نسخة تجريبيـــــــة
الخرافة في الولاية والأولياء -2

مرة ثانية أكتب عن الأولياء وصلة المسلمين بهم، وما يعتقدونه فيهم، وما يوجه إلى الناس من اتهامات في هذه الصلة..
وأكرر وأقول أني كنت أفضل عدم الخوض في هذا السجال الكلامي، فالأمة تحتاج منا إلى غير هذا، فنحن أمام أمة تحترق وتواجه كثيرًا من التحديات تحتاج فيها إلى نبذ الخلاف وتوحيد الصف، إلا أننا نزكي الخلاف ونتبادل الاتهامات.. فإذا أراد البعض أن يصور الأولياء المعروفين وما يتناقله الناس من أخبارهم وكراماتهم ما هو إلا خرافة، وأن اعتقاد الناس فيهم هو من مظاهر الشرك أو من وسائله، وأراد أن يرجع تأخر الأمة وتخلفها عن ركب الحضارة إلى صلة الناس بالأولياء والاعتقاد فيهم، فإنه لابد لنا من الدفاع عن المسلمين في عقائدهم وتوضيح الأمر لمن يريد أن يعرف، لا لمن يطيب له التشكيك في المسلمين على إختلاف مشاربهم وطوائفهم حتى يكون ذلك تزكية له وحده..
أما عن الأولياء، فإن هؤلاء ينكرون إثبات الولاية لشخص بعينه، ويصورون هذا كأنه مخالف للشرع، فسبحان الله هم قد اكتشفوا هذه المخالفة الشرعية في حين أن الأمة دأبت على الشهادة لصلحائها بالولاية، وارتضى العلماء والعوام هذا دون نكير من أحد، بل وصنف العلماء عشرات بل مئات الكتب التي تجمع أخبار الأولياء وتسرد كرامات الأولياء، بدءًا من الصحابة رضي الله عنهم وهم سادة أولياء هذه الأمة، إلا أن شرف الصحبة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يدانيه شرف، فما أشير إليهم بلفظ الولاية ولو أنهم أئمة الأولياء وعلى أثرهم سار التابعون ومن بعدهم من أهل الصلاح، وذلك لأن الإشارة بالصحبة للرسول صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله قد حوى في باطنه مقامات الولاية العظمى.
فهل أخطأ كل هؤلاء العلماء في تصنيفهم هذه المؤلفات مثل (حلية الأولياء)، (الجامع لكرامات الأولياء)، (طبقات الشعرانى)، (الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة)، (سير أعلام النبلاء)، إلى غير ذلك من كتب التراجم التي تناقلت أقوال العلماء في من عاصروهم أو تتلمذوا على أيديهم من العلماء والصلحاء وهم يشهدون لهم فيها بالولاية والصلاح والورع والتقوى والزهد إلى غير ذلك من الصفات دون أن يقول أحد هذا من باب (التزكية على الله).. فلماذا نلبس على الناس في دينهم؟
أما عن الكرامات، فقد أوردت في مقال الأسبوع الماضي قولي الإمام ابن حجر، والعلامة التفتازاني في المنكرين لكرامات الأولياء، إلا أن هناك مشبهة ساذجة يسوقها المشككون في بعض الكرامات، ألا وهي أن هذه الكرامة أو غيرها (كالصيام في المهد والتي تنسب للقطب الدسوقي قدس الله سره) لم تجر لنبي من الأنبياء فكيف تدعونها لولي من الأولياء..
ولا يخفى على أحد من طلاب العلم أن هذه الشبهة من السذاجة بمكان، إلا أنها قد تبدو منطقية لعوام الناس من الذين ليس لهم دراية بالعلم الشرعي فيظنون أننا نقول أن الأولياء أفضل من الأنبياء والرد عليها هو السؤال: وهل المزية تقتضي الأفضلية؟ هل قال أحد من المسلمين أن الخضر عليه السلام أفضل من سيدنا موسى الكليم عليه السلام؟ إن سيدنا موسى نبي ورسول من أولي العزم، وهو أفضل من الخضر بالإجماع، ومع ذلك فقد ذهب إليه بأمر الله ليتعلم منه..
الأمر الثاني أننا نعتقد أن كل كرامة أجراها الله لولي من أوليائه في حياته أو بعد مماته، وهذا مما عايناه والحمد لله، وليس مما قرأناه فقط، كل هذه الكرامات إنما أعطيت للأولياء ببركة اتباعهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فمن الذي ظن أفضلية الأولياء على الأنبياء؟ وهل التفاضل بين الأنبياء قائم على تفاوت معجزاتهم؟
والأمر هنا ليس المراد منه إثبات كرامة بعينها أو نفيها، فقد يكون في بعض الكرامات التي نقلت عن الأولياء وضع أو عدم دقة في النقل، فإن كان الناس قد تجرءوا على رسول الله فكذبوا عليه ودسوا كلامًا لم يقله صلوات ربي وسلامه عليه، فإن الكذب على أولياء الله والمبالغة من بعض من يعتقد أن في هذه المبالغة قد يكون فيها رفعة للولي قد يقع لا شك.. ولكن المراد هو إيضاح أن العلماء الأكابر قد تناقلوا هذه الكرامات دون أن يروا فيها مخالفة للشرع، أو يعتقدوا أنها من باب الخرافات التي من شأنها تضليل الأمة والتسبب في تأخرها.
