كلمني بعض إخوانى بارك الله فيهم جميعًا عن المقال السابق الذي نشر تحت عنوان (من أين نبدأ إن أردنا الإصلاح) منتقدين عدم الترابط في موضوع المقال، لعلي لم أحسن التعبير عما في ذهني فأردت توضيح الأمر لعل الله أن يوفقني لما يحب ويرضى..
وقد أمضيت هذا الأسبوع وقتًا طويلا أمام شبكة المعلومات (الإنترنت) أتصفح سريعًا المواقع الدينية الإسلامية، من التيارات المختلفة، وأخذت كذلك أسترجع كثيرًا من الكتابات التي تكتب هنا وهناك، وأخذت أنظر هل كنت قاسيًا في الكتابة؟ حيث إنني كما قال لي أحد إخواني انتقدت الكل.
نعم، انتقدت الكل ولكن ليس من باب القسوة ولكن من باب المحبة، فالدين النصيحة، والنصيحة إنما تكون عن حب.
ولقد أحزنني ما رأيت وما اطلعت عليه في المواقع الإسلامية، كثير من الهدم وقليل من البناء.. كل حزب بما لديهم فرحون.. لا يجد أصحاب كل فكر طريقًا لتزكية النفس إلا بتشويه الآخر.. إن أئمة كل فكر يسوقون أتباعهم على طريق الكراهية والشقاق.. فنظرت في مقالي السابق وراجعته وقلت: نعم نحن نحتاج إلى منهج لتربية النفس وتخلصها من الهوى الذي يحكم تصرفات الأفراد والجماعات.
إننا في حاجة إلى منهج إسلامي عملي لبناء الفرد المسلم بناءً علميًّا عقليًّا روحيًّا.. منهج يبين للفرد مهمته وصلته بالخالق والمخلوق، فالمسلم له صلة بالحق سبحانه، صلة العبودية بحقوقها ووظائفها، وصلته بالخلق وهي لا تخرج عن صلته بالحق، فهو بنفعه للناس وخدمتهم وإرشادهم والإحسان إليهم يحقق مقصدًا عظيمًا من مقاصد الشرع. فالمسلم في هذه الحياة صاحب مهمة لا تنتهي إلا بنهاية هذه الدنيا؛ ولذا أرشدنا الحبيب صلوات ربي وسلامه عليه، بل أمرنا إلى الاستمرار في الزرع حتى وإن كانت القيامة تقوم، فمن كان في يده فسيلة فإن استطاع أن يغرسها فليفعل.
ما معنى هذا الكلام؟ إن مهمتنا مهمة إعمار وإصلاح، وهذه المهمة لا تتعلق بزمان أو مكان أو أحوال، ولكنها تتعلق بوجودنا واستطاعتنا.. فطالما أنك موجود وطالما أنك قادر على الغرس وجب عليك ذلك، ولا يتعلق هذا أو يرتبط بحصول الأثر أو تحصيل الثمار؛ ولذا يخبرنا النبي أن هذا الأمر قائم حتى لو قامت القيامة، أي انتهت الدنيا، وفي هذا تربية وتوجيه لنفس المؤمن ليعلم أن الغرس وإن كان يحصل في الدنيا، فإن القلب يجب أن يتعلق بثمار الغرس في الآخرة.. وأن كل عمل للمؤمن لا بد فيه من إخلاص النية لله سبحانه وتعالى.
ولذا فليس في الإسلام عمل ديني وآخر دنيوي كما يظن البعض، فحديث: «إنما الأعمال بالنيات» يبين لنا هذا، فالنية توجه العمل وتجعله للدنيا أو للدين.. فالعبادات التي ظاهرها دين، إذا فسدت فيها النية وصارت للشهرة أو لمكانة بين الناس فقد صارت أعمالا دنيوية لا أجر عليها عند الله، بل يسقط بها العبد من عين الله. والأعمال التي ظاهرها دنيا إذا قصد بها وجه الله كالسعي على الرزق وإعمار الأرض بفنون العلوم المادية مما ينفع الناس يكون فيه القرب والرضى من الحق سبحانه وتعالى.
ولذا وحتى يدرك المسلم مهمته وحتى يخلص نيته كان لا بد من منهج لتربية مسلم سليم العقل، سليم القلب، زكي النفس.
