمر كالمولد النبوي الشريف فلماذا نجتهد نحن، ولسنا من أهل الاجتهاد والاستنباط؟ فألامر ليس بجديد، بل قد مرت قرون على الأمة الإسلامية وهي تحتفل بالمولد المبارك في شتى بقاع بلدان الإسلام، فلا بد أن العلماء قد أبدوا أراءهم في هذا الأمر، ونقلوه وتكلموا عنه، فليكن لنا في أرائهم سند نرجع إليه، ومن لم يرض بأقوالهم فليعد هذا الأمر من المختلف فيه، وليسع كل واحد من المسلمين ما ارتضاه من أراء الفقهاء فلا ينكر بعضنا على الآخر.
وقد أفرد العلامة يوسف النبهاني في كتابه (حجة الله على العالمين) فصلا في اجتماع الناس لقراءة مولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ذكر فيه بعض آراء العلماء الأكابر في الاحتفال بالمولد ونقل من كتبهم التي صنفوها في سيرة المولد النبوي المبارك.
كما وضع الحافظ السيوطي رحمه الله رسالة ماتعة بعنوان (حسن المقصد في عمل المولد)، أورد فيها رأيه ورأي غيره من العلماء في الاحتفال بهذا المولد الكريم على صاحبه أفضل الصلاة والتسليم.
وننقل هنا آراء العلماء كما تعودنا حتى لا يكون الأمر مرجعه هوى النفس أو الانتصار للرأي، بل يكون القصد منه وغايته بيان الحق لمن أراد أن يهتدي. وننقل هنا ما نقله الشيخ النبهاني في الفصل المذكور عاليه فيقول: (قال الإمام أبو شامة شيخ النووي: ومن أحسن ما ابتدع في زماننا ما يفعل كل عام في اليوم الموافق ليوم مولده صلى الله عليه وآله وسلم من الصدقات والمعروف وإظهار الزينة والسرور، فإن ذلك مع ما فيه من الإحسان للفقراء، شعر بمحبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتعظيمه في قلب فاعل ذلك وشكر الله تعالى على ما من به من إيجاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي أرسله رحمة للعالمين).
وقال السخاوي: (إن عمل المولد حدث بعد القرون الثلاثة، ثم لا زال أهل الإسلام من سائر الأقطار والمدن الكبار يعملون المولد ويتصدقون في لياليه بأنواع الصدقات، ويعتنون بقراءة مولده الكريم، ويظهر عليهم من بركاته كل فضل عميم).
وقال القسطلاني: (ولا زال أهل الإسلام يحتفلون بشهر مولده عليه الصلاة والسلام، ويعملون الولائم، ويتصدقون في لياليه بأنواع الصدقات، ويظهرون السرور، ويزيدون في المبرات، ويعتنون بقراءة مولده الكريم، ويظهر عليهم من بركاته كل فضل عميم، ومما جرب من خواصه أنه أمان في ذلك العام، وبشرى عاجلة بنيل البُغْية والمرام، فرحم الله امرأ اتخذ ليالي شهر مولده المبارك أعيادًا).
انظر كيف استقبل هؤلاء الفضلاء من أكابر العلماء احتفال المسلمين بمولد النبي العظيم، هذا مع علمهم وإقرارهم أنه استحدث بعد القرون الثلاثة، ولم ير أحد منهم في هذا نكير.. فليفهم ذلك أنصاف المتعلمين ومن يدورون في أفكار الوهابية المنكرين.
وفي رسالة السيوطي المذكورة والتي جمعها في كتابه (حاوي الفتاوى) يقول الإمام: (قد وقع السؤال عن عمل المولد النبوي في شهر ربيع الأول؛ ما حكمه من حيث الشرع، وهل هو محمود أو مذموم؟ وهل يثاب فاعله أو لا؟ قال: الجواب عندي لأن أصل عمل المولد الذي هو اجتماع الناس وقراءة ما تيسر من القرآن ورواية الأخبار الواردة في مبدأ أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وما وقع في مولده من الآيات ثم يمد لهم سماطًا فيأكلونه وينصرفون من غير زيادة على ذلك، من البدع الحسنة التى يُثاب عليها صاحبها لما فيه من تعظيم قدر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإظهار الفرح والاستبشار بمولده الشريف صلى الله عليه وآله وسلم).
والحق أن آراء العلماء أكثر وأطول مما نستطيع نقله في هذا المقال، إلا أننا نرجو أن يكون فيما نقلناه كفاية لمن طلب الحق وأراده.
أكرمنا الله بمولد الهادي الشفيع، وبلغنا بحقه كل مقام رفيع.