نسخة تجريبيـــــــة
بل هي الكرامة للولاية والأولياء

ختمت المقال السابق بكلام نفيس صدر من عالم جليل وهو التاج السبكي رحمه الله، وهو يبين كيف أن التوسل بالأولياء لا يتنافى مع الاعتقاد بأن الخلق والتدبير والإيجاد والاستقلال بالأفعال إنما هو لله سبحانه وتعالى، وعليه فإن المتوسل بهم المستغيث بعباد الله مع حسن اعتقاده وصحته فهو آخذ بالأسباب معتمد على رب الأسباب.
ولما كنت أعلم أنني لست من أصحاب الرأي أو الفتوى أو الاستنباط، فدائمًا ما أرجع إلى أقوال العلماء وأفعالهم أو إلى الأخبار الواردة عن أسلافنا رحمهم الله، حتى لا يبقى قول إلا لأهل الزيغ المنكرين الذين ينسبون أنفسهم للسلف، ثم لا ينقلون عنهم رأيًا واحدًا، بل يهيمون بآرائهم السطحية وكلامهم  الذي يفيض حقدًا وحسدًا لأولياء الله.
ولقد قرأت لشيخنا الجليل الإمام عبد الحليم محمود شيخ الإسلام رحمه الله في كتابه المدرسة الشاذلية: (لقد قيل لأحد شيوخنا الصالحين الأجلاء: إن فلانًا ينتقد ابن عربي في المجلات، فقال -رضوان الله عليه-  وهل من حق الخنافس أن تحكم على أعمال الأسد؟! إن الخنافس لا تحكم على أعمال السباع، وليس من حقها أن تتحدث فيما تفعله السباع، ومنطقها دائمًا منطق الخنافس).
أما الإمام اليافعي رضوان الله عليه فإنه يقول عن خصوم سيدنا محيي الدين: (إن حكمهم حكم ناموسة على جبل تريد إزالته من مكانه، وتذهب الريح بأمم من الناموس، وتبقى الجبال شوامخ راسيات، بها تثبت الأرض، وبها يحفظ ميزان الدنيا).
انتهى النقل عن الإمام رحمه الله.
وهذا ما نراه حقيقة، نرى أقوامًا لا وزن لهم يتطاولون على الأولياء لمجرد أن عقولهم تريد أن تكون حكمًا على عطاء الله لأوليائه، فيقبلون ما تقبل عقولهم، ويردون ما ترفض عقولهم، بل ولا نكاد نراهم يقبلون منهم شيئًا من فرط حسدهم وحقدهم عليهم. وتمر السنون ويذهب المنكرون أدراج الرياح، ويلقون في مزابل التاريخ، وتبقى الولاية ويبقى الأولياء قممًا شامخة تعجز الرقاب أن تتطاول إليها.
والعجيب أنني كلما قرأت أو سمعت كلام واحد من هؤلاء المتشربين بصبغة الوهابية المتمسحين بعباءة السلفية، والسلف منهم براء، وجدت نفس المنطق العقيم والفهم السقيم يبرز من كلامهم، بل وكذلك وجدتهم يتفقون في التدليس وإخفاء ما يرونه ينقض كلامهم، أو لعله من جهلهم وقلة اطلاعهم.
فلينظر القار الكريم إلى الأخبار التالية، وهي أمثلة لأن المقام يضيق عن حصر جميع الأخبار التي جاءت في هذا الباب وهو باب التوسل والتبرك بالصالحين وبآثارهم:-
- أخرج الخطيب البغدادي بسنده أن علي بن ميمون –رحمه الله تعالى– قال: سمعت الشافعي رضي الله عنه يقول: (إني لأتبرك بأبي حنيفة، وأجيء إلى قبره في كل يوم – يعني زائرًا – فإذا عرضت لي حاجة صليت ركعتين، وجئت إلى قبره وسألت الله تعالى الحاجة عنده، فما يبعد عني حتى تقضى).
- وأخرج الخطيب عن أحمد بن جعفر القطيعي قال: سمعت الحسن بن إبراهيم أبا علي الخلال –وهو شيخ الحنابلة في وقته– يقول: ما همني أمر فقصدت قبر موسى بن جعفر –يعني الكاظم عليه السلام– فتوسلت به إلا سهل الله لي ما أحب..
- وقال الحافظ عبد الغني المقدسي الدمشقي الحنبلي: (خرج في عضدي شيء يشبه الدمل، وكان يبرأ ثم يعود، ودام ذلك زمانًا طويلا، فسافرت إلى أصبهان، وعدت إلى بغداد، وهو بهذه الصفة،  فمضيت إلى قبر الإمام أحمد بن حنبل –رضي الله عنه وأرضاه– ومسحت به القبر، فبرأ ولم يعد).
فانظر إلى تصريحهم بالتوسل والتبرك، وليس الحجة في الشفاء من عدمه، فقد يحصل التوسل ولا يتم الشفاء، ولكن الاستدلال في إقدامهم على التوسل والتبرك وهؤلاء العلماء من السلف أعلم منا بالشرع وأقرب منا عهدًا بالنبي، فأين المتنطعون من هذه الأخبار؟
