وفود عظيمة وأمواج متلاطمة في بحار المحبة عشناها في هذا الأسبوع المنقضي في رحاب الإمام ابن الإمام، والسيد ابن السيد، الشريف ابن الشريف، سيدنا ومولانا أبي عبد الله الحسين.. ذكرى طيبة وسحائب من الصفا والمحبة تمطر على هذه الوفود التي حطت رحالها في رحاب أبي عبد الله الحسين، الوجوه باسمة، ضاحكة مستبشرة، وكيف لا؟ وقد نزلت بخير باب وأناخت مطاياها بأشرف أعتاب، في جوار أهل الكرم والجود، وأهل الوفاء بالعهود، أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
لآل البيت عز لا يزول وفخر لا تحيط به العقول
يكفيكم يا بني الزهراء فخرًا إذا ما قيل جدكم الرسول
وفود من اليمن، وزوار من السودان، وأحباب من فلسطين، وقصاد من الحجاز، جاءوا ليشاركوا أهل مصر فرحتهم وليجددوا محبتهم وعهودهم بالمحبة وموالاة للإمام الحسين ولآل بيت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
ألسنة الحال تقول يا إمام، قد حال بيننا وبينك الزمان، فما استطعنا أن نكون دروعًا تتلقى عنك طعن الرماح، ولا سيوفًا تضرب على أعناق أعدائك وتحول بينهم وبين الوصول إليك.. ولكن قلوبنا تتمنى لو كنا هناك، فلا تصل إليك يد آثمة إلا بعد أن يصيبنا في نصرتك الهلاك.
أمر عجيب أمر هذه المحبة، الأعوام تمر، والقرون تمضي، وحب هؤلاء السادة يسكن القلوب وتهيم به الأرواح.. وكيف لا؟
وهم سادة أهل الجنة، وحبهم فرض من الله، ولا بد لفرض الله من مظهر قائم به في هذا الوجود، وهو علامة الإيمان، فكل مسلم يتمنى أن يرتقي من درجات الإسلام إلى مراتب الإيمان لا بد له من المحبة، المحبة لله ولرسوله ولآل بيت رسوله صلوات ربي وسلامه عليه. إن هذه المحبة هى أثر من آثار النداء الإلهي في الملأ الأعلى، إنب أحب الحسين فأحبوه، فمن غير الحق سبحانه له هذه القدرة على التصرف في قلوب الخلائق عامة وقلوب المؤمنين خاصة فيقلبها على هذه المحبة الخالصة التي ليس من ورائها دينًا ولا شهرة ولا منصب ولا مال ولا جاه، بل من ورائها مودة متجددة متواصلة لمن أمرنا بمودتهم في الكتاب.
تجديد للذكرى، ونعم المذكر الذي نادى في أصحابه ومن وراء الصحب الأمة تتلقى نداءه (أذكركم الله في آل بيتي)، وأي تنبيه هذا وأي تذكير هذا، إن النبي يذكرنا حق الله، وطاعة الله، والصلة بالله التي يجب أن نراعيها في صلتنا بآل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
الحسن والحسين ابنا الطهر خير النساء، زوجت لخير الرجال، سيدة نساء العالمين تتزوج من هارون الأمة، الإمام علي كرم الله وجهه، نفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كمالات تتلاقى، فما الذي ينتج عنها هذه الكمالات؟
الحسن، إن هذا ليس اسمًا ولكنه وصف، والذي سمى لا ينطق عن الهوى، فالذي ينطقه هو ربه، فلما قال ماذا سميتم ولدي؟
قالوا حربًا يا رسول الله، قال صلى الله عليه وآله وسلم بل هو حسن.. ومثلها عند مولد الإمام الحسين فيقول بل هو حسين،
والنبي قد أوتي جوامع الكلم، فأطلق اسما ونطق بكلمة واحدة تحمل في طياتها كل معاني الحسن والجمال الحسي والمعنوي، الظاهري والباطني في وصف هذين الإمامين.. فكل ما امتدح به الإمام الحسين ينطوي تحته اسمه الذي سماه به جده صلى الله عليه وآله وسلم.
في ذكراك يا إمامي، أستحضر هذه المشاهد العظيمة، مشاهد شهد عليها الله وشهدتها الملائكة ونظر إليها أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم. أستشعر مشاهد سمعتها آذاننا رواية في سيرة المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله، فتهافتت إليها قلوبنا وهامت في ذكرها أرواحنا.
النبي صلى الله عليه وآله وسلم يمشي وهو يحمل ابناه الحسن والحسين على كتفيه، أشرف ظهر يحمل عليه هذان الإمامان، فإذا بهذا المشهد يحرك قلب صحابي من أصحاب رسول الله فيقول: نعم المطية أنت يا رسول الله، فيجيبه النبي ونعم الراكبان هما.
