نعود لنكمل ما قد بدأناه من الحديث عن أدوات الإدراك ومراتبه في الإنسان، وكنا قد قطعنا التسلسل لمواكبة المناسبة الشريفة بحلول مولد الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم. وقد عرضنا لأدوات هذا الإدراك من الحس، وكيف أن له المحيط الذي لا يدرك ما وراءه، ومن العقل وبينا أن إعماله في غير المعقول هو استخدام له في غير ما وضع له وخلق من أجله. وبعد هاتين الأداتين نجد القلب، تلك اللطيفة النورانية التي تدرك بنور البصيرة ما وراء الحس والعقل .. نجد القلب الذي وصف في القرآن بأنه يعمى (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [سورة الحج: 46] .. فإن كان الله سبحانه يصف هذا القلب بأنه يعمى، فبمفهوم المخالفة لا بد أن نفهم أن هذا القلب يمكن أن يرى، وإلا فلِمَ يصفه الحق بأنه يعمى.
ولكن كيف يمكن لهذا القلب أن يرى؟ وماذا يرى؟ هنا نقف على طريق التزكية، فإن الإنسان يحافظ على حواسه لتبقى صالحة لأداء مهمتها، ويزكي عقله بتلقي العلوم المختلفة ليتسع محيط فهمه ومجال إدراكه، وكذلك القلب فإن له طريقًا يتزكى من خلاله لرفع الحجب عنه ليدرك ما لا يدرك إلا به.
وعلم القلوب الذي هو علم الأنبياء والأولياء هو علم انكشاف لا علم اكتساب، وإذ الأولياء سائرون على طريق الأنبياء، حيث علم هؤلاء أن الأنبياء اصطفاهم المولى عز وجل وكاشفهم بتلك العلوم التي من وراء الحس والعقل بعد أن زكى قلوبهم بمحض اصطفائه لهم، وخلص هذه القلوب من العوائق والعلائق فتفرغت هذه القلوب من شواغلها، فصارت مؤهلة لإدراك هذه العلوم. فلما أدرك الأولياء هذا، ساروا على درب الأنبياء لتحقيق أوصافهم في أنفسهم، فسلكوا طريق المجاهدة لتفريغ القلوب من شواغلها، وذلك بالزهد في الدنيا، والتخلص من كل ما يشغل القلوب عن الملك المعبود سبحانه وتعالى، وكذلك بالتخلص من الصفات المذمومة أيًّا كانت، الناتجة عن هوى النفس، ووقفوا متعرضين لنفحات الحق سبحانه منتظرين منه الفيض والجود. وقد نقلنا قول الإمام الغزالي حجة الإسلام وهو يصف أحوال العبد المقبل على الله هذا الإقبال: (وإذا صدقت إرادته، وصفت همته، وحسنت مواظبته، تلمع لوامع الحق في قلبه، ويرتفع الحجاب بلطف خفي من الله تعالى، فينكشف له الغيب، ويحصل على اليقين). فهنا ثلاثة شروط، صدق الإرادة وصفاء الهمة وحسن المواظبة، فمن فقد واحدًا من هذه الشروط حرم الآثار والنتائج من كشف الحجاب وحصول اليقين. فلا بد من الصدق في التوجه وتجريد النية لله وحده، فلا يطلب معه غيره، من حب الرئاسة أو الشهرة أو تصدر المجال أو غير ذلك من الآفات التي تدخل على القلب فتفسد التوجه إلى الله؛ لأنه سبحانه غني عن الشركاء، فإذا طلبت معه غيره، تركك وما أشركت معه..
وهذا التجريد من النية يحتاج إلى متابعة، فقد يقبل الإنسان بنية صادقة لا يطلب غيره، إلا أنه في غفلة عن ملاحظة قلبه يرضى بما يحصل له من إقبال الناس عليه أو ثنائهم، فيأتنس بذلك فيفسد عليه صدق الإرادة.
الشرط الثاني صفاء الهمة، فكم من أناس يطلبون القرب إلا أن همتهم قاصرة عن النهوض للسير على الطريق، وهم يطلبون الفتح دون ثمن ويقولون: إن الأمر محض اصطفاء فلا حاجة للمجاهدة، وهم في ذلك من غرتهم أنفسهم، وغفلوا عن حقيقة المنهج، فإن الأنبياء الذين أقبل الله عليهم بعطائه واصطفائه، قد ردهم للمجاهدة، وخير مثال على ذلك هو الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم، فهو مع ما له من سوابق العناية من الله سبحانه، يتحمل ويؤذى ويجاهد ويهاجر ويقاتل وتسيل الدماء من وجهه، ويتعرض لـما يتعرض لنصرة الدين.. وفي حين أن له من المعجزات ما له، إلا أن الله قد ألزمه بالجهاد والعبادة التامة ليؤسس منهجًا لمن أراد السير بعده على الطريق؛ ولذا فإن الهمة القاصرة لن تسير بصاحبها إلى القرب من الله والتحقيق بمراتب اليقين.