- كما أخرج الخطيب أن الحافظ أبا عبد الله المحاملي –أحد أئمة الحديث– قال: (أعرف قبر معروف الكرخي منذ سبعين سنة، وما قصده مهموم إلا فرج الله همه).
ونقل الإمام ابن حجر العسقلاني عن الإمام الحاكم في (تاريخ نيسابور)، قال: (وسمعت أبا بكر محمد بن المؤمل بن الحسن بن عيسى يقول: خرجنا مع إمام أهل الحديث أبي بكر ابن خزيمة، وعديله أبي علي الثقفي، مع جماعة من مشايخنا، وهم إذ ذاك متوافرون إلى زيارة قبر علي بن موسى الرضا بطوس، قال: فرأيت من تعظيمه –يعني ابن خزيمة– لتلك البقعة وتواضعه لها وتضرعه عندها ما تحيرنا) ولما سئل قال: (دعوني لما أجد في نفسي لعلي الرضا..).
والحق أن المقام كما ذكرت يضيق بما أمامي من الأخبار التي أود أن أذكرها في التوسل بالأحياء والأموات من الصالحين والتبرك بزيارتهم، وهذا إنما كان مني لدفع التهمة عن أمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في عقيدتهم، فكيف لهؤلاء الناس أن يتهموا الأمة المحمدية أنها تخوض في الشرك ووسائله، وجمهور العلماء المحققين ويتبعهم في هذا جمهور الأمة من العوام والمقلدين يزورون الصالحين ويتوسلون بهم ويتبركون بهذه الزيارة.. فأين المسلمون لو أن كل هؤلاء من السابقين واللاحقين في شتى بقاع العالم الإسلامى مشركون؟ ومن مظاهر التدليس أيضًا الذي تعوده هؤلاء، ومن البدع التي وقعوا فيها أنهم نقلوا هذه المباحث وهي مباحث الزيارة، والتوسل، والتبرك، والنذر، والذبح، من كتب الفقه التي تناقش هذه الفروع للحكم عليها بأحد الأحكام الشرعية الخمسة وهي الوجوب والندب والجواز والكراهة والحرمة، فنقلوها هم إلى مباحث في العقيدة يكفرون بها المسلمين ويتهمونهم في عقيدتهم..
والفرق واضح بين أن نحكم على أحد بفعل شيء محرم أو الحكم عليه بأنه أشرك.
وأعيد وأكرر أن أولياء الله جبال راسية لن تهتز بقول هذا أو ذاك، وإن ظن هؤلاء أنهم سيصرفون بكلامهم واستهزائهم بالأولياء وبكرامات الأولياء الناس عن محبتهم ومودتهم والاعتقاد في صلاحهم فهم واهمون، وإن حدث فلن يصرفوا إلا من هم على شاكلتهم في حسدهم لمن ظهرت عليهم آثار الاصطفاء، أو من كان عبدًا لعقله يعظمه حتى يجعله حكمًا على كل شيء.
وعلى المستبعد لحدوث هذه الكرامات وخوارق العادات لأن عقله لا يقبلها أن يتأمل فيما حوله من أجهزة حديثة من هواتف محمولة وأقمار صناعية وأجهزة اتصالات دقيقة وسريعة لير ما مكن الله للبشر أن يصنعوا، وكيف يمكننا أن ننقل صورًا وصوتًا وكلامًا مكتوبًا أو مسموعًا من هنا إلى هناك، إلى غير ذلك مما يسر الله لعباده وسخر لهم.. وبعد هذا التأمل فليسأل نفسه، إن كان هذا هو عطاء الله لكافة خلقه، فكيف بأوليائه وأصفيائه؟ هل يعجز –وحاشاه أن يعجز– أن يعطيهم ما يفضله به على غيرهم، أو أن يرفع لهم الحجب أو يطوي لهم المسافات أو يخرق لهم العادات؟
وأعود فأقول: بل هي سنة الله فيمن اختص بالعطاء أن يظهر أهل المعاندة والإنكار، ممن حق عليهم البوار، وهذه من علامات ولايتهم، فما أبرز الله وليًّا من أوليائه إلا وأنكر عليه أصحاب القلوب السقيمة والبصائر المطموسة. نسأل الله أن يردهم الى سواء السبيل.
فرضى الله الأولياء أجمعين، ورضي الله عن الإمام الرفاعي، والإمام الجيلاني، وعن أبي الفتيان سيدي أحمد البدوي، وعن شيخنا قطب السالكين برهان الملة والدين سيدي إبراهيم الدسوقي، وعن الإمام الفرد سيدي أبي الحسن الشاذلي، وعنا معهم وبهم يا رب العالمين.
بل هي الكرامة والكرامة والكرامة لأولياء الله.

الشيخ: أكرم عقيل

التقييم الحالي
بناء على 29 آراء
أضف إلى
أضف تعليق
الاسم *
البريد الإلكتروني*
عنوان التعليق*
التعليق*
البحث