ولكن ما علاقة هذا الكلام بما بدأت به مقالي السابق من الحديث عن مبادرة الشيخ محمد بن راشد في مجال التعليم، وعن صندوق الاستثمار الذي أسس تحت رعاية مفتي الديار د. علي جمعة حفظه الله ليعمل في مجال الصحة.
العلاقة التي أردت أن أشير إليها هي أن الأفراد هم الذين يتناولون هذه المبادرات بالتفعيل والتنفيذ، وهم الذين يضعون الآليات التي من خلالها تؤتي هذه المبادرات ثمارها..
إن الأفراد من النخبة أصحاب الأقلام والقائمين على وسائل الإعلام هم الذين يستطيعون أن يدعموا هذه المبادرات ويجعلوها تتحول إلى قضايا رأي عام أمام المجتمع تتضافر من أجل تحقيق ثمارها جهود الراعي والرعية..
إن الفرد هو اللبنة التي يجب أن تعرف كيف تختفي بين غيرها من اللبنات، فلا يعرفها أحد مع كون دورها أساسي في تماسك الجدار، يعني أنه خارج الجدار لا قيمة له، بل لعله يكون ضارًّا فيتعثر فيه أحد المارة، أو يقذفه طفل فيصيب به آخر.
وهذا ما أردت أن أشير إليه في مقالي السابق، مبادرات تطرق قضايا حيوية تمس حياة الأمة بل حياة الناس كلها، وتيارات تتصارع، كل منها يظن أنه هو الحق المطلق، ولِمَ لا وهو المتحدث باسم الدين والدين هو الحق.
ولم يفرق هذا أو ذاك بين الدين وبين فهمه هو للدين وتفسيره هو لهذا الدين.. نعم، إن النص معصوم، ولكن عقولنا في فهم النص ليست معصومة.. إذا فهمنا ذلك كان هذا بداية للحوار، وكان مدخلا لأن نسمع ولأن نتلاقى، فقد أجد عند غيري فهمًا أرقى من فهمي، وقد يجد غيري عندي فهمًا أصح من فهمه.. وبعد هذه التيارات نجد أفرادًا يتخبطون ولا يعرفون أين يذهبون أو كيف يسيرون. فمن الذي سيتلقى هذه المبادرات ليقوم عليها ونحن نحمل معاول الهدم لكل ما يبنيه من ليس على مذهبنا..
من الذي سيسقي هذا الغرس، إن كانت الفئوس في أيدينا لقطع كل ما ينبت إن غرسه المخالف لنا.
إن انتماء الفرد إلى جماعته أو فكره أصبح أقوى من انتمائة إلى أمته أو بلده.. إننا نعود إلى النـزعة القبلية ولكن بشكل آخر إلا أن أثره واحد وهو الفرقة والشقاق.
أي حوار نريد أن نقيم مع الآخر إن كان الحوار بيننا غير قائم، وإذا قام فهو يتحول إلى سباب وطعن في العقائد، ويهبط إلى مستوى الإسفاف الذي لا يليق بمسلم أو بإنسان.
وأنهي مقالي المتواضع بقصة بسيطة قصها على أحد الأفراد من الذين كانوا يعيشون في إنجلترا، حيث أرسل طفله إلى دار حضانة قبل أن يبلغ سن الدخول إلى المدرسة.. ومرت شهور وجاء موعد لقاء أولياء الأمور، وكان الوالدان قد لاحظا أن طفلهم لم يتعلم شيئًا من القراءة أو الحساب طوال الشهور السابقة، فما كان من الوالدين إلا أن سألا أثناء هذا الاجتماع عن سبب ذلك، وهل هناك مشكلة في التلقي عند طفلهم.
فجاءت الإجابة كالتالي، سيدي إن الطفل في هذا السن لا نعلمه إلا الآتي، كيف يقول: (من فضلك)، وكيف يقول: (عفوًا)، وكيف يقول: (أنا آسف) إذا أخطأ، وكيف يؤدي مهامًّا محدودة من خلال التعاون مع مجموعة أخرى من زملائه.
أخي القارئ، انزل إلى الشارع، واعترض على أي سلوك خاطئ تراه، ثم أخبرني كم من الذين اعترضت عليهم سيقول لك: (أنا آسف)!! كم منا يشعر بأهمية كونه فرد في مجتمع.. يحتاج هو إلى المجتمع كما يحتاج مجتمعه إليه..
الأمر يحتاج إلى منهج تربية وتزكية.. لن نبني الجدار طالما أن اللبنة غير سليمة.