أما عن إتهام المسلمين في عقيدتهم بسبب ما يجري عند قبور الأولياء كما يقولون، ولو أن المتكلمين في هذا الأمر لا يذهبون إلى قبور الأولياء ولا يرون ما يجري هناك فبينهم وبين الأولياء جفوة تمنعهم من مودتهم أو زيارتهم.. واتهام بأن المسلمين يذبحون لغير الله، والله بريء من هذا، فهل سمعنا بموحد يذكر غير اسم الله على ذبيحته، إني أزور الصالحين والأولياء منذ نعومة أظافري ولم أر أحدًا يذبح ويطعم إلا هو يقصد التقرب لله سبحانه.
أما عن النذر لغير الله، فإن النذر لغير الله حرام وباطل، ولا يجوز الوفاء به، أما ما يجري على لسان العوام فهو من جنس ما جاء في الأثر على لسان سيدنا سعد أنه اشترى بئرًا وجعلها لأمه بعد موتها، وقال هذه لأم سعد، فإنما يقصد بها وهب الثواب لها.. فإما أن يحمل كلام الناس على هذا المعنى أو أن  يحمل على أنهم نذروا لله سبحانه وأوقفوا الطعام من هذه الذبيحة أو هذا النذر على الفقراء المجاورين لولي بعينه.. فإن قيل لم تئول كلام الناس على هذه المعاني في حين أنه يجري على ألسنتهم ما يوحي بغير ذلك؟
قلت، إن حسن الظن بالمسلمين أولى، وإن لنا من الشواهد من أحوالهم من الشهادة والصلاة والتوجه للقبلة وصوم رمضان وغيرها من الشواهد التي تظهر لنا أنهم من أهل الإسلام، فلا نسارع بتكفيرهم أو اتهامهم بالشرك بلفظ أو فعل، ولا يمنع هذا بل الواجب هو إرشادهم إلى الفعل الصحيح واللفظ السليم.
أما عن التوسل والاستغاثة والقول بأن هذا شرك وهو من باب دعاء غير الله، ففيه نظر، إذ لو سلمنا أن كل نداء أو استغاثة بمخلوق هي شرك لانصرف الكلام إلى الكثير من معاملاتنا التي نستعين فيها ببعضنا البعض، وهذا لا يقول به أحد، إذ إنهم لا يرون أن في الاستغاثة بالأحياء حرج، إذ لهم قدرة واستطاعة، أما الأولياء فهو استغاثة بميت لا يقدر على شيء فهو شرك.
وهنا نقول، أن اعتقاد أهل السنة أن المؤثر في الأشياء هو الله وحده، وأنه هو الذي يعطي ويمنع، يعز ويذل، يرفع ويخفض، فلا قدرة لمخلوق مع قدرة الخالق، وعلى هذا فإن تصحيح فعل المستغيث والمستعين بإنسان حي لمجرد حياة المستعان به فيه نظر، إذ لو اعتقد المستعين النفع أو الضرر في هذا الحي استقلالا عن الله فهذا يكون من باب الشرك والعياذ بالله، وكذلك لو اعتقد الإنسان أن الطبيب أو الدواء هو الذي يشفي بذاته إلى غير ذلك من الأسباب.. فحجة الطعن في العقيدة لمجرد أنهم يرون أن المستغاث به ميت أمر مردود، إذ إن مدار الأمر على الاعتقاد وليس على اللفظ، وفي هذا المعنى يقول التاج السبكي رضي الله عنه:
(إن تصرف الأولياء في حياتهم وبعد مماتهم، إنما هو بإذن الله وإرادته، لا شريك له في ذلك خلقًا وإيجادًا، أكرمهم الله تعالى به، وأجراه على أيديهم وألسنتهم، خرقًا للعادة، تارة بإلهام وتارة بمنام، وتارة بدعائهم، وتارة بفعلهم واختيارهم، وتارة بغير اختيار ولا قصد ولا شعور منهم، بل قد يحصل من الصبي المميز، وتارة بالتوسل إلى الله بهم في حياتهم، وبعد مماتهم، مما هو محكي في القدرة الإلهية، ولا يقصد الناس بسؤالهم ذلك قبل الموت وبعده نسبتهم إلى الخلق والإيجاد والاستقلال بالأفعال، فإن هذا لا يقصده مسلم، بل ولا يخطر ببال أحد من العوام فضلا عن غيرهم، فصرف الكلام إليه ومنعه من باب التلبيس في الدين والتشويش على عوام الموحدين، فلا يظن بمسلم، بل ولا بعاقل توهم ذلك فضلا عن اعتقاده، وكيف يحكم بالكفر على من اعتقد ثبوت التصرف لهم في حياتهم وبعد مماتهم حيث كان مرجع ذلك إلى قدرة الله تعالى خلقًا وإيجادًا).
فليتأمل القارئ كلام هذا الإمام.......................... وللحديث بقية.

الشيخ: أكرم عقيل

التقييم الحالي
بناء على 29 آراء
أضف إلى
أضف تعليق
الاسم *
البريد الإلكتروني*
عنوان التعليق*
التعليق*
البحث