مشهدك يا سيدي وأنت تعتلي ظهر جدك خير البرايا وهو في سجوده، وهو أقرب ما يكون إلى ربه وفي حضرة القرب يمهلك جدك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا يعجلك ويطيل سجوده حتى تـنـزل.
مشهدك يا سيدي وأنت تدخل على جدك صلى الله عليه وآله وسلم فتجلس على فخذه وعنده جابر بن عبد الله الأنصاري، فيقول له النبي يا جابر يولد لهذا غلام يدعى علي إذا كان يوم القيامة ينادي منادٍ من بطنان العرش: أين زين العابدين؟ فيمشي بين الناس.. فكانت بشرى جدك بالإمام السجاد زين العابدين الذي به حفظ نسلكم الكريم.
مشهدك يا سيدي في صباك تصارع أخاك الحسن والنبي يشد من أزر الحسن فتسأل الأم الحنون عن سبب مساندة النبي للكبير على الصغير، فيخبرها صلوات ربي وسلامه عليه وآله أن جبريل ينظر إليهم ويشد من أزر الحسين.. الله الله يا سيدي يؤيدك الروح القدس، ويساندك الملأ الأعلى فأنت الإمام المؤيد عليك وآلك السلام.
وتمر السنون فإذا بالصبي قد صار إمامًا، يحمل في قلبه مواريث آل بيت النبوة، إن بقية مما ترك آل موسى وآل هارون جاءت في تابوت تحمله الملائكة آية من الله، فكيف بكم يا سيدي، يا بقية النبوة، ويا معدن الفتوة.
وتخرج يا سيدي نصرة لدين جدك، فقد تبدلت سنته وصار الحكم مُلكا بعد أن كان شورى، ونقض بنو أمية عهدهم مع أخيك الحسن، فجعلوها ميراثًا سار من معاوية إلى يزيد.. فهل تبايع؟ هل ترتضي؟ هل تداهن؟
هيهات هيهات، أعلنتها يا إمام صريحة (إن مثلي لا يبايع مثله)، وهاهو عبد الله بن عباس يحاول أن يثنيك عن الخروج خوفًا عليك، ولكنك قد بشرت بالشهادة، فكم كان جدك يُقبلك من عنقك، نعم يقبل هذا النحر الذي يقدم فداءً لدين الله، كما كان يقبل أخاك الإمام الحسن من فمه، فمات عليه السلام بالسم.
آه وآه، يا بيت الشهداء، آه وآه يا شهيد كربلاء، نعم الأئمة للدين أنتم، نعم الورثة للنبي أنتم، نعم الأمناء على دين النبي أنتم.
جئنا إلى رحاب الإمام الحسين نجدد عهودًا ومواثيق بالمحبة والموالاة لآل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، عهودًا نسيها كثير من الناس، وغفل عنها أقوام من أمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ومن فضل الله على مصر وأهل مصر أن خصهم بهذا الرباط على محبة آل البيت دون أن ينحرفوا أو ينجرفوا، فرابطوا على محبتهم وحفظوا للأصحاب حقوقهم وحبهم في قلوب المصريين. ما فرطنا في حق آل البيت ولا خضنا مع من خاض في حقهم لا يعرف لهم حرمة ولا يرى لهم قدرًا أو شأنًا.. ولا أفرطنا فجعلنا حبهم داعيًا للانتقاص من أصحاب النبي أهل الهجرة وأهل البيعة وأهل النصرة لله ورسوله.
ومن يحضر في هذه المشاهد، ير حقيقة محبة خالصة صافية، ومن ينظر في هذا الجمع يجد أن القلوب على عهدها وعلى مودتها وعلى محبتها لآل البيت، بل إذا رأيت واحدًا من هذا النسل الكريم ونظرت إلى مكانه ومكانته بين الناس، رأيت مظاهر التبجيل والحب الخالص الذي ليس من ورائه مقصد سوى حب الله وحب نبيه.. فليقل من لا يجد معنى المحبة في قلبه ما يشاء، فإن المحب عن العزال في صمم.. إن فعل المحب مع محبوبه لا يخضع لمقاييس الغير، فالقلب فيما يعشق ويحب له أن يترجم بما شاء، ولكن العازلين يلومون على المحب لأنهم لا يعرفون ما في قلبه تجاه محبوبه.
إني أتيت إلى الحمى متضرعًا أرجو الرضا والعفو ثم السماحا
وهجرت أوطاني وأهل عشيرتي أرى هيامي فيكم إصلاحا
والعازلون تفننوا في لومهم جهلا بوجد ما لي عنه براحا
لما شهدنا النور منكم لائحًا والمسك من أفواهكم قد فاحا
أمسكت سمعي عن كلام عوازلي و غدوت فيكم هائمًا سواحا
يا حاسدي في حبهم روحي لهم قد بعتها وربحت فيها رباحا
عليك سلام الله يا إمام يا ابن الإمام،،