الشرط الثالث في كلام حجة الإسلام هو حسن المواظبة، فقد تصدق النية، وتنهض الهمة بصاحبها فيقوم مقبلا على الله، إلا أن الملل يتسرب الى نفسه، فهذا الملل من طباع الإنسان، ولكن الأمر يحتاج إلى المواظبة والاستمرار، وذلك شأن من أراد العُلا في أي أمر من الأمور .. فالإنسان إذا مارس الرياضة طالبًا الوصول إلى مصاف الأبطال لا بد له أن يواظب على هذه التدريبات مع ما فيها من المشقة والتعب، ولكن علو مطلبه يجعله يتحمل في سبيل بلوغ مراده كل التعب والعنت .. فكيف بمن طلب رفع الحجاب، ودخول الباب، والثبوت في ديوان الأحباب، عند الملك الكريم التواب، أليس به أن يلزم الرحاب صابرًا ثابتًا مقبلا على الله بكل ما فيه ليصل إلى مراده. ونحن هنا أمام منهج سار عليه الصالحون ليصلوا إلى ما وصلوا إليه، وقد أشار إليه ابن خلدون في بداية ما نقلناه عنه قائلا: (ثم إن هذه المجاهدة، والخلوة، والذكر يتبعها –غالبًا– كشف حجاب الحس... )
انظر إلى هذا الكلام الدقيق، إن الحس الذي هو مجال إدراك للحواس من ناحية، هو حجاب عما وراءه من ناحية أخرى .. ولكشف هذا الحجاب بيـن ابن خلدون منهج السادة الصوفية لخرق هذا الحجاب، هذا المنهج هو المجاهدة، وهي الطريق للتخلص من العوائق النفسية والعلائق الدنيوية. وللاستعانة على هذا التخلص لا بد من خلوة وهي سنة من سنن الأنبياء، فقد اختلى النبي قبل الوحي وكأنها كانت إعدادًا لتلقي هذا الوحي، وكذلك كان يختلي الأولياء تمهيدًا لتلقي الفتح من الله، كما أنه سن بعد ذلك الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان وهو بمثابة خلوة مؤقتة؛ ولذلك لما في الخلوة من أثر في تصفية النفس وتخليصها من شواغلها .., وفي غير أوقات الخلوة الحسية فإن السالك إلى الله يكون في عزلة عن كل من يعطله عن السير إلى الله، ويصحب كل من يعينه في طريقه إليه.
وفي كل حال من الأحوال لا بد من مداومة الذكر إذ إنه كما قال بعضهم (الذكر منشور الولاية) .. ولذا نجد أن الصوفية وهم صلحاء هذه الأمة أو كما يصفهم ابن تيميه هم (صديقو هذه الأمة)، نجد أنهم يلزمون الذكر فرادى وجماعات، سرًّا وجهرًا، قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم .. وهم في ذلك يتعرضون كذلك لنفحات الحق إذ قال سبحانه: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) [سورة البقرة: 152] ولا بد أن ذكره للذاكر له من الآثار والعطاء ما لا تدركه العقول.. فذكره هنا ليس مقابلا لمعنى النسيان، فهو منـزه عن النسيان سبحانه وتعالى، ولكنه ذكر عناية وولاية وعطاء، ذكر تنـزل رحمات وسكينة على قلوب الذاكرين، ذكر تؤمر به الملائكة أن تلتمس مجالس الذكر وتحف الذاكرين أينما كانوا، ذكر يشهد الله به ملائكته على المغفرة لأهله ولكل من حضر معهم وإن جاء لحاجة كما ورد في الحديث وما هذا إلا لكرامة هؤلاء على الله. مجاهدة، وخلوة، وذكر، ومنهج سلكه أهل التصوف وحصلوا منه ثمارًا، فأشاروا إليه ونصحوا إخوانهم بسلوكه والسير عليه، وما هذا إلا لما رأوه من بركات هذا المنهج الذي ساروا فيه محققين الشروط التي ذكرناها من صدق الإرادة، وصفاء الهمة وحسن المواظبة. نعم قد تحقق لهم من وراء هذه المجاهدات فتح عظيم، ورفع للحجب وعروج أرواحهم في عالم الملكوت، وهذا ما ذكره ابن خلدون في أثر ما نقلناه من كلامه قائلا: (وأعان على ذلك الذكر، فإنه كالغذاء لتنمية الروح، ولا يزال في نمو وتزيد إلى أن يصير شهودًا بعد أن كان علمًا .. ويكشف حجاب الحس ويتم وجود النفس الذي لها من ذاتها، وهو عين الإدراك، فيتعرض حينئذ للمواهب الربانية والعلوم اللدنية).
نعم تنمو الروح ويستنير القلب فيصير يشهد كثيرًا مما يؤمن به غيبًا، ويواجه بأنوار اليقين، ويصير له علم لدني يدرك به ما لا يدرك غيره، ولنا في صاحب موسى عليه السلام مثل. وكل ما يجري لهم من كرامات وخوارق عادات، ومكاشفات، لم يعده الصادقون منهم مطلبًا، إذ إن مطلبهم هو الواحد ولا يطلبون معه غيره؛ ولذا لم يعتبروا هذه الكرامات ولو أنها واقعة، ولم يعتنوا بالمكاشفات ولو أنها حاصلة، فهم قد صرفوا هممهم لطلب الواحد الأحد سبحانه.
ولما قصر الناس عن متابعتهم، انقسموا من ورائهم إلى أقسام، فهذا عدو ما يجهل فأنكر أحوالهم؛ ولأنه محجوب بحسه كذب كل ما بلغه عنهم من كشف الحجاب وخرق العادات .. والآخر محجوب بعقله فأعمل عقله فعد ما هم فيه من الخرافات والشعوذة إذ إن عقله لا يستسيغ هذا الكلام .. وآخرون ممن أحبوهم وصدقوهم ولكن قصرت همتهم عن المتابعة، انشغلوا بالكرامات وخرق العادات وشغلوا بها الناس، وغفلوا عن المنهج والمطلب .. المنهج الذي ذكرناه من مجاهدة وخلوة وذكر، والمطلب وهو تجريد الهمة لله وحده، ولكنهم قد استهوتهم أنفسهم فقصروا عن المتابعة، وضعفوا عن السير، فما كان نصيبهم من الطريق إلا الوصف دون الذوق والمعرفة. رزقنا الله وإنه ولي ذلك والقادر عليه حسن السير إليه.